نموذج الخطاب الثقافي الإسلامي المعاصر

Last Updated: 2024/04/26By

نموذج الخطاب الثقافي الإسلامي المعاصر

د. علي المؤمن

قبل الدخول في موضوع تحليل الخطاب الثقافي الإسلامي المعاصر من خلال نموذج خطاب الإمام الخميني، نشير إلى ملاحظتين:

الأولى: إن المسألة الثقافية هي من أكثر المسائل التي استوعبها الخطاب النهضوي للإمام الخميني، وحظيت باهتمام واسع في حركته.

الثانية: أنّ تلك المسألة لا تزال من الموضوعات التي لم تلق الاهتمام المطلوب من قبل المفكرين والمتخصصين في دراسة فكر الإمام الخميني وحركته، قياساً بالموضوعات الأخرى التي خصص لها عدد كبير من الدراسات والندوات والمؤتمرات العالمية. وضرورة الاهتمام بها تشتد في الوقت الحاضر أكثر من أي وقت مضى؛ بالنظر للأساليب الجديدة التي أخذت على أمن المجتمع الإسلامي ومستقبل الإسلام. أضف إلى ذلك، ضرورة بلورة نظرية إسلامية متكاملة في الثقافة، والبناء الثقافي، وعلم الاجتماع الثقافي.

الثقافة كما يراها الإمام الخميني هي أساس عملية التغيير الشامل، رغم أنه لا يفصل بين مجالات التغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي، إلا أنه يرى بأن التحوّل الثقافي هو الإطار الذي يجمع في داخله مختلف مجالات التغيير؛ فيعتبر أن طريق إصلاح الأمة وإصلاح المجتمع يمر عبر إصلاح الثقافة؛ إذ إن مبدأ التغيير والإصلاح يتمثل في الثقافة؛ بل يذهب إلى أن الدافع الحقيقي للمسلم هو التخلص من الهيمنة الثقافية الاستعمارية؛ فيقول بأن ((الثقافة على رأس الأمور كلها))، وأوضح تعبير له في هذا المجال هو: ((إن الثقافة هي أساس كل سعادات أو مصائب الشعب)).

ويعطي الإمام الخميني الثقافة بعداً أيديولوجياً، ويرى أنها عملية هادفة، بل وسيلة لتحقيق الأهداف، سواء كانت أهدافاً شريرة أم خيّرة، ويعبّر عنها بـ«المصنع»، في حين يؤكد الانثروبولوجيون على أصالة الثقافة، ويعطونها بعداً معرفياً مجرّداً، رغم أن محتوياتها تشتمل على أبعاد أيديولوجية؛ إذ يقول الإمام الخميني بأن ((الثقافة مصنع يصنع الإنسان، والأنبياء أيضاً جاءوا لهذا الغرض)). ويقدّم الإمام الخميني فهماً واضحاً ومحدداً للثقافة، باعتبارها حركة هادفة، ومبدأ التغيير والتحولات الاجتماعية، ويرى أنها تحدد مستقبل الأمة ومستوى تقدمها ونموها واستقلالها.

وكان الخطاب الثقافي للإمام الخميني متميّزاً ومركّزاً؛ إذ كان يرى بأن الثورة ورثت كل نتائج الهيمنة الثقافية للمرحلة الطاغوتية – الاستكبارية؛ فيقول: ((إن السبب الأساس في سيطرة الغرب والشرق على جميع البلدان الإسلامية هو الهيمنة الثقافية… إن المصيبة العظمى للمسلمين هي هذه الثقافة الرائجة بينهم)). فالتبعية والتخلف سببهما الهيمنة الثقافية الاستكبارية؛ لأنها تجعل الأمة تعتقد، شعورياً أو لا شعورياً، بأنها فقيرة وبحاجة إلى الغرب والاستكبار في سد جميع احتياجاتها ونواقصها، وهو ما يسميه الإمام بـ((التبعية النفسية)).

وبالتالي؛ يبقى الاستقلال السياسي غير مجدٍ، دون الانعتاق من أغلال التبعية الثقافية ونيل الاستقلال الثقافي؛ لأن التبعية الثقافية تجر المجتمع والبلاد قسراً إلى التبعية السياسية، وإن كان البلد مستقلاً في الواقع، ويقرر الإمام الخميني هذا المبدأ بقوله: ((ما دام الشعب لن يحصل على الاستقلال الفكري، فلا يمكنه أن يستقلّ في الأبعاد الأخرى))، أي أن الاستقلال الثقافي يتبعه – بصورة حتمية – استقلال سياسي واقتصادي واجتماعي.

حين يركّز الإمام الخميني على محاربة الثقافة الاستعمارية والتغريبية، ويدعو الأمة لتطهير نفسها منها في إطار ما يمكن تسميته بمفهوم «التزكية الثقافية»؛ فإنه في الوقت نفسه، يطالب الأمة باكتشاف ذاتها وأصالتها والعودة إلى الثقافة الإسلامية، وبعد أن تتشبع بها تصدّرها إلى العالم بأسره: ((لا بد للغزو الثقافي أن يزول ويفنى إلى الأبد، ويحل محله النظام الإسلامي)). وهنا يؤكد الإمام الخميني على قضيتين خطيرتين، لا يسمح بتمريرهما:

1 – حصول فراغ ثقافي محتمل، إذ يطرح الإمام الخميني البديل فوراً، فالقضاء على «الثقافة الطاغوتية – الاستكبارية» مقرون بالعودة إلى الثقافة الإسلامية الأصيلة.

2 – خلق ثقافة وسط خلال عمليتي الهدم والبناء، فهدم الثقافة الوضعية والبناء الثقافي الاستعماري في الخطاب النهضوي للإمام الخميني، هدم شامل، إذ لا وجود لثقافة انتقائية (توفيقية) في هذا الخطاب، بل ثقافة إسلامية تستلهم شكلها ومحتواها ومضمونها وأساليبها من المصادر الأصيلة. وبهذا النمط من أنماط الصراع تنجح الثقافة الإسلامية في القضاء على الثقافة الاستعمارية والانتقائية. وترسيخ جذورها في أرضية المجتمع الإسلامي. وبتعبير آخر؛ فإن محاربة الثقافة الوضعية لا بد وأن تتم بثقافة مستقلّة عنها تماماً، في نظمها وأنساقها وأساليبها، وتكون ذات بناء مغاير تماماً، وعدم الاكتفاء بالحديث عن خطورة الثقافات المضادة، وضرورة نسف دعائمها ومصادرها وعوامل بنائها (العامل النفسي، السياسي، الموروثات، الاستكبار)، بل يطرح لكل نظام ونسق ثقافي بديلاً إسلامياً، كما في مجالات وسائل الإعلام، والاتصال الجماهيري، والفن، والتعليم، والجامعة، والسلوك الفردي والاجتماعي، والموروثات الثقافية، وصولاً إلى الأطر الثقافية للسياسة والاقتصاد.

على مستوى وسائل الاتصال الجماهيري، يعتقد الإمام الخميني بأن مهمتها هي المساهمة في صناعة الإنسان، وهكذا بالنسبة لمهمة التربية والتزكية، التي تقع على عاتق التعليم والجامعة. وعلى المستوى الاقتصادي، يطرح ثقافة الاكتفاء الذاتي ومقاطعة الثقافة الاقتصادية الوضعية التي تجعل الإنسان آلة أو سلعة أو مجرّد مستهلك. واجتماعياً، يطرح ثقافة التكافل والتواصل الاجتماعيين، وثقافة الخير والشعور بالمسؤولية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ولعل مجال التربية والتزكية والتعليم، ودوره في صناعة الإنسان؛ هو المجال الأهم الذي أكد عليه الخطاب الثقافي الإمام الخميني؛ فصناعة الإنسان من خلال التربية والتزكية والتعليم هو هدف الأنبياء والأوصياء والصالحين، فيقول: ((جاء الأنبياء لتزكية النفوس البشرية وللتعليم وللتربية))، انطلاقاً من قوله تعالى: ((ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة))، وهنا يقرن الإمام الخميني حديثه عن التعليم بالحديث عن التزكية النفسية والتربية، وأن التزكية تتقدم على التعليم؛ بل يشترط الإمام الخميني في المعلّم وعالم الدين أن يكونا صالحين، وإلاّ فهما لا يصلحان للتعليم مطلقاً؛ لأن مهنة المعلمين – كما يقول – هي ((مهنة عامة يمارسها الأنبياء والأولياء كما الفلاسفة والعلماء والمثقفين، إنها عمل صناعة الإنسان))، وهو معنى مرادف للقول المأثور: ((إذا فسد العالِم فسد العالَم))، فلا يمكن لمعلم فاسد أن يساهم في بناء المتلقي والمتعلم معنوياً، ويصنع منه إنساناً صالحاً ينتفع منه المجتمع.

من هنا؛ كان الإمام الخميني يشعر بعد انتصار الثورة الإسلامية سياسياً؛ بأهمية الإعلان عن ثورة أخرى مكمّلة لذلك الانتصار، وهي «الثورة الثقافية»، التي قادها بنفسه أو من خلال مندوبيه، بهدف أسلمة التعليم وتحويل المؤسسات التعليمية إلى مولدات لضخ الثقافة الإسلامية الأصيلة في المجتمع، من خلال العناصر التي تحتضنها وتخرّجها، وتطهير جامعات البلاد من الثقافات الوافدة والوضعية، وتصفية الشعارات (البرّاقة) التي يطرحها العملاء الثقافيون للغرب كعصرنة التعليم ومناهجه وعزله عن الضوابط العقائدية والمعنوية والأخلاقية.

 

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment