وطنية السيد موسى الصدر

Last Updated: 2024/04/26By

 

وطنية السيد موسى الصدر

د. علي المؤمن

السيد موسى الصدر؛ رمز إسلامي شيعي عالمي، ينتمي بالأصالة والإقامة والجنسية الى لبنان، وبالهجرة الى العراق، وبالولادة والجنسية الى إيران. بيد أن قواعد النهضة التي أسس لها موسى الصدر، وأقام عليها صرح مشروعه الكبير؛ تجاوزت آثاره هذه البلدان، وتحولت الى جزء من مسار النهوض الإسلامي العالمي، وتحديداً في جزئه الشيعي؛ الذي دخل في عصر صحوة تاريخية كبرى، بدءاً من العام 1979، ولا تزال هذه الصحوة في ذروة تألقها وانتصاراتها غير المسبوقة؛ فهذا العصر هو عصر الشيعة بامتياز. وإذا أرنا أن نعدد أهم عشرين شخصية شيعية صنعت هذا العصر؛ فلا شك أن السيد موسى الصدر أحدهم، رغم أن تغييبه كان في العام 1978، إلًا أن ثمار مشروعه استمرت بعد هذا التاريخ، بالنضوج والعطاء دون توقف.

وتعود صلة آل الصدر بالعراق الى حوالي (224) سنة، أي منذ هجرة جد الأسرة السيد صدر الدين بمعية والده السيد صالح بن شرف الدين الموسوي في العام 1783؛ قادماً من بلدة شحور في جنوب لبنان. وقد أقام السيد صدر الدين السيد صالح العاملي في مدينة الكاظمية وتوفي فيها، بعد رحلة طويلة من الدراسة في النجف وسامراء؛ تزوج خلالها من بنت الشيخ جعفر كاشف الغطاء، أي أن آل كاشف الغطاء هم أخوال آل الصدر. وبالتالي؛ فأُسرة الصدر تأسست في النجف بزواج السيد صدر الدين في النجف من امرأة نجفية، قبل أن ينتقلوا الى الكاظمية. وهم فرع من آل شرف الدين (من السادة المجابية الموسوية).

ثم هاجر جد الأسرة ومؤسسها السيد صدر الدين شرف الدين الموسوي العاملي، الى مدينة إصفهان الإيرانية في حدود العام 1800 م، واستقر فيها، وأنجب أولاده الخمسة في إصفهان، وأشهرهم السيد محمد علي (آقا مجتهد) والسيد إسماعيل، وقد أسس الأخوة أُسراً معروفة، ولا تزال ذراريهم منتشرة في إصفهان وقم وطهران، وتسنم كثير منهم مواقع حكومية رفيعة في الدولة الإيرانية. أما الوحيد الذي هاجر من بين الأخوة الخمسة، من إصفهان الى النجف؛ فهو المرجع الديني السيد إسماعيل الصدر (جد السيد موسى الصدر والسيد محمد باقر الصدر والسيد محمد صادق الصدر)، والذي بقي أبناؤه وأحفاده يتنقلون بين العراق وإيران. ولذلك؛ حمل قسم من أبناء السيد إسماعيل الجنسية العراقية، وهم السيد حيدر (والد السيد محمد باقر الصدر) والسيد محمد مهدي (والد السيد محمد صادق الصدر) والسيد محمد جواد، بينما حمل أخوهم السيد صدر الدين الصدر (والد السيد موسى الصدر) الجنسية الإيرانية. وكان السيد موسى الصدر هو الوحيد من آل الصدر الذي حصل على الجنسية اللبنانية، وذلك بمرسوم جمهوري خاص في العام 1968، مع احتفاظه بجنسيته الإيرانية.

ولد السيد موسى الصدر في مدينة قم بإيران في العام 1928، وعاش فيها، ودرس في حوزة قم وجامعة طهران، بينما ولد أبوه المرجع الديني السيد صدر الدين السيد إسماعيل الصدر، في الكاظمية بالعراق، أما جده المرجع الديني السيد إسماعيل فقد ولد في إصفهان. وبعد هجرة السيد صدر الدين الصدر من العراق الى إيران في مطلع شبابه، تزوج في مشهد من كريمة المرجع الديني السيد حسين القمي، ثم أصبح أحد مراجع قم الكبار، وقد ولد وعاش فيها جميع أبنائه وبناته العشرة وذراريهم. وقد هاجر من بينهم السيد موسى والسيدة رباب الى لبنان، وعاشا فيها، في حين هاجرت السيدة فاطمة الى النجف، بعد أن تزوجت من ابن عمها السيد محمد باقر الصدر، وعاشت فيه حتى استشهاده. أي أن السيد موسى الصدر هو ابن عم السيد محمد باقر الصدر وشقيق زوجته، وكذلك ابن عم السيد محمد صادق والد المرجع الشهيد السيد محمد الصدر، وأيضاً قريب السيد محمد الصدر رئيس وزراء العراق في العهد الملكي.

وكان السيد موسى الصدر قد غادر إيران الى النجف الأشرف في العام 1954 ودرس على كبار مراجعه، وكان قريباً جداً من مخاضات ولادة الحركة الإسلامية العراقية. وقد فاتحه ابن عمه السيد محمد باقر الصدر للانضمام الى حزب الدعوة الإسلامية في بدايات تأسيسه؛ إلًا السيد موسى الصدر قال لابن عمه بأنه يخطط للقيام بعمل عام مفتوح في لبنان، وأن تقديره لحركته في لبنان أنها لا يمكن أن تنحصر بعمل حزبي سري تغييري. وهو ما حصل بالفعل بعد هجرته النهائية الى لبنان في العام 1959، وإقامته في مدينة صور الجنوبية.

وبالتالي؛ فإن السيد موسى الصدر هو لبناني عراقي إيراني، أي إنه ينتمي الى البلدان الثلاثة معاً، في أصوله البعيدة والقريبة، حاله حال كل آل الصدر؛ فهي أسرة كثيرة الهجرة، وتشبه بعض الأسر العلمية العلوية الكبيرة، كآل الغريفي مثالاً.

وكان السيد موسى الصدر أحد تلاميذ الإمام الخميني ووكلائه، وظل يدعم حراك الإمام الخميني من داخل لبنان، ولذلك؛ كان يتعرض باستمرار لمضايقات نظام الشاه وعملائه في لبنان. ومن جانب آخر كان السيد موسى أحد قادة الجهاد ضد الكيان الإسرائيلي، كما كان يدعم حراك ابن عمه السيد محمد باقر الصدر في العراق، وينسق معه في الخارج، أي أنه كان يقاتل على أربع جبهات: جبهة نهضة شيعة لبنان، جبهة ضد نظام الشاه في إيران، جبهة ضد الكيان الإسرائيلي وجبهة ضد نظام البعث العراقي.

وقد عاش السيد موسى الصدر في لبنان حوالي (18) عاماً، أي منذ كان بعمر واحد وثلاثين عاماً، وحتى سفره الى ليبيا الذي اعتقل فيه، وهو بعمر (49) عاماً، وقد قاد مشروعاً إنسانياً واجتماعياً وثقافياً وسياسياً كبيراً في لبنان، يساوي في حجمه ونوعه عدة ثورات وانتفاضات مجتمعة.

وكما كان السيد موسى الصدر يعمل بكل إخلاص للبنان؛ فقد كان يعمل بإخلاص لإيران والعراق أيضاً، كما كان يعتبر نفسه فلسطينياً، ويعمل لقضية فلسطين، ولم يكن يرى أن في ذلك تعارضاّ مع مفهوم الوطنية، حتى بالتعريف الوضعي للوطن، ولم يكن يعمل بما يتعارض بين وطنيته وبين عقيدته الإسلامية الشيعية، لأنه كان يعد قضيته هي الوطن، رغم إيمانه بمبدأ الأولويات الجغرافية، ككل المرجعيات الدينية الشيعية ووكلائها، ولذلك؛ كان السيد موسى الصدر يقدم لبنان على غيرها في تكريس الاهتمام وحجمه ونوعه، بسبب استيطانه فيه، وهو تكريس لا يتعارض مع الانتماء العقدي.

والحقيقة أن النجاحات المتفردة التي حققها آية الله السيد موسى الصدر على مختلف الصعد؛ جعلت الإيرانيين واللبنانيين يتنافسون على تبعيته الوطنية لهم؛ فاللبنانيون يقاتلون من أجل إثبات لبنانية السيد موسى الصدر، وكذا يفعل الإيرانيون، وهذا حقهم؛ لأن الشعوب الحريصة على كسب العقول وضمها إليها، وعدم التفريط بها؛ إنما تفخر بانتماء المبدعين إليها؛ وإن كانوا من أصول أخرى. وإذا فهمنا تنافس اللبنانيين والإيرانيين على أن يكون السيد موسى مواطنهم، لأنه ـ بالنسبة للإيرانيين ـ إيراني بالولادة؛ من أب عراقي مهاجر وأم إيرانية، وعاش أوائل شبابه في إيران ودرس فيها العلوم الحوزوية (في حوزة قم) والجامعية (في كلية الحقوق بجامعة طهران). كما أنه ـ بالنسبة للبنانيين ـ لبناني في أصوله البعيدة، وفي إقامته في لبنان لما يقرب العشرين عاما، وخلالها نفذ مشروعه العظيم في النهوض بشيعة لبنان بحجم ونوع غير مسبوق.

ولكن؛ في مقابل تمسك الإيرانيين واللبنانيين بانتماء السيد موسى الصدر إليهم؛ نجد أن العراقيين لا يولون السيد موسى الصدر الأهمية اللازمة، ولا يحيون ذكراه، ولا تقوم دولتهم ومؤسستهم الدينية وحركتهم الإسلامية بتكريمه، وهو المبدع والفقيه والمنظِّر والقائد. ربما يكون هذا الإهمال تقليد عراقي عريق؛ أنتجته الايديولوجيا الطائفية العنصرية للسلطة العراقية التي حكمت العراق مئات السنين، ومن خلالها لا يكتفي الوطن بالتخلي عن أبنائه؛ بل يبذل المستحيل ليثبت أنهم ليسوا منه؛ وذلك لأن هؤلاء العراقيين المهاجرين هم شيعة، وهذا يكفي لتقوم السلطة ومجتمعها السياسي بالتنكر لهم؛ وإن كانوا وحيدي زمانهم.

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment