نهاية عصر الشيعة

Last Updated: 2024/04/26By

حلم نهاية عصر الشيعة

د. علي المؤمن

لم يكن مستشار الأمن القومي الأمريكي “جون بولتون” يمزح حين أكد بأنه سيحتفل في شباط 2019 في طهران بسقوط نظام الجمهورية الإسلامية. وكان بذلك يبعث رسائل إطمئنان الى إسرائيل والسعودية والأنظمة الإقليمية الطائفية بأن الشرق الأوسط سيخلو خلال العام 2019 من (التهديد الشيعي)، بطبعاته الإيرانية والعراقية واللبنانية والسورية واليمنية. فالمقاصد الأمريكية تعد طهران محور (الصعود الشيعي) وقاعدة (عصر الشيعة)، فإذا انهارت هذه القاعدة انهار عصر الشيعة، وعادوا الى عصر الإنزواء والتهميش والقمع، كما كانوا قبل العام 1979. ولذلك، فإن ستراتيجيا “دونالد ترامب” وحليفيه “نتن ياهو” ومحمد بن سلمان في ضرب (التهديد الشيعي) لا تركّز كثيراً على ضرب المحاور المحلية الشيعية، أو ما يسمونه أجنحة محور المقاومة في العراق ولبنان وسوريا واليمن والبحرين وغيرها؛ بل على ضرب رأس المحور وتدميره، والمتمثل بإيران، وحين يقطع الرأس، تموت الاجنحة تلقائياً، وحينها سينتهي (عصر الشيعة) كما يقولون. وهو ما عبّر عنه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بقوله: ((سننقل المعركة الى داخل إيران)).

وقد عبّر وزير الخارجية الأمريكي “مايك بومبيو” في 6 شباط الجاري، في مقابلة مع قناة فوكس نيوز، عن هذا الحراك الأمريكي السعودي الإسرائيلي في المنطقة ضد محور الصعود الشيعي بكل وضوح، بقوله: ((نعتقد أن تشكيل تحالف كالناتو في الشرق الأوسط ضد إيران، بات وشيكاً، ولم يتبق سوى الإتفاق على التفاصيل. إن جميع دول المنطقة تدرك أن وجود هذا التحالف هو في إطار مصالحها)).

والحقيقة، أن تاريخ التحالفات في الشرق الأوسط لم يشهد يوماً هذا التعاضد المركّز بين القوى الدولية والإقليمية والمحلية؛ لاستهداف الواقع الجديد الذي تشهده المنطقة منذ العام 2003. وقد يشبّه بعض المراقبين هذا الوضع بالتحالفات التي استهدفت الإيرانيين بعد انتصار ثورتهم في العام 1979. ولكن تحالفات اليوم هي الأكثر خطورة والأكبر عدّة وعدداً على الإطلاق؛ لأن المستهدف لم يعد مجرد نظام سياسي أو مد فكري أو تأير آيديولوجي؛ بل المستهدف هو الإنسان الشيعي وعصره.

يقوم التحالف “الترامبي” العلني على ثلاث ركائز أساسية: حكومة الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الاسرائيلي والمملكة السعودية، وترافقهم ركائز ثانوية. ويستهدف هذا التحالف ثلاث ركائز أساسية متقاربة: إيران، شيعة العراق وشيعة لبنان، فضلاً عن ركائز ثانوية؛ ولا سيما شيعة البحرين وشيعة اليمن.

وليس عبثاً ان تزيد هذه التحالفات من حدّة شراستها يوماً بعد آخر، فالقوى الشيعية – برغم عدم وحدة مساراتها أحياناً – تعمل بدأب على تغيير الثوابت السياسية والطائفية السائدة في المنطقة منذ مئات السنين، ومعها موازين القوى والتجاذبات والاصطفافات. فإيران ـ مثلاً ـ باتت القوة الإقليمية الأولى في المنطقة، وإحدى القوى العالمية السبع الكبرى. ورغم تأكيدات مسؤوليها بأنهم لا يتدخلون في الشأن الداخلي للدول الأخرى، أو في دعم الشيعة وجماعات الممانعة في الدول الأخرى، إلاّ أن مجرد وجود قوة إسلامية شيعية مهابة؛ هو ظهير معنوي كبير للشيعة ولكل قوى الممانعة في المنطقة.

ومن هنا سيظل التحالف الأمريكي ـ الإسرائيلي ـ السعودي يعمل بتركيز على ضرب هذه القوة في الصميم في وضعها السياسي الداخلي، وفي تطورها العلمي والتكنولوجي، وفي نفوذها المعنوي الخارجي، وفي كل منابع القدرة التي تمتلكها. وإذا كان الناتو الشرق أوسطي الجديد المضاد لمحور الصعود الشيعي، سيفشل في مساعيه العسكرية والسياسية؛ فإنه ربما سينجح عبر القصف الإعلامي والدعائي المكثف، في تكريس معادلة مختلفة في عقول بعض العرب، تتلخص في أن أسرائيل هي صديقة العرب وحليفتهم، وأنها تمثل ضمانة أمنية لأنظمة المنطقة، في مقابل قوى الصعود الشيعي. أما العدو الحقيقي للأنظمة العربية فهي إيران وقوى الصعود الشيعي في العراق ولبنان تحديداً.

وبالتزامن مع ذلك، سيكرس الحلف الأمريكي – الإسرائيلي ـ السعودي نجاحه النسبي في تفكيك مسارات الشيعة في بلدان الصعود الشيعي، ولا سيما في العراق، للحؤول دون أي تحالف حقيقي بين القوى الشيعية الممانِعة في المنطقة، من خلال استقطاب بعض رموزها عبر زرع القناعات الوهمية أو الإستغفال أو شراء الذمم. فضلاً عن محاولات حرف الرأي العام الشيعي العراقي باتجاه العداء لمحور المقاومة وإيران. وهو ماتنفذه فيالق سياسية وفرق مخابراتية وجيوش الكترونية ضخمة في عددها وعدّتها، مرتبطة بالأجهزة الأمريكية والبريطانية والإسرائيلية والسعودية.

بصرف النظر عن حجم الفشل وسوء الإدارة والفساد الذي تسبب في إفشال جزء مهم من مشروع الصعود الشيعي في العراق بعد العام 2003، والإرهاب المنظم والتآمر السياسي والمخابراتي والإعلامي لمختلف الأطراف الطائفية المحلية والإقليمية، ضد هذا المشروع التاريخي المصيري، وكذلك إصرار الطرف الأمريكي على فرض مشروعه السياسي والثقافي؛ فإن العراق ـ في المحصلة النهائية ـ تجاوز بعد العام 2003، مرحلة نظام طائفي شوفيني عمره مئات السنين، وتحول الى دولة شراكة بين مكوناته، وأعطى للمكون الشيعي جزءاً من حقه في الحكم، وهو ما جعل من هذا المكون بؤرة أسياسية للاستهداف الإقليمي الطائفي، لأن المنظومة الإقليمية الطائفية لا تستطيع التأقلم مع واقع الصعود السياسي الشيعي في العراق، والذي أصبح الفاعل الأبرز في العملية السياسية وفي تحديد مضمون الحكم وشكله، فضلاً عن قدرته على تفتيت المشروع الأمريكي في العراق من داخلة وخارجه، وإخراج القوات الأمريكية والأجنبية، برغم كل الإتهامات التي ألصقها المحيط المحلي والإقليمي الطائفي والعنصري بالمكون الشيعي.

ولم يقتصر الاستهداف الطائفي والعنصري المحلي والإقليمي على المرجعية الدينية والجماعات السياسية والمؤسسات المدنية، بل تعداه الى الإنسان الشيعي وحياته ووجوده ومصادر عيشه. والمفارقة أن يلتقي تآمر المحيط الطائفي والعنصري لضرب شيعة العراق، مع نتائج فشل وسوء إدارة وفساد بعض الكتل السياسية الشيعة ومسؤوليها. حتى بات الإنسان الشيعي بين فكي كماشة التآمر وسوء الإدارة.

وبات نخر الصف الشيعي من داخله، والتآمر على وجود قواه الأصلية، وإضعاف المرجعية الدينية، والدعم السياسي والمالي والإعلامي لشخصيات وكيانات شيعية تمثل ضداً نوعياً، وتجفيف منابع الحياة، والمبالغة في تصوير مظاهر الفشل والفساد، هي من أولويات التحالف الأمريكي ـ الإسرائيلي ـ السعودي. إضافة الى المساعي الكبيرة لهذا التحالف في تفتيت أي علاقة ايجابية بين الواقع الشيعي العراقي مع إيران وحزب الله اللبناني والحراك الشيعي البحراني، وعموم الشيعة في الخارج، بهدف عزل شيعة العراق والاستفراد بهم، كما كان يحصل خلال حكم البعث، حين كان شيعة العراق مكشوفي الظهر بالكامل، ويتعرضون لأبشع ألوان الإبادة الجماعية والتمزيق الإجتماعي والاستلاب الثقافي والتدمير النفسي. وقد نجح الثالوث الأمريكي ـ الإسرائيلي ـ السعودي ـ نجاحاً نسبياً حتى الآن في هذا مجال إيجاد نوع من الحواجز النفسية، من خلال استخدام مختلف وسائل القصف الدعائي والإعلامي، والتآمر المخابراتي، والضخ المالي الهائل، في خلف حواجز نفسية. وهو ما يعبر عنه بعض السياسيين والناشطين الإعلاميين والمدنيين الشيعة في المحافل السياسية وسائل الإعلام ووسائل التواصل. وهو برغم قلتهم العددية، إلّا أن مايمتلكونه من وسائل التاثير والتعبئة المنظمة، مايجعل صوتهم عالياً جداً، لا سيما أنهم يستثمرون أساليب التأثير الدعائي البعثي، وشعاراته وأدبياته الموروثة الجاهزة، ولا سيما دعاية الكراهية والإنعزال والشوفينية والعنصرية التي كان يستخدمها نظام صدام خلال حربه مع إيران (1980 ـ 1988).

إلّا أنّ المحصلة النهائية في الصراع بين الثالوث الأمريكي ـ الإسرائيلي ـ السعودي من جهة، وشيعة العراق ومرجعيتهم الدينية وقواهم السياسية والثقافية وداعميهم الإيرانيين من جهة أخرى، لاتزال لمصلحة الصعود الشيعي وبفارق كبير جداً في مستوى الإنجاز، لأن الوجود الديني السياسي الإجتماعي الشيعي في العراق هو الأصيل واللصيق بحقائق الأرض، بينما يظل التحالف الأمريكي ـ الإسرائيلي ـ السعودي غريباً عن العراق بكل التفاصيل والمعطيات.

كما أن حجم التآمر الدولي والإقليمي الطائفي من جهة، وكثير من الفشل وسوء الإدارة، لا يقلل من ضخامة الإنجاز السياسي والاجتماعي والثقافي النوعي الذي حققه المكون الشيعي خلال الخمسة عشر عاماً الماضية (وسنوضح في حلقات قادمة تفاصيل هذا الإنجاز النوعي التأريخي بالأرقام والوثائق، بالمقارنة الى الوضع السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي لشيعة العراق قبل العام 2003).

في الضلع الثالث لمثلث الصعود الشيعي المستهدَف؛ يبرز شيعة لبنان، بانجازاتهم الكبيرة على مختلف المستويات، ولا سيما تكريس حالة التحدي لكبرياء الكيان الإسرائيلي؛ الذي ظل طيلة سبعين عاماً يكبد أنظمة المنطقة وجيوشها أقسى الهزائم، ويذيقها يومياً مرارة الإذلال والتركيع. فضلاً عن تمكّن شيعة لبنان من تجاوز مئات السنين من حالات القمع والتهميش والإقصاء السياسي والاجتماعي والثقافي والإقتصادي، وتحولوا الى شريك حقيقي في إدارة الدولة اللبنانية ونظامها السياسي. وبذلك كان الصعود الشيعي اللبناني يرتكز على ثلاث قواعد رئيسة:

  • التنمية البشرية الهائلة التي تبلورت منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي. فبات المجتمع الشيعي مليئاً بالسياسيين الناضجين، والإعلاميين المحترفين، وأصحال رؤوس الأموال، وحملة الشهادات العليا، الى جانب مئات المؤسسات السياسية والفكرية والدينية والتعليمية والإقتصادية والخدمية والإعلامية والفنية. وهو واقع لم يسبق لشيعة لبنان أن تمتعوا به خلال الألف عام الماضية.
  • تحقيق حالة توازن الرعب مع الكيان الصهيوني، على المستوى التكتيكي والستراتيجي، بما في ذلك التوازن البشري والتسليحي والمخابراتي والإعلامي، والانتصارات الميدانية المتفردة، ولا سيما في العامين 2000 و2006. وهو ما لم تستطيع جيوش الدول العربية تحقيقه مجتمعة. ولم يكن هذا التفوق مفارقاً لحقيقة الإنتماء الايديولوجي لشيعة لبنان، والذي عبّر عنه الزعيم الشيعي اللبناني السيد حسن نصر الله بقوله مخاطباً قادة إسرائيل في العام 2006: ((أنتم لا تعرفون من تقاتلون.. أنتم تقاتلون أبناء علي والحسين))، وهو بذلك يريد لفت الانتباه الى الفارق بين قتال العدو تحت راية الشعارات الوطنية والقومية والإشتراكية، والقتال تحت راية علي بن أبي طالب والحسين بن علي.
  • تحقيق حالة الشراكة الحقيقية في الدولة والحكومة، فبعد أن كان الشيعي موضع تهكم في الوسط السياسي الإجتماعي اللبناني، بأنه مجرد شوفير (سائق تكسي) وناطور (حارس) أو شرطي في أحسن الأحوال، فإنه بات شريكاً حقيقياً في قرار الحكومة والدولة اللبنانية، شأنه شأن المسيحي والسني. ولم تتحقق هذه الشراكة من خلال آلية ديمقراطية تلقائية، وإن كان هذا هو ظاهر القضية، ولكنها تحققت عبر فرض الشيعة واقعهم الجديد. صحيح أن شيعة لبنان لم يحققوا بعد حضورهم السياسي المطلوب في مفاصل الحكومة والدولة، بما يتناسب ونسبتهم العددية (نسبتهم السكانية 45 بالمائة من نفوس الشعب اللبناني، ويحظون بـ 25 بالمائة فقط من مناصب الدولة)، إلّا أن ماحققوه حتى الآن يعد إنجازاً إعجازياً.

وليس خافياً على أحد أن هذه الإنجازات لم تكن تتحقق لولا الدعم الإيراني المباشر لشيعة لبنان على كل المستويات، وهو دعم يجده شيعة لبنان مصيرياً، ومن شأنه موازنة الاستهداف الإسرائيلي للشيعة، والدعم السعودي الخليجي لسنة لبنان، والدعم الفرنسي الأمريكي للمسيحيين.

ولن يكشف المسؤولون الإسرائيليون والأمريكان سراً حين يقولون بأن المحور الإيراني، ظل يمنع سقوط القضية الفلسطينية في شباك التسويات والصفقات المحلية والإسرائيلية والإقليمية والدولية، وأن الحائل الإيراني المعبأ بالحراك السياسي والدبلوماسي والمخابراتي والمالي والتسليحي والإعلامي منذ العام 1979، كبح جماح إسرائيل، وسلبها حلم التمدد، وابتلاع باقي فلسطين، وكامل لبنان، وجزء من سوريا والأردن، والهيمنة على القرار الأمني في الشرق الأوسط، والنفوذ بقوة في المنطقة العربية. وقد كان هذا هو ملخص الخطة الستراتيجية الإسرائيلية التي وضعتها اللوبي الصهيوني العالمي بعد العام 1973.

وبرغم أن الصبغة المذهبية للقضية الفلسطينية ليست شيعية، إلّا أن نجاح محور المقاومة في مشاغلة إسرائيل، ودفعها للإنكفاء، وحصر الصراع ـ غالباً ـ في الداخل الإسرائيلي، ظل يشكل حماية أساسية لأمن المنطقة العربية عموماً، وأمن سوريا وشيعة لبنان خصوصاً.

كما مثّل نجاح المحور الإيراني في منع سقوط سوريا بيد قوى التطرف والتكفير، عاملاً أساسياً ومركزياً في القضاء على أبرز تهديد يستهدف الواقع الشيعي في العراق وسوريا؛ فقد كان من شأن سقوط سوريا، تدمير كثير مما حققه شيعة العراق ولبنان بعد العام 2003، ويتحول الى تهديد مستمر ومتفاقم لهم، بل لعله التهديد الستراتيجي المباشر الثاني للواقع الشيعي بعد الحرب الصدامية في الثمانينات. وهذا هو الدافع الحقيقي لرمي إيران بكل ثقلها لمنع سقوط نظام بشار الأسد، وليس دفاعاً عن المنظومة الحزبية والمخابراتية الحاكمة في سوريا. وبذلك، يعد نجاح المحور الشيعي المقاوم في سوريا، الإنجاز الشيعي التاريخي الرابع الأكبر خلال الأربعين عاماً الماضية، بعد إنجاز العام 1979 في إيران، وإنجاز العام 1982 في لبنان، وإنجاز العام 2003 في العراق. وإذا ما أضفنا الصعود اليمني بعد العام 2014، فإن عصر الشيعة يكون قد وقف على خمس قواعد (كونكريتية) صلبة، يصعب زحزحتها.

لقد بات الإنجاز الإيراني ـ العراقي ـ اللبناني ـ السوري ـ اليمني المتراكم والمتنامي، يكرس عقدة التحالف الأمريكي ـ الإسرائيلي ـ السعودي، والمتمثلة في شل قدرة هذا التحالف على ضرب ذلك الإنجاز وإيقاف تصاعده، برغم تشديد كل أنواع الحصار، والتآمر السياسي، وضخ المال المعادي، والأعمال العسكرية، والتشويه الإعلامي، ومحاربة الانسان الشيعي في سبل عيشه.

المسعى الأهم الذي لا يزال يعمل عليه التحالف الأمريكي ـ الإسرائيلي ـ السعودي بمزيد من القوة، يتمثل في تفكيك قواعد ((عصر الشيعة)) الخمس الرئيسة في الشرق الأوسط: إيران، العراق، لبنان، سوريا، اليمن، ومعها القواعد الثانوية: البحرين، شرقية السعودية، وسلخها عن بعضها، وتصنيفها جغرافياً ومناطقياً وقومياً، بهدف الإستفراد بكل منها، وتمزيقها محلياً وإقليمياً، لأن تماسك قواعد الصعود الشيعة ووحدة مساراتها العامة هو عنصر القوة الأساس لصعود الواقع الشيعي، منذ العام 1979 وحتى الآن. ولذلك فإن مدخل تحقيق التحالف الأمريكي ـ الإسرائيلي ـ السعودي لهدف إنهاء عصر الشيعة هو سلب الشيعة أهم عنصر قوة لهم، عبر تمزيقهم داخلياً، وتشتيت مساراتهم، وصولاً الى إطلاق شرارات معارك متنوعة، في داخل القاعدة الواحدة، وبين قاعدة وأُخرى.

والمفارقة، أن التحالف الأمريكي ـ الإسرائيلي ـ السعودي، في الوقت يصف العلاقات بين قواعد الصعود الشيعي بأنها علاقات طائفية تتعارض مع الإلتزام الوطني والقومي، فإنه يتعامل مع قوى الصعود الشيعي على أنها مسار واحد ومساحة عمل مشتركة، ويتحرك لتنفيذ ستراتيجيته على محورين:

  • المحور العام، الذي ينفذ فيه التحالف الأمريكي ـ الإسرائيلي ـ السعودي مخططاته لضرب قواعد الصعود الشيعي مجتمعة، أي ضرب الواقع الشيعي برمته، دون فرز مكوناته الوطنية والقومية.
  • المحور الخاص بكل بلد، إذ يقوم التحالف الأمريكي ـ الإسرائيلي ـ السعودي بضرب كل قاعدة صعود شيعي بمفردها.

كما ينفذ التحالف مخططاته ـ أحياناً ـ في إطار عمل مشترك، أي تشترك فيه الأجهزة الأمريكية والإسرائيلية والسعودية معاً، في إطار لجان مشتركة دائمة أو مؤقتة. و ـ في أحيان أخرى ـ تقوم كل حكومة من الحكومات الثلاث بتنفيذ مخطط خاص بها، ضد قاعدة شيعية معينة أو أكثر.

فعلى مستوى العراق، يعمل التحالف ـ من جهة ـ على خلق مجموعة معقدة من الفتن والمعارك السياسية والايديولوجية والطقسية والإجتماعية بين الجماعات السياسية والدينية ومختلف مكونات المجتمع الشيعي، ويعمل ـ من جهة أخرى ـ على خلق توترات متنوعة بين المكونات الشيعية العراقية والجارة الشيعية إيران، بذرائع عنصرية، وخطاب مناطقي. وبمراجعة لتقرير السفير الأمريكي السابق في لبنان والكويت وسوريا وأفغانستان والعراق ” ريان كروكر”، في العام 2017، والمعروف بتقرير “مجموعة مستقبل عمل العراق” لمرحلة ما بعد داعش، والمناقشات التي قادها “كروكر”، سيدرك خطورة ما يتم التخطيط له في هذا المجال.

وبموازاة ذلك، يتم قطع أي تعاون بين الواقعين الشيعيين العراقي واللبناني، أو مع البحرين وسوريا. وهو مايتم تنفيذه حيال شيعة البحرين ولبنان أيضاً. وبالنتيجة سلخ كل من العراق ولبنان والبحرين من محيطها الداعم، والاستفراد بكل منها طائفياً وسياسياً، وذبح شيعتها بسيف القومية والوطنية، كما كان يفعل نظام البعث بشيعة العراق، وكما كان النظام اللبناني بشيعة لبنان حتى قبل أربعة عقود، وكما يفعل النظام البحريني اليوم بالأكثرية السكانية الشيعية، أو ما يفعله النظام الوهابي السعودي بشيعة البلاد.

وتتم عملية شرذمة القواعد الشيعية وتمزيقها، وخلق بؤر التوتر والأزمات داخلها، عبر دعم الجماعات المسلحة التكفيرية، والضخ المالي الهائل، وشراء الذمم، واستخدام مختلف وسائل التحشيد الإعلامي والدعائي، والتآمر السياسي والمخابراتي. وحين نتأمل في الخطاب السياسي والدعائي للتحالف الأمريكي ـ الإسرائيلي ـ السعودي، نجده يركّز على تحويل أي لون من العلاقة بين الشيعة العرب وإيران الى معادلة ممنوعة بالمطلق، وصولاً الى تحسيس الشيعي العربي بحالة الرعب والاتهام والخيانة إذا فكّر حتى بعلاقة معنوية بشيعة إيران. وفي المقابل يعمل هذا الخطاب على توصيف علاقة القوى السنية في المنطقة بالنظام السعودي، بأنها علاقة طبيعية وضرورية.

وبصرف النظر عن تعقيدات هذا الموضوع، فإن مساعي التحالف الأمريكي ـ الإسرائيلي ـ السعودي في هذا المجال، نجحت الى حد كبير في تحقيق أهدافها. فمثلاً نجد أن القوى السنية في العراق ولبنان والبحرين تتحالف بشكل علني مع أجهزة الحكومة السعودية، بل وتفتخر وتستقوي بهذا التحالف والدعم، دون أن يعترض الشيعة على ذلك، أو تعترض الدولة؛ فذلك ليس معيباً ولا خيانة وطنية، بل هو تكافل وتكامل وتكاتف طبيعي!، على اعتبار أن النظام السعودي هو حامي الحرمين. بل وتعمل السياسة الخارجية الأمريكية والإسرائيلية، ودعايتهما، على زرع هذا الفهم في عقول المسلمين، وتكريسه وتنميته.

وفي مقابل خلق أعقد حالات العداء لإيران، فإن التحالف الأمريكي ـ الإسرائيلي ـ السعودي بات ينجح في تحسين صورة الكيان الإسرائيلي، وتصوير العلاقة معه بأنها نوع من التعامل مع الأمر الواقع، بل هي ضمانة للأمن الطائفي العربي في مواجهة ((عصر الشيعة)) كما ذكرنا في الحلقات السابقة.

إن الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، ودعم نماء بلدانها سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، واحترام حقوق إنسانها وحرياته، يواجَه بالمزيد من العقبات، وفي مقدمها الإصرار على ممارسة استراتيجية التمييز الطائفي بكل ألوانه، وتسطيح مفهوم المقاومة، وتحكيم المعايير المزدوجة في التعاطي مع القضايا. وهي عقبات يمسك بها ويجذّر وجودها في الارض التحالف الأمريكي- الاسرائيلي- السعودي، الذي يعمل على سلب أي حقوق لقوى التغيير والممانعة الشيعية، لا سيما في العراق وإيران ولبنان وسوريا واليمن والبحرين وشرقية السعودية، وتجفيف منابع القوة لديها. وبالتالي فإن هذا التحالف المهاجِم، إن لم يواجَه بالقوة العلمية والتكنولوجية والسياسية والإقتصادية والتنموية والتسليحية والمعلوماتية والإعلامية الرادعة التي تعادله كماً ونوعاً، فإنه لن يتراجع عن تشكيل شرق أوسط جديد؛ يكون فيه الشيعة المكوّن الأكثر ضعفاً وتمزّقاً، وصولاً الى تحقيق حلمهم في ((نهاية عصر الشيعة)).

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment