نمطية الوعي العربي الطائفي بالعراق

Last Updated: 2024/04/26By

نمطية الوعي العربي الطائفي بالعراق

د. علي المؤمن

في التاريخ الرسمي؛ من الطبيعي أن يكون الحاكم الطاغية عادلاً، ويُفسّر باطله بأنه الحق المطلق، والمذهب غير الرسمي للسلطة هرطقةً وكفراً، وتكون بطانة الحاكم وأسرته وولاته وقضاته ورجال دين البلاط، هم صفوة الأمة وقادتها. ويعد كل من يعارضهم، وإن كان بالفكر والكلمة، متمرداً يشق صف الأمة، وتصبح صرخة المظلوم خروجاً على الحاكم وعقيدته، أما إنجازات الأمة من علوم ومعارف وتوسع ديني وغيرها فتصادر لحساب الحاكم وأسرته.

هذه الصورة النمطية التي طبعتها سلطة العراق في عقول الناس وضمائرهم، منذ مئات السنين؛ هي التي شكّلت الوعي العربي والإقليمي بالعراق، وهي ما يعرفه المحيط به. هذا الوعي يختزن صورة الأمويين باعتبارهم خلفاء رسول اللَّه؛ الذين بادروا إلى مد رقعة دولتهم الإسلامية القوية وتثبيت دعائمها في العراق؛ وصولاً إلى فتوحات دينية كبرى في الشرق، وليس صورة الأمويين الذين دخلوا الإسلام كرهاً، بهدف ضربه من الداخل أو السيطرة عليه، ولم يؤمنوا به يوما. وحين تحقق لهم ذلك؛ جاهروا بمخططهم، وكانت ممارساتهم متعارضة مع أبسط حقائق الدين، فقتلوا الإمام الحسن والإمام الحسين والإمام السجّاد والإمام الباقر (أحفاد رسول الإسلام) وآلاف من المسلمين، وانتهكوا أعراضهم وسلبوا أموالهم، وأحرقوا القرآن، ورجموا الكعبة بالمنجنيق، واستحلوا حرمة بيوت اللَّه، واقتطعوا لأنفسهم أراضي فتوحاتهم العسكرية، واكتنزوا الأموال، وأحلوا كل المحرمات الدينية في المأكل والمشرب والملبس والسلوك. أما من رفض كل هذا أو جزءا منه؛ فهو خارج على خليفة المسلمين ودولته، وكان معظم هؤلاء الرافضين من أبناء العراق.

وهذه الصورة النمطية عينها؛ تعد السفاح والمنصور والرشيد عظماء، قدموا للإسلام وللعراق أجل الخدمات؛ فتشاد لهم النصب التذكارية وتسمى الأحياء والشوارع بأسمائهم، وليسوا طغاة جبابرة فاقوا الأمويين في انتهاك الحرمات، ويكون هارون الرشيد الخليفة العادل الذي يحج عاماً ويغزو عاماً، وليس الجزار الذي قتل الإمام موسى الكاظم، حفيد رسول الله وإمام المسلمين، وذبح آلاف المسلمين، وأقام حفلات المجون والفجور، وشرب الخمر بجماجم خصومه من العلويين، حتى قال ضحاياهم:

((ألا ليت ظلم بني مروان قد دام لنا    وعدل بني العباس في النار))

وهكذا يصبح صلاح الدين الأيوبي ناصراً للإسلام وحافظاً للعروبة، وليس الحاكم الذي بدأ مجازره بشمال أفريقيا، مرورا بمصر، وصولاً إلى بلاد الشام؛ فأسقط الدولة الفاطمية المسلمة وقتل رعاتها ورعيتها، ثم كافأ أبناء سيف الدولة الحمداني ورعيته؛ حين قتل في يوم واحد أربعين ألف مسلم في مدينة حلب السورية وحدها، وهم الذين قارعوا الصليبيين ودحروهم في بلاد الشام ومنعتهم من اختراق أراضي المسلمين في فلسطين.

لقد ظل العراق محكوماً بسلطة طائفية أو طائفية شوفينية، طيلة ما يقرب من (1350) عاماً، بدءاً بالاحتلال الأموي وانتهاء بصدام حسين، وظلت المعارضة الأساسية تنتمي قهراً إلى الطائفة المختلفة مذهبياً (الشيعة). وأؤكد هنا حقيقتين:

1- إن الطائفة السنية، بمتدينيها وعلمانييها، ليست مسؤولة عن سلوكيات السلطات التي تنتمي إليها بالوراثة، لأن هذه الطائفة ليست مكوّناً تنظيمياً، بل هي عبارة عن شرائح اجتماعية متباينة في مستواها المعيشي والثقافي، ووعيها السياسي والتاريخي، والتزامها الديني والمذهبي، وفي مراتب تعصبها ورؤيتها للآخر، حالها حال أي طائفة أخرى. أي إن انتماء السلطات طائفياً إلى السنة لا يعني أنها سلطات مذهبية، ولا يعني أنها تعمل من أجل المذهب السني وفي إطار أحكامه الشرعية، وذلك لوجود فرق كبير وأساس بين المذهبي والطائفي، لأن المذهبي مفهوم ديني وعقائدي وفقهي، أما الطائفي فهو مفهوم إنساني واجتماعي.

وبما أن السلطات لم تكن تمثل الواقع الاجتماعي والسياسي؛ فإنها ظلت تستغل الطائفة التي تنتمي إليها كحاضنة اجتماعية وسياسية لها، وترفع شعارات مذهبية وطائفية من أجل تحقيق أهدافها الخاصة. وفي هذا السبيل تمعن السلطة في جر الطائفة السنية، طوعاً أو قسراً، لحماية نفسها، وتستخدم فقهاء الطائفة لتغطية مشروعية السلطة وممارساتها من خلال الخطاب الفقهي والعقيدي الذي يبيح للسلطة إنزال كل أنواع العقاب ضد المختلفين معها مذهبيا (الشيعة)، وبدون هذا التركيز على وحدة المسار والمصير مع الطائفة؛ ستنهار السلطة لا محال.

2- إن مشكلة الدولة العراقية مع الشيعة ليست مشكلة فقهية وعقدية غالباً، بل مشكلة اجتماعية سياسية، وحقلها العلمي هو الاجتماع السياسي وليس علم الكلام أو الفقه، أي أن الدولة ظلت تستهدف الشيعة في مجالهم الاجتماعي الديني، أكثر من استهدافها الجانب العقدي والفقهي الشيعي؛ ما يعني إن الصراع التاريخي في العراق لم يكن ـــ غالباً ـــ صراعاً طائفياً مجتمعياً؛ بل كان بين السلطة التي تنتمي طائفياً إلى السنة، وبين المعارضة التي تنتمي طائفياً إلى الشيعة، لأن شرائح المجتمع العراقي ظلت تعبِّر عن انتماءاتها المذهبية والطائفية بالصورة التي تحول دون حصول صراعات طائفية مجتمعية، فضلاً عن أن الاندماج الاجتماعي المتمثل بالمصاهرات والصداقات والمصالح والانتماءات العشائرية المشتركة بين السنة والشيعة؛ ظل السمة الغالبة التي تطبع المجتمع العراقي. ولكن؛ هذا لا يعني عدم وجود نسبة من التوتر الطائفي.

وهنا يكمن دور السلطة؛ فهي من أجل الوصول إلى أهدافها الخاصة، تمارس أبشع أنواع التمييز الطائفي، بدءاً بالإقصاء والتهميش والاضطهاد السياسي، مروراً بالحظر العقائدي والفكري والثقافي، والحرمان الاقتصادي، وصولاً إلى الاعتقال والتشريد والقتل وانتهاك الأعراض. وهنا كانت الطائفة الشيعية تجد نفسها مستهدَفة بكل هذا التمييز، وليس فقط المعارضة التي تنتمي إليها وحسب، وبذلك؛ كانت السلطة تحقق هدفين في آن واحد:

  • تحتمي بالطائفة السنية وتستثير فيها الحس الطائفي في أي صراع مع الشيعة بشكل عام والمعارضة الشيعية بشكل خاص، فضلاً عن محاولة تجميد أي جهد في الوسط السني لمعارضة السلطة، على اعتبار أنها سوف لن تلقى ترحيباً أو دعماً من الوسط السني، وهذا ما كان واضحاً في عهد صدام حسين؛ إذ كانت حركات المعارضة السنية (الدينية والعلمانية) ضعيفة، وكانت محاولاتها في التحرك عسكرياً تبوء بالفشل سريعاً وتتلاشى، لأنها لم تكن تجد حاضناً اجتماعياً يحميها ويدعمها.
  • إبعاد الشيعة عن السلطة وعن أي مفاصل أساسية في الدولة، وهو إجراء احترازي، يدفع خطراً محتملاً، وهذا الإجراء لم يلق يوماً اعتراضاً في شرائح الطائفة الحاضنة للسلطة أو من أي حكومة إقليمية أو عالمية أو جماعة سياسية ودينية، لأن هذه الحاضنة والإقليم الطائفي، يعدان تهميش الشيعة واستمرار الضغط عليهم، إجراءً ضروريا نمطياً تقليدياً.

 

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment