واقع الأمة في ضوء التحولات الدولية
واقع الأمة في ضوء التحولات الدولية
د. علي المؤمن
لا شك أن الهزات التي تعرّض لها الواقع الإسلامي خلال الأشهر الأخيرة، وتحديداً في أعقاب أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001، هي القضية الأهم التي لا تزال الأمة تعاني من تبعاتها وآثارها. والحقيقة أن تلك الأحداث لم تكن البداية، بل إنها تمثل حلقة من سلسلة من الأفعال وردود الأفعال التي ساهمت بمجملها في صياغة الواقع الدولي، هذا الواقع الذي ظلت الولايات المتحدة الأميركية تعمل على الإمساك به في إطار مشروعها الذي أعلنت عنه في مطلع التسعينات من القرن الميلادي الماضي، ويحمل اسم «النظام العالمي للمئة عام القادمة»، وهو نظام يصهر كل مضامين السياسة والاقتصاد والثقافة والتكنولوجيا في بوتقة واحدة، تكرّس نتائجها حالات التمييز ودعاوى التفوق، وقد برزت مظاهر هذا المشروع في الكثير من بقاع العالم، وفي مقدمتها البلدان الإسلامية، وذلك على شكل عدوان وتآمر وإرهاب وعنف، مما يعكس حقيقة اللاتوازن والظلم اللذين يتميز بهما هذا النظام.
وقد شهدت هذه المرحلة خلطاً متعمداً للأوراق، فبعض الفئات التي نسبت ممارساتها للمسلمين، ساهمت، مع الفضاء السياسي والإعلامي الغربي، في تكريس حالة التشويه الذي يتعرض له الإسلام وتياراته الأصيلة. وحينها عاش الواقع الإسلامي بين مطرقة الغطرسة والاستكبار وسندان الجهل والتعصب. أي إن التكريس الاستكباري المركّز لتهمة الإرهاب والعنف والتعصب التي يوجهها للمسلمين، استغل أحداث تفجيرات نيويورك وواشنطن، وهي أحداث أثارت الفزع والحزب في نفوس البشرية، وكان فيها الإسلام هو المتهم الأول!!
ولا نأتي هنا بجديد حين نؤكد بأن الإسلام يرفض أعمال الإرهاب والعدوان والعنف، ويدينها ولا يجيزها، لأن شريعته السمحاء تلتقي مع الفطرة الإنسانية التي فطرها اللَّه تعالى على حب العدل والسلام والخير. وبالتالي فالإرهاب بمعنى القتل الجماعي الأعمى مدان دينياً وإنسانياً، أينما كان ومن أي شخص أو جهة أو دولة صدر. فكل أنواع العنف والإرهاب تغرف من إناء واحد، وتشترك في أهداف ترويع الناس وقتل الأبرياء وتدمير الأهداف المدنية، بغض النظر عن الديانة أو الاتجاه الفكري والسياسي الذي ينتمي إليه الإرهاب، نصرانياً أم مسلماً أم يهودياً، سنياً كان أم شيعياً.
لابدّ هنا من التأكيد على عدة ملاحظات أساسية، للحؤُول دون خلط الأوراق وقلب الحقائق وتشويه صور الأشياء:
الملاحظة الأولى تتعلق بتعريف الإرهاب والعنف اللامشروع، والدعوة هنا موجهة إلى علماء الدين والحقوقيين وأصحاب الاختصاص، مسلمين وغير مسلمين، لوضع تعريف محدد للإرهاب ومفهومه؛ لأن الذي نراه حالياً هو أن الدول الكبرى تحاول بالقوة والإكراه أو بالدعاية والإعلام فرض تعريفها وفهمها للإرهاب على الدول والشعوب الأخرى، وهو تعريف وفهم مفصّل على مقاس الدول الكبرى ومصالحها الخاصة، ثم تعطي لنفسها الحق في تطبيق فهمها عملياً في كل بقعة من بقاع العالم، وكأن الأرض ملك لها، وكل بلدان العالم تشكل عمقاً أمنياً لها، ولا ندري من الذي أعطاها هذين الحقين: فرض تعريفها على الآخرين، وتطبيق فهمها على الجميع. فنظام الولايات المتحدة الأميركية الذي يعبر عن هذه الحالة بكل تفاصيلها، يعتبر أن أي عمل لا يلتقي مع مصالحه الخاصة، سواء كان سياسياً أم عسكرياً أم اقتصادياً أم ثقافياً، يعتبره عملاً إرهابياً، بل إن كل من لا يؤمن بهذه المقولة هو إرهابي، حتى قال حكّامه بأن الذي لا يكون معنا فهو مع الإرهاب والإرهابيين!! وهذا دليل صارخ على طبيعة رؤية أميركا لنفسها وللآخر، فهي تنظر للآخر من خلالها. فأية معادلة هذه؟ وعلى أية قاعدة دينية أو إنسانية أو قانونية تستند؟! فهذه التعريفات الخاصة والفهم الذاتي مرفوضة، والمطلوب فهم إنساني موضوعي للإرهاب، وتعريف حقيقي لظاهرته. وفي هذا الإطار نطرح على طاولة المداولة والحوار التعريف المجمل التالي: «الإرهاب ـ اصطلاحاً ـ هو كل عمل يتم لتحقيق هدف غير إنساني وفاسد، ويتضمن تهديداً للأمن بأنواعه، وتضييعاً للحقوق المقبولة دينياً وبشرياً».
الملاحظة الثانية تتعلق بضرورة الفصل بين مساران الأحداث والعدوان الذي استهدف شعب أفغانستان المظلوم في مسار آخر، والتهديدات الاستكبارية المتكررة التي تتعرض لها البلدان الإسلامية، كالجمهورية الإسلامية الإيرانية ولبنان وسوريا والسودان وغيرها، وما يتعرض له الشعب الفلسطيني من انتهاكات يومية لحقوقه هو مسار ثالث. فأي مسار من هذه المسارات لا يسوّغ للمسار الثاني أعماله. فمثلاً ما تقوم به أميركا من أعمال تستهدف سلام الشعوب وأمنها، ولا سيما دعمها المطلق للعدوان الصهيوني على فلسطين ودول الجوار، لا يسوّغ لأي شخص أو فئة أن تقوم بأعمال عنف وإرهاب انتقامية تستهدف الأبرياء والمنشآت المدنية في الولايات المتحدة الأميركية. وبالتالي فمن أفدح الأخطاء أن نحارب الإرهاب بإرهاب مثله.
الملاحظة الثالثة ترتبط بمشكلة تحمّل الشعوب وزر أنظمتها، وهي مشكلة معقدة لابد من التوصل إلى حل عادل لها. فالشعب الأميركي نراه للأسف يتحمل في داخل أميركا وفي خارجها وزر نظامه وعدوانه على الآخرين، فيتعرض للأعمال الإرهابية اللامشروعة جراء ممارسات حكامه، كما أن الشعب العراقي المظلوم يتحمل وزر حكامه ويتعرض للحصار نتيجة المغامرات التي قاموا بها ضد دول الجوار. مثل ما جرى على الشعب الأفغاني الذي تحمل وزر الفئة التي سيطرت على مقدراته بضع سنوات. ووفقاً لذلك، فهذا الربط بين الشعوب والحكام غير صحيح ولا يجوز بكل المعايير الدينية والإنسانية والقانونية؛ إذ إن البريء لا يؤخذ بفعل المجرم، مهما كانت الصلة التي تربطهما.
الملاحظة الرابعة تتمثل في ضرورة التفريق بين الإرهاب اللامشروع وبين المقاومة المشروعة؛ إذ إن الخلط بين الاثنين يؤدي إلى قلب للحقائق وتزييف للواقع. ففي الإرهاب اللامشروع ترويع يستهدف الأبرياء والمدنيين ومصالح الناس العاديين، كما يستهدف أمن البلاد والشعب والإخلال بالنظام العام. أما المقاومة المشروعة فهي تستهدف رد العدوان وردع المعتدي والقصاص من المجرم، وتجسيد ذلك على أرض الواقع يتمثل في مقاومة الشعب الفلسطيني المسلم للاحتلال الصهيوني، ويتمثل أيضاً في المقاومة الإسلامية في لبنان التي وفقها اللَّه تعالى في دحر العدوان وهزيمة المحتل، كما يتمثل في مقاومة الشعوب لأنظمة التمييز العنصري، ولكل أنواع الاحتلال والعدوان والاستكبار والاستعمار.
ومما يبعث على الأسى والأسف أن تحدث هذه الممارسات المضادة في عام حوار الحضارات، الذي تداعى عقلاء البشرية لدعم فكرته وبلورتها والمساهمة في نشرها وتعميمها، بعد دعوة الجمهورية الإسلامية الإيرانية رسمياً لها، من منطلق إيمان الجمهورية الإسلامية وقادتها بالحوار الإنساني على مختلف مستوياته ومضامينه، بعد أن مارسته الجمهورية الإسلامية عملياً طيلة عقدين من الزمن.
والحقيقة أن الحوار ـ بمختلف أشكاله ـ هو أحد عناصر القوة التي تمتلكها الأمة في الرد على التحديات التي تواجهها، وفي مقدمتها التهديد والعدوان الخارجي. ويبدأ الحوار من داخل الأمة، وهو الحوار الذي تشترك فيه المذاهب الفقهية والتيارات الفكرية والثقافية والاجتماعية للمسلمين؛ بهدف الارتقاء بمستوى التفاهم والتقارب إلى غايات الإسلام في التضامن والتكافل والتعاون بين أبنائه، تمهيداً للوحدة الإسلامية الكبرى، التي تجتمع على قاعدتها طاقات المسلمين، وتتوحد إراداتهم الاجتماعية والسياسية وقدراتهم الاقتصادية والعسكرية وصولاً إلى تفعيل قوتهم الثقافية والفكرية.
وإلى جانب ذلك ينطلق الحوار في رحاب الأديان والثقافات والحضارات، من منطلق الشراكة الدينية والإنسانية على الأرض، وهدفه إيصال صوت الإسلام إلى الآخرين، وإسماعهم حقائقه، والبحث عن أسس الاستقرار والأمن والعدالة والخير للبشرية جمعاء.
ومنذ ظهور الأشكال الأولى للاستعمار الغربي في البلدان الإسلامية، ظل المسلمون ولا يزالون أكثر من أية أمة أخرى في العالم ضحية لمختلف ألوان العدوان والظلم والإرهاب، ومن هنا فالمسلمون هم أصحاب المصلحة الحقيقية في أية دعوة لمكافحة الإرهاب والعنف، شريطة أن تكون دعوة حقيقية وليست مزيفة؛ إذ إن الدعوة التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية الآن تكرّس حالة التمزّق التي تعيشها البشرية، وتعمل على إيجاد صراعات وهمية بين الأديان والحضارات، وتكرّس حالة العداء ضد المسلمين وعموم المستضعفين. وليس أدل على ذلك من اعتداءاتها على بعض البلدان الإسلامية، وهكذا تهديداتها المستمرة لأكثر من بلد إسلامي، إضافة إلى دعمها كل مضامين القسوة والهمجية والوحشية التي يقوم بها الكيان الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني المسلم، ولا تسمح لهذا الشعب المظلوم حتى بالدفاع عن نفسه أو التعبير عن مظلوميته. فهل تمتلك مثل هذه الدولة، مهما كانت دعاواها، صلاحية القيام بحملة دولية لمكافحة الإرهاب؟ أو إنها مؤهلة لأن تدعو للسلام والعدالة؟!
إن أية حملة حقيقية لمكافحة الإرهاب، لابد أن تسبقها مقدمات تعمل على اجتناب جذور الإرهاب وتستهدف مصادر التوتر في العالم، وأبرز هذه المقدمات.
1 ـ المساواة في الحقوق والواجبات بين الدول العضوة في منظمة الأمم المتحدة، ومنع هيمنة دولة أو أكثر على قراراتها، ولا سيما ما يرتبط بالآلية غير العادلة التي يضع مجلس الأمن الدولي قراراته من خلالها. فهذه الآلية تسببت في استمرار الإرهاب في أكثر من بقعة من بقاع العالم، ولا سيما في فلسطين، إذ استخدمت الولايات المتحدة الأميركية حق الفيتو عشرات المرات لمنع إصدار قرار من مجلس الأمن الدولي بكبح جماح الإرهاب الصهيوني.
2 ـ رفع الظلم عن الشعب الفلسطيني والشعوب المجاورة لفلسطين، والتي تتعرض للانتهاكات والإرهاب من قبل الكيان الصهيوني.
3 ـ إحداث آلية دولية تمنع استمرار دعم الدول الكبرى للأنظمة والكيانات الدكتاتورية والعنصرية، وكذلك المنظمات والجماعات الإرهابية.
4 ـ محاربة الفقر والجهل والمرض وكل مظاهر التخلف، وكذلك أمراض المدنية الحديثة ووسائل الإعلام والفن التي تشجع على العنف، على مستوى العالم أجمع؛ لأنها تمثل الأرضية الطبيعية التي تترعرع فيها النزعات الإرهابية.
5 ـ الحيلولة دون استغلال الدول الغربية الكبرى للأحداث وتحويلها إلى صراع حضارات وحرب بين الأديان وتصفية حسابات مع بعض الأنظمة، على حساب الشعوب.
6 ـ استمرار الحوار بين عقلاء البشرية من أتباع الأديان والحضارات والمذاهب، وتكثيفه وتعميقه، بهدف خلق رأي عام عالمي يمارس دوره في نشر العدالة والسلام والمحبة بين جميع شعوب العالم.
ولا شك أن السلام العالمي الذي ينشده الإسلام، بل تنشده البشرية جمعاء، هو السلام العادل الذي تتكافأ فيه الفرص، ويُعطى كل ذي حق حقه، ويُنصف فيه المظلوم، ويُعاقب المعتدي، فالسلام هو الكفيل ـ فقط ـ باقتلاع جذور العنف والإرهاب، أما السلام المفروض والظالم فيعني الإبقاء على بؤر التوتر والمشاكل ناراً تحت الرماد؛ لأن المجرم يتساوى فيه مع الضحية، وتضيع جراءه الحقوق، وتكون سياسة الأمر الواقع هي الحكم، وبالتالي ستعود أعمال العنف كما كانت وربما بكثافة أكبر.
latest video
news via inbox
Nulla turp dis cursus. Integer liberos euismod pretium faucibua