مفهوم الديمقراطية ونظمها

Last Updated: 2024/04/26By

مفهوم الديمقراطية ونظمها

د. علي المؤمن

يعود تاريخ الفكر الديمقراطي وتطبيقاته الأولى إلى المدن اليونانية القديمة، مثل أثينا وأسبارطة، التي تم فيها اختبار نوع من أنواع الديمقراطية، وهي الديمقراطية البدائية. وقد اشتقت الكلمة من اللغة الإغريقية، وتتكوّن من مقطعين: ديموس (Demos) بمعنى الشعب، وكراتوس (Kratos) بمعنى حكم، فيكون المعنى العام للكلمة «حكم الشعب». وبذلك فإن مفهوم الديمقراطية يتسع لكل فكر سياسي، يعتمد الشعب مصدراً للسيادة وقاعدة للسلطة والتشريع.

وبعد قرون طويلة، اختفت خلالها الديمقراطية كنظرية وتطبيق، عادت إلى الظهور مع الثورتين الأمريكية (1783) والفرنسية (1789)، وتم اعتمادها في الولايات المتحدة الأمريكية بعد نجاح ثورتها، فيما بدأت بالانتشار ببطء في أوروبا، حتى باتت المذهب السياسي السائد في أوروبا الغربية بعيد الحرب (الاستعمارية) العالمية الثانية. وهي التي عرفت بالديمقراطية الغربية أو الديمقراطية التقليدية، والتي تطور مفهومها لتصبح – نظرياً – حكم الشعب بالشعب ومن أجل الشعب، واستناداً إلى قاعدة اعتماد السلطة (بكل فروعها) أداة يحكم الشعب من خلالها نفسه، ويعبّر فيها عن إرادته وسيادته.

وقد ساهم في إثراء مفهوم الديمقراطية وتطويره، كثير من المفكرين السياسيين الغربيين، كل بحسب رؤيته وفهمه، وعبر عقود طويلة من الزمن أصبح للديمقراطية مفهوم واسع فضفاض، وإطار يجمع في داخله تيارات فكرية وسياسية، تتفق على الخطوط العامة وتختلف في كثير من التفاصيل. إلا أن الديمقراطية الحديثة على مستويي النظرية والتطبيق، تبلورت بمرور الزمن في الديمقراطية الحديثة (التقليدية) السائدة في الغرب، والتي استحالت ثقافة عامة وفضاءً فكرياً ونظاماً سياسياً – اجتماعياً، يقوم بتنظيم المجالات العامة للحياة، من خلال التشريعات التي يصدرها ممثلو الشعب، ثم يراقبون السلطة التنفيذية في التزامها بهذه التشريعات، بالصورة التي تضمن للشعب كرامته وحق تقرير مصيره، وممارسته لإرادته وحريته، وهو ما يعبّر عنه بعض الباحثين بـ«الشعب الحاكم». ومن الحقوق والحريات السياسية التقليدية لهذا الشعب: حرية التعبير والرأي، حق إنشاء التجمعات والأحزاب، حق التصويت والترشيح لانتخابات مناصب الدولة.

ويعد “مونتسكيو” و”روسو” أهم من أسس للديمقراطية الحديثة ونظّر لها، إذ ابتكر “مونتسكيو” (1689 – 1755) مبدأ كون الشعب هو صاحب السيادة ومصدر شرعية الحكم، فيما شرح “روسو” (1712 – 1778) المبدأ وأرجعه إلى الشعب كله، بحيث يكون عدد المواطنين الحكّام أكثر من المواطنين العاديين. وهو ما عرف بـ«الديمقراطية المباشرة» التي لم تجد لها أرضية للتطبيق؛ بسبب عدم إمكانية أن يكون الشعب كله حاكماً. واشترط “روسو” – ضمناً – أن يتفق الشعب فيما بينه على أن تحكمه الديمقراطية، أي أن يحكم نفسه بنفسه، وهو (اتفاق الشعب) أحد ضوابط «العقد الاجتماعي» الذي نظّر له. وكان للفيلسوف الألماني “أمانويل كانت” (1724 – 1804) مساهمة مؤثرة في دعم القيم الديمقراطية، من خلال فلسفته الأخلاقية التي أكد فيها مفهوم الكرامة الإنسانية، باعتبارها قيمة أخلاقية تدعو إليها الديمقراطية.

ويلخص الباحث الفرنسي المعاصر “موريس دوفرجيه” ما وصل إليه مفهوم الديمقراطية بعد التطوير الكبير الذي ظل يدخل عليه خلال قرنين ونصف من الزمن، فيقول: إن الديمقراطية هي النظام الذي يختار فيه المحكومون الحاكمين عن طريق العملية الانتخابية الحرة. وقد طوّر فلاسفة السياسة وعلماء القانون نظرية الانتخاب (التمثيل)، فبات بموجبها يعطي الناخب المنتخب وكالة يتكلم المنتخب بواسطتها باسم الناخب ويتصرف نيابة عنه، وبالتالي يكون البرلمان نائباً للأمة في تمثيل السيادة القومية. وتكاد تكون الانتخابات الوسيلة الوحيدة التي تستخدمها الديمقراطية في الوصول إلى السلطة أو مناصبها الأساسية، على اعتبار أنها الضمانة الوحيدة لحكم الأكثرية أو انتخاب من يمثل الأكثرية، في مقابل الوسائل الأخرى التي لا تقبل بها الديمقراطية، كالوراثة والاستخلاف والانقلاب (وكل أشكال العنف) وغيرها، بيد أن المفكرين السياسيين الغربيين ظلوا يسوغون مثل هذه الوسائل كغيرها من الممارسات التي تتعارض وروح الديمقراطية في ما لو حدثت في أوروبا الغربية أو كانت جزءاً من النظام الاجتماعي – السياسي لبعض دولها، ويضفون عليها صبغة ديمقراطية، لشرعنتها وإقناع الناس بإمكانية إيجاد باب لها في الفكر الديمقراطي، الأمر الذي يؤكد قابليته على استيعاب ألوان متنوعة من الأفكار والممارسات والثقافات. ومن هنا، فإن كثيراً من الأنظمة التي تعتمد مذاهب فكرية وسياسية وآليات في إدارة السلطة مختلفة ومتباينة، تصنّف نفسها في دائرة الأنظمة الديمقراطية، ومثال ذلك بعض الأنظمة الشمولية والوراثية والعسكرية وأنظمة الحزب الواحد.

رغم التأثيرات التي تتركها الديمقراطية على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي إلا أنها تبقى مذهباً سياسياً، وهي تهدف إلى تحقيق أهداف سياسية محض؛ والحقيقة أن الديمقراطيات التقليدية تعد الركن السياسي في مربع النظام الاجتماعي الغربي، أما ركنها الاقتصادي فيتمثل في الرأسمالية، وركنها الفكري في العلمانية، والاجتماعي في الليبرالية. ولا يمكن للديمقراطية أن تقوم بدورها وتحقق أهدافها بالمستويات التي نظّر لها المفكرون السياسيون الغربيون من دون التكامل مع الأركان الأخرى المذكورة (الرأسمالية، العلمانية، والليبرالية)، لأن بعضها يكمل بعضها الآخر، ولا سيما الليبرالية، التي تمثل فضاءً عاماً للنظام الاجتماعي الغربي، فمن خلالها تتحقق الحريات الفردية أو الاجتماعية والفكرية والعقيدية والاقتصادية والسياسية، الأمر الذي يفرض التوقف عندها؛ لتحقيق فهم علمي أعمق للديمقراطية، ويذهب الباحث الأمريكي “ماكفيرسن” إلى «أن الليبرالية كانت تعني دائماً تحرير الفرد من القيود البالية للمؤسسات التقليدية. وعند ظهور الليبرالية كليبرالية ديمقراطية أصبح ذلك مدعاة لتحرير كل الأفراد على قدم المساواة؛ ولتحريرهم من أجل الاستعمال الكامل لقدراتهم الإنسانية وتنميتها. ولكن مادام يوجد اقتصاد الندرة، فكان يبدو للديمقراطيين الليبراليين أن الوسيلة الوحيدة لبلوغ ذلك الهدف تكون من خلال إنتاجه رأسمالية المشروع الحر».

والليبرالية نزعة فلسفية وفكرية ومذهب اجتماعي، يحتوي على مجموعة من المثل والقيم والنظم. ولا تترعرع الليبرالية إلا في مناخ رأسمالي اقتصادياً وديمقراطي سياسياً، لأنها تدعو إلى الحرية الكاملة في المجالين الاقتصادي والسياسي، وتدعو إلى التعددية واحترام أفكار الآخرين واتجاهاتهم وسلوكياتهم على الصعد الفكرية والسياسية والتنظيمية. وترى الليبرالية أن تحقيق الاستقرار والتوازن الاجتماعي لا يتم إلا عبر إطلاق العنان للمنافسة بين أصحاب رأس المال في دائرة الاستثمارات والمبادرات والمشروعات، وكذلك بين السياسيين وتنظيماتهم في الطريق إلى السلطة. فضلاً عن إطلاق حرية الأفكار بمختلف ألوانها، وإن كانت تتعارض والاتجاه السياسي لغالبية المجتمع ومعتقداته الدينية والايديولوجية، ويتبع ذلك إطلاق يد المشرّع (البرلمان) ليقنن ما شاء دون محددات دينية أو فكرية أو سياسية أو عرفية. ولا شك في أن هذا المستوى من الحرية الاقتصادية والسياسية والفكرية، أشعر النظام الاجتماعي الغربي بنوع من الانفلات الذي يؤدي إلى عدم احترام حقوق الآخرين وحرياتهم، وبالتالي الإخلال بالنظام الطبيعي، الأمر الذي دفع بعض المفكرين الغربيين إلى الدعوة لتجاوز أفكار القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، والمتمثلة بـ«الليبرالية التقليدية» واستبدالها بـ«الليبرالية الجديدة» التي تسمح للدولة وسلطتها بالتدخل لتنظيم الحريات وعملية التنافس في إطار القانون، ومن ذلك السيطرة على المشروعات الاقتصادية الكبرى والثروات الوطنية. إلا أن هذا التدخل يبقى في حدوده الدنيا، أي بالمقدار الذي تتم فيه المحافظة على توازن النظام العام. وقد اعتمدت الليبرالية التقليدية أفكار ونظريات مجموعة من المفكرين الاقتصاديين والسياسيين الغربيين، مثل: الفرنسي “جان باتيست ساي” (1767 – 1832) “آدم سميث” (1723 – 1790) و”جون ستيوارت مل” (1806 – 1873)، فيما يعد الكاتب الأمريكي “والتر ليمان” (1889 – 1974) مؤسساً لفكر الليبرالية الجديدة.

وبرغم المفهوم الشائع للديمقراطية، إلا أنها تنقسم وفقاً لرؤيتها موضوع تمثل الشعب في السلطة – والذي يتجسد فيه حكم الشعب – إلى ثلاثة أنواع:

1 – الديمقراطية المباشرة:

ويقوم فيها الشعب بمهام السلطتين التشريعية والتنفيذية بنفسه ودون واسطة، أي إن الشعب لا ينتخب ممثليه في السلطتين التشريعية والتنفيذية، بل يمارسها بنفسه، إذ يسنّ التشريعات ويطبقها. وهذا النوع هو الأساس الذي قام عليه مفهوم الديمقراطية بأصوله الإغريقية (نظام الدولة – المدينة) ثم بلور صيغته الجديدة المفكر الفرنسي “جان جاك روسو”، فمفهومه حول انبثاق النظام السياسي والذي عرف بـ«العقد الاجتماعي» مبني على أساس الديمقراطية المباشرة، ووفقه تقوم الحكومة الديمقراطية على قاعدة الاتفاق والتراضي والعقد بين أفراد الشعب من جهة، وبين أفراد الشعب والشخص أو الأشخاص (الموظفين) الذين يمنحونهم حق إدارة الحكم من جهة أخرى، وهم السلطة التنفيذية. وهذا النوع من الديمقراطية ليس له مصداق خارجي في الوقت الحاضر؛ لاستحالة تطبيقه.

وقد ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية في ستينات القرن الماضي أصوات تطالب بالمشاركة الحقيقية للمواطن في الحكومة وقراراتها، في محاولة للعودة إلى حقيقة الديمقراطية وجوهرها، بعد أن أصبحت مشاركة الشعب في السلطة تتم عبر الحكام الذين ينتخبهم. وقد عرف ذلك النموذج من الديمقراطية بـ«الديمقراطية المبنية على المشاركة»، وهي تحاول التشبه بشكل أو بآخر بالديمقراطية المباشرة. وبرغم أن الحركات العمالية والطلابية التي بلورت هذا النموذج استطاعت في أوساط العقد المذكور دفع حكومة الولايات المتحدة إلى تبني جزء من برنامجها، بهدف تحقيق قدر أوسع من المشاركة الملموسة للمواطنين وأعضاء الجماعات المختلفة في الحياة السياسية.

2 – الديمقراطية غير المباشرة:

وفيها ينتخب الشعب ممثليه ليكونوا وكلاء أو نواباً عنه في السلطة التشريعية، كما ينتخب انتخاباً مباشراً أو غير مباشر مسؤولي السلطة التنفيذية، مع احتفاظ الشعب بحقه في محاسبة السلطات والاعتراض عليها، وتقرير المسائل الرئيسة عبر الاستفتاء، وحق الاقتراع الشعبي، وهي مظاهر الديمقراطية شبه المباشرة الكاملة. ويوجد نموذج للديمقراطية شبه المباشرة، وهي الجزئية، وفيها يمتلك الشعب حق إقالة النائب وحق حل البرلمان وعزل رئيس الجمهورية، من خلال آليات تسمح للسلطتين التنفيذية والتشريعية بمراقبة إحداهما الأخرى وتطبيق الحقوق المذكورة، باعتبار أن كلاهما يمثل الشعب. وهذا النوع من الديمقراطية يتبناه كثير من الحكومات الديمقراطية.

3 – الديمقراطية النيابية:

وفيها ينتخب الشعب نواباً عنه لمدة معينة لتولي السلطة التشريعية، دون أن يتدخل مباشرة في تعيين السلطة التنفيذية، ودون أن يتمتع بحق محاسبة نوابه وحق إقالتهم وحق الاستفتاء العام؛ لأن البرلمان (مجلس نواب الشعب) هو الذي يمثل سلطة الشعب وإرادته، ولا يمثل فقط من انتخبوه، ويكون النواب بعد انتخابهم مستقلين عن إرادة الناخبين وغير ملزمين بآرائهم وتعليماتهم. وهذا النوع من الديمقراطية له تطبيقاته الواسعة في كثير من الدول التي تحكمها أنظمة ديمقراطية، وهو قريب مما عرف في الغرب بـ«الديمقراطية التوازنية» التي سادت ابتداءً من منتصف القرن الميلادي الماضي. ويطلق بعض الأدبيات السياسية الغربية على هذا النموذج: «النموذج النخبوي التعددي»، فالمجتمع التعددي هو الذي تلائمه الديمقراطية التوازنية، ويعتبر نخبوياً، لأنه يعطي لمجموعة قليلة من القادة الدور الرئيس في العملية السياسية. أما المراد من التوازنية فهو محافظة هذا النموذج على التوازن بين العرض والطلب في العملية السياسية.

ويفترض النموذج التوازني هذا أن الديمقراطية هي آلية لاختيار السلطة وتحويلها من قبل الشعب للحكومة، أي إنها ليست قيماً أخلاقية ولا تمثل نوعاً من المجتمع. وآلية العملية الديمقراطية تتمثل بتنافس مجموعتين أو أكثر من السياسيين (القادة – النخبة) المنتظمين في أحزاب سياسية؛ للحصول على الأصوات التي توصلهم إلى السلطة.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment