هيكلية النظام الاجتماعي الديني الشيعي
هيكلية النظام الاجتماعي الديني الشيعي
د. علي المؤمن
لقد نشأت قواعد النظام الاجتماعي الديني الشيعي في عصر إمامة علي بن أبي طالب على مبدأ «الإمامة»، ثم أُعيد تأسيسه في بداية عصر الغيبة الصغرى للإمام المهدي على مبدأ «نيابة الإمام»، وتبلورت بالتدريج خلال القرون اللاحقة، ولا سيما في عصر زعامة الشيخ أبي جعفر الطوسي في النجف قبل (1000) عام تقريباً. وقد تطورت هيكلية النظام خلال القرن العشـرين الميلادي؛ بفعل التحولات المحلية والإقليمية والدولية المتراكمة، وبفعل حالة النهوض الشامل الذي شهده الواقع الشيعي طوال النصف الثاني من القرن العشرين الماضي. ثم أخذت الطفرات النوعية الجذرية في واقع النظام وهيكليته تتوالى بعد العام 1979، وبات واقعاً متقدماً وناهضاً بقوة؛ إذ بات النظام نفسه، ولأول مرة في تاريخ الشيعة خلال عصر الغيبة، يشكّل السلطة الحاكمة في إيران بعد العام 1979، أي منذ 1200 عام تقريباً، كما بات محمياً من القوة الشيعية اللبنانية الصاعدة منذ السبعينات والثمانينات، ومن الحكم العراقي الجديد بعد العام 2003، ويتمدد بصورة ملموسة في كثير من البلدان، كأفغانستان وآذربيجان واليمن وسورية؛ برغم وجود بعض الانكسارات والإخفاقات؛ لكنها انكسارات عابرة وجزئية؛ ما يعني أنّ النظام الاجتماعي الديني الشيعي يعيش الآن قيامته وعصره الذهبي.
وفي المقابل؛ لا تزال الأنظمة السنية تعيش معادلات رد الفعل القائمة منذ مئات السنين، وهي أنظمة طائفية متعصبة في غالبيتها، وإن كانت علمانية ومعادية للدين، لكنها تعيش في عقلها الباطن وبفعل تحريك مشايخها ووعاظها ومؤسساتها وجماعاتها الدينية؛ هواجس التاريخ والتهديدات الوهمية التاريخية المذهبية. ولذلك؛ كلما ازداد منسوب نهوض النظام الاجتماعي الديني الشيعي؛ ازدادت التحديات والضغوطات التي تستهدف وجوده ومقومات صعوده. فقد ظل هذا النظام مهدداً طوال التاريخ، عدا عن أزمنة وجغرافيات محدودة، ولا سيما خلال حكم الدول الإدريسية والحمدانية والبويهية والفاطمية والصفوية. كما لا يزال النظام الاجتماعي الديني الشيعي مستهدفاً بقوة من السلطات والحكام الطائفيين والأجهزة التخريبية والمخابراتية للدول الغربية والإقليمية، وفي المقدمة بريطانيا وأمريكا والسعودية وإسرائيل.
وبعد مرور مئات السنين من الكفاح من أجل البقاء، ومن أجل النماء والتقدم؛ باتت هيكلية النظام الاجتماعي الديني الشيعي الذي استقر خلال العقود الثلاثة الأخيرة؛ تضم المكونات والأجزاء العشرة التالية:
1ـ المرجعية الدينية العليا أو ولاية الفقيه: وهي زعيمة النظام الاجتماعي الديني الشيعي وسلطته العليا ورأسه.
2ـ الحوزة العلمية: وهو الجهاز العلمي الديني التبليغي للنظام الديني الاجتماعي الشيعي.
3ـ وكلاء المرجعية ومعتمدوها ومكاتبها الجغرافية: وهم شبكة سفراء النظام الديني الاجتماعي الشيعي وممثلياتها الدينية الاجتماعية في جميع مناطق التواجد الشيعي.
4ـ مراقد أهل البيت والمزارات الشيعية: وهي محاور الاستقطاب العاطفي والوجداني الجامع للشيعة.
5ـ المساجد والحسينيات والمواكب والمؤسسات الثقافية والتعليمية: وتشکّل مجتمعة أو منفردة، الجهاز الثقافي والشعائري والطقوسي للنظام.
6ـ الحكومات والجماعات السياسية: وهو الجهاز التنفيذي السياسي للنظام.
7ـ المؤسسات والجماعات الأمنية والعسكرية: وهو جهاز حماية النظام.
8ـ المؤسسات والوقفيات الاقتصادية والمالية: وهو جهاز التمويل والدعم اللوجستي المالي للنظام، ويدخل في إطاره أصحاب رؤوس الأموال والتجار.
9ـ مقلدو المرجعية الدينية: وهي القاعدة الشعبية الإيديولوجية للنظام.
10ـ عموم الشيعة: وهي القاعدة الشعبية العامة التي تدخل ضمن دائرة تأثير المنظومة، ويدخل في إطارها غير المقلدين وغير المتدينين أيضاً. ولعل كثيراً من عناصر هذه القاعدة هم أكثر حماساً واندفاعاً باتجاه الدفاع عن النظام من المقلدين. تشير الإحصاءات التقديرية إلى أن نسبة الشيعة البالغين المقلدين للمراجع هي بين 70 ـ 75% من مجموع الشيعة البالغين (المكلّفين، أي البالغين سن التكليف)، ما يعني أن المجتمعات الشيعية عموماً هي مجتمعات متدينة ومحافظة أكثر من غيرها من مجتمعات المذاهب الإسلامية الأُخر. مع الإشارة إلى أنّ غير المقلدين وغير المتدينين الشيعة، هم ـ غالباً ـ لصيقون بمجتمعاتهم الشيعية وهمومها وهواجسها، ولعل كثيراً منهم أكثر تعصباً إلى انتمائهم الاجتماعي والسياسي والثقافي الشيعي من كثير من المتدينين.
ومن مجموع هذه الأجزاء العشرة المترابطة المتكاملة؛ يتكون النظام الاجتماعي الديني الشيعي، وهو أشمل من مفهوم المرجعية، وأوسع من مفهوم مجتمع المذهب؛ أي أنّه ليس نظاماً دينياً محضاً، ولا نظاماً اجتماعياً محضاً، ولا نظاماً ثقافياً ولا نظاماً سياسياً؛ بل يجمع بين ظواهر النظم الأربعة، ويصهرها ليُحوِّلها إلى نظام واحد متفرد تاريخياً وجغرافياً. ومن خلال ذلك يتبين أنّ النظام الاجتماعي الديني الشيعي هو كيانية شاملة، تجمع في داخلها الظواهر التي تدرسها فروع علم الاجتماع، ولا سيما الاجتماع الديني والاجتماع السياسي والاجتماع الثقافي والاجتماع المعرفي.
وتؤكد ظواهر فروع علم الاجتماع هذه بمجملها أنّ النظام الديني الاجتماعي الشيعي هو نظام إنساني وهيكليته إنسانية؛ وإن اعتمد قاعدة دينية. وبالتالي، فهو قابل للنقد والتقويم والتطوير، وتحقيق مزيد من الإنجازات النوعية؛ بل قابل للتكيّف بكل سهولة مع ضغوطات الواقع السياسي والقانوني المحلي والدولي، وفي مقدمها ضغوطات القانون الدستوري والقانون الدولي، وما تفرزه من مفاهيم المواطنة والسيادة والولاء.
latest video
news via inbox
Nulla turp dis cursus. Integer liberos euismod pretium faucibua