هوية الشيعي بين المذهب والقومية والوطن

Last Updated: 2024/04/26By

هوية الشيعي: بين المذهب والقومية والوطن

د. علي المؤمن

تعدّ الأسئلة حول موقف المسلم الشيعي من انتماءاته المتنوعة، وخاصة ما يتعلق بإشكالية التوازن بين انتمائه القومي وانتمائه الوطني وانتمائه لمنظومته الدينية الاجتماعية؛ من أكثر الأسئلة البحثية الموضوعية واقعيةً وأهميةً وحساسيةً، والتي ظل الباحثون والسياسيون والإعلاميون والمثقفون، المتدينون وغير المتدينين، يتداولونها منذ العام 1979 وحتى الآن. وهذا لا يعني أنّ الموضوع لم يكن متداولاً قبل هذا التاريخ؛ لكنه ازداد أهمية وواقعية خلال العقود الأربعة الأخيرة.

إنّ الإنسان الشيعي، ككل البشر المتحضرين، له هوية مركبة ومتعددة؛ تتألف من عدد من العناصر، أهمها عنصران، هما الوطن الذي يحمل جنسيته، والوطن الذي انحدر منه، وعنصر «النظام الاجتماعي الديني الشيعي» العالمي، الذي يلخص عدداً من الانتماءات المتداخلة، كالإسلام والتشيع والمرجعية الدينية المتصدية وولاية الفقيه والمرجعية التي يقلدها والمجتمع الشيعي المحلي. وهناك عناصر فرعية أُخر للهوية الشيعية، كالقومية والقبيلة والعشيرة والأسرة والمدينة والجماعة السياسية. وهذه التبعية المركبة ليست عملية معقّدة، إنما الذي يعقّدها هي الدعاية المخاصِمة، التي تحوِّلها الى تهم وشبهات ضد الشيعة وضد نظامهم الاجتماعي الديني. والهوية المركية هي سمة جميع المجتمعات المتحضرة في العالم، بينما تتسم المجتمعات البدائية المنعزلة بامتلاكها هوية إنسانية بسيطة، كبعض القبائل الأفريقية وسكان غابات الأمازون ومحميات الهنود الحمر والبوشمن. وكلما ارتفع منسوب التحضر والتعقيد في وسائل العيش، ارتفع عدد العناصر المشكلة للهوية، وتراكمت القواعد المؤلفة للمجتمع، وباتت أكثر تعقيداً وتقعيداً.

ومن الطبيعي أن ينتمي الإنسان الى وطن أو دولة معترف بها دولياً، وهناك من ينتمي الى أكثر من دولة، كما ينتمي الإنسان إلى عقائد، سواء كانت أديان أرضية أو سماوية أو أفكار غير دينية، وإلى عقائد فرعية، أي مذاهب وفرق، وإلى عقائد متشعبة عن العقائد الفرعية، كالجماعات والمدارس الدينية الاجتماعية والفكرية، والى جماعات نسبية، كالسلالات البشرية ثم الأعراق ثم القوميات ثم الشعوب ثم القبائل ثم العشائر ثم الأسر ثم البيوت، والى مؤسسات وظيفية، والى جماعات سياسية، كالأحزاب والمنظمات والتيارات، والى جماعات ثقافية وسلوكية وغيرها من عناصر تأليف الهويات.

ولعل من أهم ميزات الإسلام هو أنه جعل هوية المسلم مركبة، بعد أن كانت أحادية عادة، هي الهوية القبيلية، بينما وضع الإسلام انتماء غالباً أو أعلى أو متفوقاً جديداً، هو الانتماء الى العقيدة، وفي الوقت نفسه لم يتنكر الإسلام الى انتماء المسلم الى القبيلة والى مسقط الرأس ومكان السكن (الموطن)، وحبهم والاعتزاز بهم والدفاع عنهم؛ فبات الإنسان المسلم يوصف بهويته المركبة: مسلم، شيعي، إثني عشري، عربي، قرشي، هاشمي، علوي، عراقي، كوفي، وكلها انتماءات مشروعة وطبيعية، ومن حق الإنسان الانحياز إليها، رغم تعددها. ولكن؛ يبقى أن تقديم إحداها على الأخرى في سلم الأولويات، يعود الى طبيعة مرجعية الإنسان وفهمه، والى طبيعة الظرف؛ فمثلاً بقي بعض المسلمين ينزعون الى القبيلة، ويقدمونها على الدين، وآخرون يقدمون المضرية على الدين، أو العروبة على الدين، بينما كان المسلم الحقيقي هو الذي يتعامل بتوازن مع هذه الانتماءات، ويعي كيف يدير عناصر هويته المركبة، ولا يتركها لقمة سائغة للدعاية الجاهلية أو السلطوية؛ الأمر الذي يتسبب في حالة عميقة من الإرباك الفكري والنفسي، وصولاً الى الوقوع في شرك الانحراف.

ويحظى كل عنصر من عناصر تشكيل الهوية بأهميته وحجم تأثيره في الهوية، وكذا أولويته وتقدمه وتأخره لدى كل إنسان وجماعة ومجتمع، وفق خصوصية كل موضوع؛ إذ لا يوجد – عادة – عنصر مطلق في الأولوية والشمولية والتقدم، بل أن الأولوية والشمولية والتقدم نسبيين. ولكن؛ على مستوى التوصيف العام، يمكن القول إنّ سلم أولويات العناصر المشكلة للهوية الإنسانية المركبة، خاضع للعقيدة والفلسفة والرؤية الحياتية التي يؤمن بها الإنسان والجماعة والوطن؛ فهناك من يقدم الدين على الوطن والمذهب والقومية والحزب والعشيرة والمدينة، وهناك من يقدم الوطن على الدين والمذهب والحزب، وهناك من يعد المذهب هو التجلي الحقيقي للدين؛ فيذكر المذهب ولا يذكر الدين، ويضعه في مقدمة العناصر المؤلفة لهويته، ويعده العنصر الأهم، وهناك من يعد القومية هي العنصر الأهم، وهكذا. فإذا كان متديناً وإسلامياً؛ فإنه يقدم عنصري الدين والمذهب على كل شيء، أو يكتفي بعنصر المذهب فقط؛ فيكون ـــ مثلاً ــ شيعياً ثم عراقياً ثم عربياً، وإذا كان قومياً؛ فإنه يقدم عنصر العرق والقومية على الوطن والدين والمذهب؛ فيكون – مثلاً – عربياً، ثم عراقياً وشيعياً، ولعل بعضهم يقدم عنصر المذهب على الوطن في حين إذا كان يعتد بالوطن أكثر من المذهب والقومية؛ وصف نفسه بأنه لبناني عربي شيعي أو بحراني شيعي عربي.

ومن الطبيعي أن يكون كل إنسان وفياً لمبدئه في تحديد أولويات عناصر هويته، شرط أن لا يتعارض ذلك مع تمسكه بانتمائه السياسي لبلده كضابط أساس، وهو ما قاربه الفقهاء من الناحية الشرعية، حتى بالنسبة للبلدان غير المسلمة؛ فالشيعي المتدين، سواء كان متديناً تقليدياً أو كان متديناً إسلامياً؛ فإنه يقدم انتماءه الى عقيدته الدينية الشيعية بكل تفاصيلها، وما تفرزه من اجتماع ديني يتجلى في النظام الديني الاجتماعي، الذي تقف على رأسه المرجعية الدينية العليا أو مرجعية الولي الفقيه، لأنه يعد عقيدته هذه هو العنصر الأساس والأول لهويته، وهي مدخله الدنيوي لبلوغ رضا الله وآل البيت، وكما يقول هذا الشيعي المتدين؛ فإن الله لا يسأله يوم القيامة عن جنسيته وقوميته وحزبه وعشيرته، بل يسأله عن تمسكه بتعاليم القرآن والرسول ومدرسة آل البيت في النظرية والعمل، وبالتالي؛ فإن الانتماءات الفرعية هي مجرد انتماءات قسرية لا دخل ولا فخر للإنسان في اختيارها غالباً.

وبالتالي؛ لا يوجد ما يتعارض بين انتماء الشيعي سياسياً لبلده، وانتمائه العرقي لقوميته، وانتمائه الاجتماعي لعشيرته وأسرته، وبين انتمائه العقدي الاجتماعي للتشيع والنظام الاجتماعي الديني العالمي؛ فكلها عناصر طبيعية، وكذلك لا يوجد تعارض بين وطنية الشيعي من جهة، وشيعيته العالمية من جهة أخرى، وهو يستطيع التوفيق بينهما، ولكن؛ ليس توفيقاً عشوائياً ارتجالياً، بل على أساس ما يفرضه القرآن وسنة الرسول وآل بيته وفتاوى المرجعية الدينية. والحال؛ إن التعارض بين الانتماء للوطن وحبه وحب أبنائه من جهة، والانتماء للدين والمذهب وحب أبنائه من جهة أخرى؛ هو تعارض مصطنع، ولا يستقيم مع التعدد الطبيعي لانتماءات الإنسان وهويته المركبة.

فأبناء العراق أو لبنان أو إيران أو باكستان أو البحرين- مثالاً- يوحدهم تراب الوطن وسماءه وخيراته وجنسيته ومصيره المشترك، ولا تعارض بين وحدتهم بكل طوائفهم وقومياتهم وأفكارهم، على أساس الجنسية والقانون ومبادئ العيش المشترك والمصالح من جهة، وبين وحدة المسلمين على أساس الثوابت الدينية، أو وحدة شيعة العالم في إطار مذهب أل البيت، وحبهم لبعضهم ودفاعهم عن بعضهم، وهو ما تدل عليه عشرات الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والإمامية.

وهناك ايديولوجيات متعارضة مع العقيدة الإسلامية، تحدد أولويات مغايرة في هوية المسلم، وهي ايديولوجيات تكفيرية إقصائية، رغم انتماءاتها الفكرية المتضادة، وادعاء بعضها الانتماء الى الفكر الديني والآخر الى الفكر الإلحادي، ولعل أبرزها الأيديولوجيات الأربع التالية:

1- ايديولوجيا حزب البعث العنصرية الطائفية، وهي كغيرها من العقائد العنصرية، تجعل من العنصر القومي معياراً للتفاضل المطلق، وتخلق من القومية آلهة تعبد، من أجل أن يستطيع الحاكم تمرير طغيانه وسلوكياته بذريعة الوطن والوطنية والقومية، ويستعبد الشعب تحت رايتها. ولاتزال هذه الايديولوجيا بفعل دعايتها وإعلامها وحراكها في المحيط العراقي والعربي، تمارس أبشع أنواع التضليل في هذا المجال.

2- الايديولوجيا الوهابية السعودية التكفيرية، وهي امتداد للعقيدة الأموية، التي تمزج بين عنصرين: العقيدة الدينية التكفيرية الإقصائية الخاصة، والعقيدة القبيلة؛ إذ تفرض سلطتها التكفيرية القبلية على الآخرين باسم الوطن الشرعي والدين. وتمارس في إطار هذه العقيدة تستهدف ضرب المسلمين عموماً، بوصفهم منحرفين، وضرب الشيعة خصوصاً، بوصفهم كفار وأشد خطراً من اليهود، كما تمارس دعاية فتنوية لضرب المسلمين ببعضهم والشيعة ببعضهم، وفصل مساراتهم، من خلال مفاهيم ومصطلحات تحريفية تخريبية.

3- الايديولوجيا العلمانية الغربية، التي تفصّل مقولات السياسية والقانون على مقاساتها، وتفرضها على كل البشر، بمن فيهم البشر الذين يختلفون معها في عقيدتهم وتاريخهم ومناخاتهم الاجتماعية التراكمية. ومن أبرز مخرجاتها الفكرية ما عرف بالدولة القومية أو الوطنية، والتي تنزع عن الدولة والمواطن أية صفة عقدية، وتجعله ينتمي الى الجنسية فقط، أي جنسية البلد الذي يحمله، وينصره في كل الأحوال.

4- الأيديولوجيا الماركسية، وهي التي ترفض أي انتماء عقدي ديني، وأي انتماء للوطن، وتلخص الهوية الإنسانية بالهوية البروليتارية العمالية العالمية، وحاكمية الطبقة العمالية المنتمية للعقيدة الماركسية، وعالمية هويتها، تحت قيادة الحركة الشيوعية العالمية. وقد تعرضت هذه العقيدة لانهيار شبه كامل بعد سقوط الإتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية في العام 1992.

وليس من الضروري أن يكون الإنسان المسلم منتمياً عضوياً أو عقدياً الى هذه الايديولوجيات، لكي يتبنى أفكارها، لكنه يكون ــ أحياناً ــ واقعاً تحت تأثيرها في وعيه أو في عقله الباطن، وذلك حين يردد أفكارها ومفاهيمها ومصطلحاتها، بوعي أو بدونه. وبالتالي؛ فإن كل إنسان ينطلق من مرجعيته العقدية والفكرية في النظرة الى الأفكار والمفاهيم والمصطلحات، أو من تأثير هذه المرجعية في وعيه وفي عقله الباطن، أي أن الذي يتمسك بمرجعية الإسلام العقدية والفقهية، ينظر الى مفهوم الانتماء والهوية الوطنية والمذهبية، وتنظيم الأولويات؛ نظرة مختلفة عن الشخص الذي ينطلق من مرجعية أرضية، بعثية أو قومية عنصرية أو وهابية تكفيرية أو علمانية أو ماركسية. ولكن؛ يبقى أن الاختلاف حول المرجعية الفكرية، ومن ثم الاختلاف في المفاهيم بين الناس، لا يسمح لأي شخص باتهام الآخر بالخروج عن الدين أو عدم الوطنية؛ فكلا التهمتين تنطلقان من فكر تكفيري إقصائي، سواء كان فكراً تكفيرياً دينياً أو فكراً تكفيرياً علمانياً.

وفي النتيجة؛ فإنّ الإسلام في عقيدته وشريعته وأحكامه دينٌ إلهي عابرٌ للحدود والقوميات. هذا على المستوى العقدي والفقهي النظري. أمّا على المستوى الواقعي، فإنّ النظام الاجتماعي الديني الشيعي يتميز عن المنظومات الدينية الأُخر بكونه نظاماً عالمياً لا تحدّه الانتماءات الجغرافية والوطنية والقومية، وهو ما تعبِّر عنه القيادة العالمية للمرجع الديني الأعلى أو الولي الفقيه لها، وكذا الهيكلية العالمية للحوزة وتقاليدها، وسياقات عمل وكلاء المرجعية الدينية، وتداول المال الشرعي. وهذا النظام الاجتماعي الديني ليس وليد اليوم، بل إنّه متجذّر في الواقع الشيعي، ولم تصنعه مرجعية السيستاني ولا ولاية الخامنئي. ولذلك، لا يمتلك أحدٌ خياراً لتغيير هذا الواقع؛ لأنّه سر حفاظ المذهب الشيعي والمجتمع الشيعي على بقائهما واستمرارهما، في ظل مساعي الإقصاء والاجتثاث التي ظل الشيعة يتعرضون إليها منذ نهاية دولة الإمام علي وحتى الآن. ولذلك، فإنّ ضربات الخصوم باتت منذ العام 1979، تستهدف النظام الاجتماعي الديني الشيعي برّمته وتدميره من الداخل، وتفكيك هيكليته العالمية، أكثر من استهدافها التشيع كعقيدة وفقه.

وحقيقة عالمية النظام الاجتماعي الديني الشيعي هي حقيقة ثابتة، ويستحيل على أي خصم أو صديق؛ مهما بلغ من القوة والتأثير، تغيير معادلاتها، سواء كان هذا الخصم طائفياً، أو كان ذلك الصديق من داخل الواقع الشيعي نفسه. وقد جرّب الأُمويون والعباسيون والسلجوقيون والأيوبيون والعثمانيون والمماليك والوهابيون والإنجليز والبعثيون تغيير هذا الثابت بكل الوسائل، كما جرّبها بعض المنتسبين إلى الشيعة، ولكن ظلّت واقعية عالمية النظام الاجتماعي الديني الشيعي تتجذّر بقوة كلما ازدادت هذه الضغوطات وتصاعدت محاولات تمزيق النظام. أي أنّ ضغوطات السلطات الطائفية على الشيعة وقمعها لهم؛ كانت ولا تزال تزيد من قوة نظامهم الاجتماعي الديني العالمي، وتضاعف تماسكه وتلاحم أبنائه خارج حدودهم القومية والوطنية؛ لأنّ الشيعي سيزيد من احتمائه بنظامه الاجتماعي الديني العالمي؛ كلما تصاعدت ضده عمليات القمع والإقصاء والاجتثاث والإرهاب. وهو رد فعل واقعي طبيعي، يضاف إلى أصل عالمية المنظومة الدينية الشيعية.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment