نظام الحكم في نظرية «الدعوة»
نظام الحكم في نظرية «الدعوة»
د. علي المؤمن
لم يفرق تراث الحركات الإسلامية؛ ومنها حزب الدعوة – ككل التراث السياسي الإسلامي – بين مصطلحات الدولة والحكومة والنظام السياسي. وهو الأمر ذاته بالنسبة لمفاهيم الحاكمية والسيادة والشرعية والمشروعية؛ كما درجت عليه الدراسات الحديثة في فروع الفقه السياسي الإسلامي والقانون الدستوري الإسلامي؛ التي افترضت أن الشرعية والحاكمية تعالجان البعد الايديولوجي الفكري الفقهي للدولة الإسلامية؛ بينما تعالج المشروعية والسيادة البعد القانوني الحديث للدولة الإسلامية.
وكان الفقهاء الإيرانيون المعاصرون أول من استخدم هذه المصطلحات – ذات الجذور العربية – باللغة الفارسية في بحوثهم وكتاباتهم خلال ثورة المشروطة في إيران في العام 1906؛ كالشيخ الميرزا النائيني والشيخ عبد الله النوري، وكذلك مراسلات الشيخ الآخوند الخراساني والسيد عبد الله البهبهاني والسيد كاظم اليزدي والسيد محمد الطباطبائي (فقهاء المشروطة والمشروعة)(1)، واختلطت بالمصطلحات القانونية والسياسية الغربية الحديثة التي كان يطرحها المثقفون العلمانيون في ثورة المشروطة. وكان اختلاط المصطلحات والمفاهيم أحد أسباب ملابسات فكرية وسياسية وأعمال عنف شديدة بين دعاة التغريب ودعاة التأصيل من جهة، وبين دعاة المشروطة ودعاة المستبدة (وكلاهما ينتمي إلى جبهة التأصيل) من جهة أخرى. وعند ترجمة هذه الكتابات إلى العربية وقع المترجمون أيضاً في إشكاليات فكرية وقانونية أساسية؛ ولاسيما ما يتعلق بمصطلحات مشروعة ومشروعية وشرعية وحاكمية وحكومة ودولة وغيرها؛ على اعتبار أن استخداماتها العربية ومداليلها القانونية تختلف عنها بالفارسية؛ بالرغم من أن جميع جذور هذه المصطلحات عربية. ثم تعمقت إشكالية المصطلحات بعد دخول ترجمات كتب الشيخ أبو الأعلى المودودي من اللغة الأوردية إلى العربية، وتبنتها الحركات الإسلامية المصرية، ونقلها عنهم الإسلاميون الشيعة. ولذلك حديث تخصصي طويل طرحناه في مطلع تسعينات القرن الماضي خلال ترجمة رسالة الشيخ الميرزا النائيني وبحوث الشيخ عميد زنجاني وغيرهما.
وبالانتقال إلى الجانب المنهجي؛ كمدخل لبحث موقف حزب الدعوة من الديمقراطية؛ فإن بحث النظام السياسي في فكر «الدعوة» يعتمد على ثلاثة أنواع من المصادر:
1 – مصادر فكر حزب الدعوة في موضوع الحكم؛ ومنها نشرة «الأسس» التي كتبها السيد محمد باقر الصدر، وبحوثه التالية المجموعة في كتاب الإسلام يقود الحياة، ولاسيما «لمحة فقهية» و«الدولة الإسلامية»، وبحث «شكل الحكم» المنشور في العدد 32 من نشرة «صوت الدعوة» الداخلية، وكراس «شكل الحكم» المعدل في العام 1981، والنظام الداخلي للعام 1982، ومقالات متفرقة موجودة في ثقافة «الدعوة» (قسم الفكر السياسي). ومن هذه المصادر يتم استخراج البعد الفكري للدولة في فكر «الدعوة».
2 – الكتب المنهجية القانونية في مواد النظم السياسية والقانون الدستوري والقانون الدولي؛ لاستخراج التعريفات العلمية لمصطلحات الدولة القانونية وأركانها والسيادة والحكومة الشرعية والحكم والنظام السياسي؛ لتكييف الدولة الفكرية التي يتبناها حزب الدعوة مع الدولة القانونية التي يعترف بها القانون الدولي.
3 – مصادر الفقه السياسي الإسلامي والقانون الدستوري الإسلامي كما كتبها الفقهاء القانونيون الإسلاميون؛ أمثال الشيخ عباس علي عميد زنجاني والدكتور محمد هاشمي والدكتور مصطفى محقق داماد؛ بهدف الاستفادة من التكييفات الفقهية والفكرية الإسلامية المعاصرة لموضوع الدولة المقبولة إسلامياً (فقهياً) والمشروعة قانونياً(2).
ومن خلال المواءمة الفكرية الفقهية القانونية؛ يتم تقديم رؤية «الدعوة» في نظام الحكم والدولة، والقواعد الشرعية التي تسمح للدعوة بالمشاركة العلنية الرسمية في نظام غير إسلامي؛ مع الأخذ بالاعتبار حجم ونوع ومجال المشاركة. أي أنها رؤية تعبر عن موقف حزب الدعوة النظري والعملي؛ على وفق ما يتطلبه واقع الدولة العراقية في مرحلة ما بعد العام 2003. ليكون التكييف الفكري مرتكزاً إلى دولة قائمة؛ بكل ملابساتها الفكرية والشرعية؛ وهو تكييف يوفق ويوائم بين الدولة الفكرية التي يؤمن بها حزب الدعوة وتأسس بهدف إقامتها، والدولة العراقية التشاركية القائمة من جهة أخرى، والدولة القانونية كما يعترف بها القانون الدولي والقانون الدستوري من جهة ثالثة.
والدراسات الناجحة التي يعول عليها علمياً في موضوع مشروعية الدولة القانونية وشرعيتها الإسلامية هي التي تستخرج مصدر الشرعية الأرضية للدولة ومصدر شرعية الحكومة؛ سواء كان إذن الفقيه أو العقد الاجتماعي أو رأي أغلبية الأمة، أو الثلاثة معاً. أما البحوث الفقهية المحضة أو التنظيرات العامة (اللا زمكانية) في مجال النظرية السياسية الإسلامية والنظام السياسي الإسلامي والدولة الإسلامية ونظام الحكم؛ والتي يفيض بها التراث الفقهي والفكري والفلسفي الإسلامي فلم تعد هناك حاجة إليها؛ لأنها تتحدث عن الدولة كمفهوم ذهني مجرد؛ لا زمان لها ولا مكان؛ خارج الواقع الجغرافي والتاريخي، وغير محكومة بقواعد القانون الدولي والقانون الدستوري وحقائق الجغرافيا.
وعلى صعيد بنية الدولة؛ فإن رؤية حزب الدعوة الأصلية إليها هي رؤية ايديولوجية؛ فهو يدعو إلى الدولة الفكرية؛ أي الدولة المتشكلة على أساس عقدي فكري، وليس على أساس قانوني وضعي. ويقصد بها الدولة الإسلامية التي تعمل على تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية بكل تفاصيلها وفي كل مجالات الحياة. وكذلك الأمر بالنسبة للأمة؛ فهو يؤمن بالأمة المتشكلة فكرياً وعقدياً، وليس الأمة المتشكلة قومياً أو سياسياً(3).
وتفرض هذه الحقائق على حزب الدعوة نوعين من التأصيل للدولة أو النظام السياسي الذي يتبناه:
النوع الأول: التأصيل الأساس؛ الذي يتطابق مع نظرية «الدعوة» وفلسفة وجودها. بمعنى أن يكون هذا النظام إسلامياً خالصاً؛ بكل أبعاده العقيدية والفقهية التي حددتها أسس حزب الدعوة وأدبياته في مجال الفقه السياسي، وليس نظاماً توليفياً. ويكون هذا التأصيل خاصاً بالدولة التي يهدف حزب الدعوة إلى تأسيسها في زمان ما ومكان ما. ورغم مثالية هذا الهدف؛ لكنه يرمز إلى التصاق حزب الدعوة بركائزه الدعوية السياسية الأصلية. وهذا اللون من التأصيل أنتجه الإمام الخميني؛ إذ عمل في نظريته «الحكومة الإسلامية» على نسف كل أنواع الأنظمة الوضعية؛ واستبدلها بدولة الولي الفقيه، وهي صيغة مختلفة من الناحية الدستورية عن كل النظم السياسية المعروفة(4).
النوع الثاني: التأصيل المرحلي؛ الذي يراعي حقائق الزمان والمكان ومتطلباتهما. وفيه يتنزل حزب الدعوة إلى القبول بأنساق وضعية وآليات أرضية من نتاجات مشاريع حضارية أخرى؛ كالديمقراطية والليبرالية والمدنية مثلاً. مع الأخذ بالاعتبار ألّا يمثل هذا القبول قراراً سياسياً تتخذه القيادة؛ بل خياراً فكرياً قائماً على دراسات وبحوث منهجية. وهذا اللون أنتجه الشيخ الميرزا النائيني خلال ثورة «المشروطة» في إيران؛ إذ عمل في رسالته «تنبيه الأمة وتنزيه الملة» على التوليف بين ثلاثة ركائز:
1 – الدولة الإيرانية الوطنية الملكية (موروث الأمة الإيرانية)
2 – النظام التعددي الانتخابي على وفق القانون العصري (آليات الديمقراطية)
3 – سياقات التشريع المقبولة فقهياً (إشراف الفقهاء الدينيين على تشريعات مجلس النواب)
ومن خلال هذا المثلث حقق الشيخ النائيني هدفي المشروطة والمشروعة في آن واحد(5). وهو ما يحتاجه حزب الدعوة تحديداً في عراق ما بعد العام 2003.
ويقود هذا الحديث لتشريح الفهم المتجدد لحزب الدعوة الإسلامية للمذهب السياسي الديمقراطي في مرحلة ما بعد العام 2003 العراقية، وهو موقف لا ينطلق من قبول الديمقراطية أو رفضها؛ بل من الفهم المعرفي للمصادر التالية:
1 – المذهب السياسي الديمقراطي من مصادره الأصلية.
2 – المنظومة الفكرية الإسلامية القيمية.
3 – نظرية حزب الدعوة الإسلامية وفكره السياسي.
4 – حاجة الواقع العراقي ومتطلباته.
ومن هنا؛ فالفهم الجديد لا يهدف إلى التنظير لمذهب جديد خارج الزمان والجغرافيا، أو تفصيل الديمقراطية على مقاسات «الدعوة» أو تفصيل فكر «الدعوة» على مقاسات المذهب الديمقراطي؛ بل الهدف هو التأصيل لنظام سياسي مفصل على مقاسات العراق الجديد وحقائقه، ويحظى بإمضاء الشريعة ونظرية «الدعوة». ولكي يكون النظام السياسي الذي يعبِّر عن فكر حزب الدعوة لصيقاً بالزمان والمكان؛ فإن صياغته تتطلب توليفة دقيقة ترتكز إلى أربع حقائق:
1 – جغرافيا العراق السياسية؛ أي ما تفرضه متطلبات العراق كبلد له حدوده الجغرافية الإدارية، والخاضع لأحكام القانون الدولي وشرعة التنظيم الدولي الذي ينتمي إليه.
2 – جغرافيا العراق السكانية، وتنوعه الديمغرافي القومي والديني والمذهبي والثقافي والاجتماعي.
3 – الزمن؛ وهو واقع ما بعد العام 2003.
4 – المنظومة الفكرية الدعوية السياسية التي تمثل نظرية حزب الدعوة الأصلية.
وهذا يعني أن قراءة الديمقراطية وما يصلح منها للعراق؛ لا تكون بناءً على الاجتهاد والميول الفكرية والسياسية، أو سَوق قسري لمفهوم الديمقراطية باتجاه التوافق مع نظرية «الدعوة» وفكرها السياسي. فهذا المنهج ليس علمياً ولا واقعياً؛ لأن المعيار في مقاربة مفهوم الديمقراطية لا يستند إلى آراء الدعاة أو اجتهادات «الدعوة»؛ بل هو رأي المناخات الأصلية المنتجة للديمقراطية، وظروفها الموضوعية وصانعيها ومفكريها ومنظريها السلف والخلف. ولا أحد من هؤلاء ينفي متلازماتها الايديولوجية وكونها مذهباً سياسياً، وركناً من مخمّس العلمانية والليبرالية والديمقراطية والمدنية والعقلانية بمفاهيمها الفلسفية الغربية. ولم يقل أحد من منظري الديمقراطية بأنها استحالت مجرد أدوات وآليات وأنساق وإجراءات عامة مشتركة؛ خالية من منظومة القيم؛ حتى في تفسيراتهم الايديولوجية. بل إن أكثر المفكرين الإسلاميين؛ دفاعاً عن الديمقراطية؛ لم يعبروا على الجانب القيمي الفلسفي في المذهب الديمقراطي، ولطالما اعتبروه الجانب الأهم في المذهب الديمقراطي والمتقدم على ترشحاته النسقية الإجرائية(6).
ولذلك فإن الديمقراطية هو مذهب سياسي ونظام قيمي؛ بصرف النظر عن تعريفاتها الفضفاضة وعمومياتها، وتشتمل على:
1 – الإطار الفلسفي الذي ترشح عن مخاضات عصر النهضة الأوربية وما بعدها، وهو التأسيس الحقيقي للمذهب السياسي الديمقراطي الماثل.
2 – إفراز الإطار الفلسفي لموضوع التشريع، وهو إفراز جبري، وما يترشح عنه من أنساق إجرائية في البعد التشريعي. والمقصود به إفراز هذه الأنساق لممثلي الشعب ومساحة الحرية الممنوحة لهم في تشريع القوانين.
3 – الأنساق الإجرائية في البعد التطبيقي؛ أي فرز السلطات وأنواعها وممارستها وتداولها وعلاقتها ببعضها، وتمثيلها للشعب، وأنواع الحقوق والحريات التي يتمتع بها الشعب في إطارها. وهذه الأنساق الإجرائية بمجملها تعبر عن البعد الآلي في الديمقراطية(7).
ولذلك؛ فإن استعارة فكرة أو نسق أو آلية من مذهب سياسي، لا يعني تبني المذهب برمته والتسمي باسمه؛ فقبول الشريعة الإسلامية ونظرية «الدعوة» لآليات الديمقراطية – مثلاً – وبعض أنساقها الفكرية؛ لا يعني أن النظرية السياسية الإسلامية هي نظرية ديمقراطية أو أن المذهب السياسي الذي يتبناه حزب الدعوة الإسلامية فكرياً هو المذهب الديمقراطي. فوجود مشتركات لا يعني التطابق؛ لأن هناك افتراقات فكرية وإجرائية كثيرة أيضاً. وبالتالي؛ فالمذهب السياسي الديمقراطي ينتمي إلى مشروع حضاري له خصوصياته وحقائقه. بينما ينتمي المذهب السياسي الإسلامي إلى مشروع حضاري آخر؛ قد يشترك في بعض قواعده وأسسه مع المشاريع الحضارية الأخرى(8).
قد تقول بعض الاتجاهات العلمانية أو المتأثرة بها بأن الإسلام لا يتضمن نظرية سياسية أو مذهباً سياسياً أو نظاماً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. وعليه تستطيع الجماعة المؤمنة المتشرعة استعارة أي نظرية أو نظام سياسي واقتصادي، باعتبارهما مجرد تقنيات عامة. ولكن القدر المتيقن أن حزب الدعوة الإسلامية – وهو ما يعنينا هنا – يؤمن بوجود مذهب سياسي ونظام سياسي في الإسلام. وعليه؛ ينبغي أن تكون المقاربة لصيقة بنظرية «الدعوة» وفكرها السياسي، ولا تتكئ على القراءات الخاصة.
ولعل فهم حزب الدعوة الرافض للمذهب الديمقراطي ظل حتى العام 1979 متسقاً مع فهم الحركات الإسلامية الأخرى والجو السائد في الوسط الإسلامي العام، والوسط الشيعي الخاص. ولاسيما موجة الكتابات الإسلامية التي تكثفت خلال عقود الأربعينات والخمسينات والستينات من القرن الماضي، ضد الديمقراطية ومن يقول بها في الوسط العربي والإسلامي(9). وترسخ رفض حزب الدعوة للمذهب الديمقراطي بعد العام 1979؛ بفعل انتقال قيادة «الدعوة» إلى إيران وهيمنة الفقهاء الولائيين على مسار الحزب السياسي والفكري؛ يتقدمهم السيد كاظم الحائري والشيخ محمد مهدي الآصفي؛ اللذين كان رفضهما للنظام الديمقراطي رفضاً قاطعاً مبنياً على رؤى عقدية وفكرية وفقهية؛ دون استبعاد التأثر القوي بالجو السائد في جمهورية الفقيه في إيران(10). بل حتى حين كان المرجل الفكري الإيراني يعمل بأقصى طاقاته في عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، ويضخ آلاف البحوث والكتب العلمية العميقة، والمؤتمرات وورش العمل الفكري، والتي فتحت أبواب الفكر الإسلامي الإيراني على مصاريعها أمام التجديد والمواءمة مع الفكر الإنساني عموماً والفكر الغربي خصوصاً؛ فإن فكر «الدعوة» لم يتأثر بهذا الحراك النوعي، وبقي محتفظاً برؤيته السلبية تجاه المذهب الديمقراطي. وحتى الكتابات المحدودة التي أصدرها بعض الدعاة منذ مطلع التسعينات، وفيها دعوات للقبول بآليات المذهب الديمقراطي؛ فإنها كانت تواجه بالرفض من «الدعوة» وعموم الدعاة. ولم يكن هذا الرفض مبنياً على قراءات بحثية علمية للموضوع؛ بل يستصحب الرأي التقليدي في الدعوة؛ الذي نظّر له السيد كاظم الحائري غالباً. والأكثر لفتاً للنظر، أن حزب الدعوة ظل متأثراً بالتيار الفكري الأصولي المحافظ في إيران، ولم يتأثر بالتيار الفكري التجديدي الذي تصاعد بقوة بعد تسلم السيد علي الخامنئي منصب القيادة، وتسلم الشيخ هاشمي رفسنجاني ثم السيد محمد خاتمي رئاسة الجمهورية؛ والثلاثة ينتمون إلى التيار الفكري التجديدي، أو ما يعرف بتيار المثقفين.
وظل الفكر السياسي لحزب الدعوة حتى قبل العام 1991 يتجاوز الزمان والمكان. وهو ما عليه فكر الجماعات الايديولوجية العابرة للحدود والأزمان. ولذلك تنبّه ستالين وماو وغارودي – على عكس تروتسكي – وأسسوا للمذاهب الماركسية السوفيتية والصينية والأوربية. وهو الحال نفسه مع التيار الفكري التجديدي في إيران الذي طرح توليفة فكرية إبداعية؛ عنوانها «الفكر الإسلامي الديمقراطي الوطني» أو «حكم الشعب الديني» أو «الديمقراطية الدينية الوطنية»(11)، وبها اكتسح الانتخابات البرلمانية والرئاسية في عقد التسعينات من القرن الماضي، واستقطب الإسلاميين والقوميين والعلمانيين والسنة والأكراد والبلوش. ولم تأت هذه التوليفة بقرار سياسي ارتجالي؛ بل عبر دراسات ومؤلفات وأطاريح فكرية عميقة. أما ما طرحه حزب الدعوة من برامج ورؤى ومقولات تجديدية بعد العام 1991؛ تأثراً بمستجدات الساحة العراقية في الداخل، وحراك المعارضة العلمانية في الخارج؛ فكانت رؤى سياسية ومواقف سياسية؛ وليست رؤى فكرية كنتاج لبحوث منهجية وورش فكرية. وهو ما جعل حزب الدعوة يعيش إرباكاً في فكره السياسي. واستمر هذا الوضع حتى العام 2003؛ حين برزت لأول مرة مظاهر القبول بالعملية السياسية العراقية بأنساقها الديمقراطية.
وقد ظهرت منذ أوائل تسعينات القرن الماضي توجهات وأفكار لدى بعض الدعاة؛ ممن كان لا يزال مرتبطاً بالحزب أو قد تركه؛ فيها دعوات للقبول بالديمقراطية ونظمها(12). وقد كانت هذه الأفكار غير متبلورة منهجياً من جهة، وسابقة لأوانها من جهة أخرى؛ في ظل كثافة عددية ونوعية للدعاة وقياداتهم في إيران التي تعمل بآليات الديمقراطية ولكنها ترفض فلسفتها، ووجود مفكرين وفقهاء تاريخيين في حزب الدعوة لا يقبلون بنظرية الديمقراطية، ووجود موقف رسمي فكري للحزب يتعارض مع الديمقراطية. وكان معظم قادة الدعوة وكوادرها يرون في تلك الأفكار ترفاً فكرياً واختلاقاً لإشكاليات لم تبتل بها «الدعوة». فضلاً عن أن حزب الدعوة كانت له تكييفات فكرية سابقة سمحت لبعض أعضائه في الوصول إلى البرلمان أو الوزارة في لبنان والبحرين والكويت في إطار آليات ديمقراطية؛ دون الحاجة إلى الإعلان عن موقف فكري غير ضروري. وقد لخّص تكييفاته هذه في نشرة داخلية أصدرها في العام 1960 وذكر فيها العوامل التي تفضي إلى اتخاذ حزب الدعوة مواقف سياسية واجتماعية استثنائية؛ في مقدمها المشاركة في الانتخابات في ظل أنظمة غير إسلامية(13).
وخلال العامين 2003 و2004 بدا حزب الدعوة بحاجة إلى تكييفات فكرية بخصوص القبول بالنظام الديمقراطي والعمل في إطار آلياته. واستند الحزب في هذا المجال على الأذونات الشرعية التي حصل عليها الحزب من الفقهاء؛ ولا سيما السيد كاظم الحائري والسيد محمد حسين فضل الله والسيد علي الخامنئي والسيد علي السيستاني؛ أكثر من استناده إلى التكييفات الفكرية.
وإذا كان رفض حزب الدعوة للديمقراطية بناء على الفهم الإسلامي الحركي السائد في القرن الماضي ينطوي على تأصيل فكري، فإن قراره السياسي بقبول العملية الديمقراطية لم يكن مبنياً على تكييف فكري؛ بل بناءً على ضغط الواقع وحقائقه، أو بكلمة أدق قبول «براغماتي» يحاكي الواقع العراقي محاكاة مباشرة. ولذلك كان إعلان حزب الدعوة قراره السياسي بقبول العملية الديمقراطية في العراق سيفاً ذا حدين؛ فقد أعطي للدعوة وجهاً عصرياً انفتاحياً على وفق رؤية العقل الجمعي العراقي السائد؛ إلا أنه ألزم «الدعوة» في الوقت نفسه بتبعات فكرية وسلوكية خطيرة؛ تتعلق بموضوعات التشريع ومرجعية الشريعة والحقوق والحريات العامة والخاصة؛ وصولاً إلى القبول بكل شرعات حقوق الإنسان الدولية الوضعية على مستوى الدولة والحكومة والمجتمع العراقي؛ بما في ذلك حرية الارتداد، والترويج للإلحاد ولما يتعارض مع أساسيات الإسلام، وتقنين بيع الكحول، وعمل الملاهي الليلية، وعرض ما يخالف الشريعة في الإعلام الرسمي. وبالرغم من أن حزب الدعوة ظل مشاركاً في السلطة وأحد أقطابها الأساسيين؛ إلى جانب علمانيين وملحدين، ولم يكن ينفرد بالسلطة وقرارها؛ إلا أن تلك التبعات تسببت في إحراجات كبيرة للدعوة والدعاة؛ بكل ما يحمله مصطلحي الدعوة والدعاة من أعباء عقدية وفكرية وسلوكية ثقيلة. والأخطر أن شركاء «الدعوة» من غير الإسلاميين وعموم المراقبين ظلوا يلزمون حزب الدعوة بما ألزم به نفسه، ويطالبونه بكل مستلزمات البناء الديمقراطي والحقوق والحريات، ويحاسبونه وينتقدونه بناء على متبناه المذهبي الديمقراطي بكل تفاصيله النظرية والفلسفية والتشريعية والسلوكية.
وقد حاول النظام الداخلي لحزب الدعوة الإسلامية الصادر في العام 2008؛ التكيف في شكله ومضامينه مع مرحلة ما بعد تأسيس العراق الجديد في العام 2003، ولاسيما مع ما يرتبط بملابسات مشاركة الحزب في حكم دولة غير إسلامية، وبواسطة آليات ديمقراطية. ولكن كانت هناك تمظهرات لخلل فكري وقانوني؛ بسبب عدم انسجام جزء من التكييفات مع نظرية «الدعوة». وبالتالي كان نجاحه نسبياً في محاولته صياغة توليفة بين نظرية «الدعوة» والواقع العراقي الجديد الضاغط. وقد طرح بعض الدعاة من أصحاب الاختصاص تصويبات مهمة في هذا المجال؛ لعلها تأخذ طريقها للتعديل في مؤتمرات الحزب.
ويبقى حزب الدعوة بحاجة إلى إعادة تأصيل نظريته السياسية الدعوية الإسلامية الايديولوجية؛ لتنسجم مع حقائق العراق الجديد؛ قبل أن يفصِّلها على مقاس المذهب الديمقراطي. حينها سيكون القبول أو القبول المقيد والمشروط بالمذهب الديمقراطي مترشحاً عن تأصيل فكري معمق؛ للتثبت من مساحات القبول والرفض. ويمكن هنا طرح مفهوم بديل عنوانه العام «الخصوصية»؛ أي «خصوصية الأمة العراقية» و«خصوصية النظام السياسي الوطني العراقي»؛ تكون أهم مخرجاته التأسيس لـ «فكر إسلامي دعوتي وطني عراقي»؛ أي فكر لصيق بنظرية حزب الدعوة من جهة، والواقع العراقي المحلي من جهة أخرى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإحالات
(1) انظر: علي المؤمن، «الفقه والدستور: التقنين الوضعي الدستوري للفقه السياسي الإسلامي».
(2) المصدر السابق
(3) انظر: ثقافة الدعوة الإسلامية، نشرة الأسس بقلم السيد محمد باقر الصدر، وكذلك «الإسلام يقود الحياة» للسيد الصدر نفسه، وأساس الحكومة الإسلامية، ونشرة نظام الحكم الإسلامي (المعدلة) التي أصدرها الحزب في العام 1981.
(4) انظر: الإمام الخميني، «كتاب البيع» في شرح الإمام الخميني على كتاب المكاسب للشيخ الانصاري، و«الحكومة الإسلامية» أو «محاضرات في ولاية الفقيه»، وكذلك ماصدر عن الإمام الخميني بعد العام 1979 من بيانات وكلمات.
(5) انظر: النائيني (مصدر سابق).
(6) تم جمع مجمل هذه الآراء وتحليلها وتقويمها في كتاب النظام السياسي الإسلامي الحديث لكاتب هذه السطور (مصدر سابق).
(7) المصدر السابق، ص 154.
(9) المصدر السابق، ص 156.
(8) أهمها الدراسات والكتب التي صدرت في مصر رداً على خالد محمد خالد في كتابه «الديمقراطية.. إلى الأبد».
(10) النموذج الابرز في هذا المجال كتاب «أساس الحكومة الإسلامية» الذي كتبه فقيه حزب الدعوة – حينها – السيد كاظم الحائري في العام 1979.
(11) ولاسيما ما أصدره الشيخ محسن كديور والرئيس الإيراني الأسبق السيد محمد خاتمي والدكتور مصطفى ملكيان والشيخ مجتهد شبستري.
(12) ومنها ما نشرته مجموعة «الدعاة» التي كان محورها محمد عبد الجبار الشبوط والشيخ خير الله البصري، والتي عرفت بـ «كوادر حزب الدعوة»، وكذلك ما نشره الداعية السابق (الملحد لاحقاً) ضياء الشكرجي، ومنها كتابه «مثلث الإسلام والديمقراطية والعلمانية». وللتعرف على الرأي التقليدي للدعوة بشأن الديمقراطية؛ انظر: الدكتور صلاح عبد الرزاق، «الإسلاميون العراقيون والديمقراطية»، ص 35 فما بعد.
(13) نشرة «العوامل التي تحدد موقف «الدعوة» من المشاركة في الحكم»، الصادرة في العام 1960، الملحق رقم (5) في هذا الكتاب.
latest video
news via inbox
Nulla turp dis cursus. Integer liberos euismod pretium faucibua