نشوء الجدل التاريخي حول الدستور بين النخب الإسلامية

Last Updated: 2024/04/26By

نشوء الجدل التاريخي حول الدستور بين النخب الإسلامية

د. علي المؤمن

ظل الواقع الإسلامي منذ بدايات القرن التاسع عشر الميلادي حافلاً بالصراعات والحراكات الفكرية والسياسية والمجتمعية بين النخب المحلية؛ تميزت بالانفعال غالباً، والفعل أحياناً. ويمكن فهم مظاهر هذه الحراكات من خلال المواقف المتعارضة بين الفقهاء والمفكرين والجماعات الإسلامية والسياسية من ظاهرة الدسترة والدستور. وقد بدأت مواقف الفقهاء والمفكرين والجماعات الدينية بالظهور؛ كرد فعل على الاستبداد السياسي المحلي من جهة، وعلى أصوات بعض المتأثرين بالغرب ممن درس في أُوروبا وعاد منبهراً بالتطور المدني والنظم الحاكمة التي قادت إلى هذا التطور.

وكانت البعثات التركية والإيرانية والمصرية إلى إنجلترا وفرنسا تضم طليعة هؤلاء الدارسين المتأثرين. فالحكومة الإيرانية ـ مثلاً ـ أرسلت بعثتين دراسيتين إلى لندن في العامين 1811 و1815، وحين عاد المبتعثون كانوا يحملون أفكار الثورة الفرنسية والفكر القانوني البريطاني، وما يمكن التعبير عنه بمبادئ القانون الدستوري الحديث الداعية إلى التأسيس لنظام سياسي للدولة مقيد بالقانون، ويفصل بين السلطات، ويمنح الشعب حريته وحقوقه، وينتخب ممثلين عنه ليشكلوا سلطة تشريع ورقابة. وكان من أبرز هؤلاء ميرزا صالح الشيرازي، الذي أتم دراسته في إنجلترا، وعاد إلى إيران في العام 1819 ليبشر بمبادئ الحكم المقيد والديمقراطية والحقوق والحريات والبرلمان.

كما أصدر سفير إيران في لندن ميرزا ملكم خان (1831 ـ 1908) جريدة «قانون»، وألّف كتاب «دفتر تنظيمات» في العام 1885 الذي يعدّ أهم كتاب في الفكر السياسي الإيراني الحديث؛ إذ دعا فيه ملكم خان إلى تأسيس حكومة دستورية على غرار أُوروبا، وكان يأمل أن يكون قاعدة لأول دستور إيراني، وكان ينتقد الحكم الاستبدادي القاجاري بشدة في كتاباته. كما أصدر عدد من المثقفين الإيرانيين كتباً ومقالات وصحفاً نقدية تحررية شبيهة تدعو إلى حكم الشعب وحكم القانون؛ أهمها كتابات عبد الرحيم طالبوف (1834 ـ 1911).

وكان الحراك الدستوري في تركيا العثمانية ومصر الخديوية لا يختلف في معظم دوافعه ومشاهده عنه في إيران القاجارية. فقد كان هو الآخر عبارة عن دعوات لتحديث الدولة والحكم والفكر السياسي ونبذ الحكم المطلق والاستبداد والتخلف. وبما أنّ هذه الدعوات تصدر ـ غالباً ـ من المثقفين العلمانيين المتغربين، بل كان بعضهم لا يخفي انتماءه للمحافل الماسونية أو للفكر الماركسي؛ وكانت تواجه بردود فعل سلبية قاسية من النخب الدينية المحلية أو من السلطة. وقد كان هذا الثلاثي: السلطة السياسية، النخب الدينية، والنخب الثقافية المتغربة؛ في صراع دائم وتهم متبادلة؛ فقد كانت النخب الدينية المجددة (علماء الدين والمفكرون الإسلاميون) تتهم السلطة السياسية بالاستبداد، وتدعوها إلى تحكيم الشريعة الإسلامية، وتتهم النخب المثقفة المتحررة بالتغرب والعمالة الفكرية والسياسية. بينما توجه النخب الثقافية المتغربة تهمتي التخلف ودعم الاستبداد للنخب الدينية، وتهمة الاستبداد للسلطة السياسية، وتدعو لإقامة حكم قانوني علماني.

أمّا السلطة السياسية فتتهم الطرفين بأنّهما يهدفان إلى تقويض استقرار البلاد وأمنها. إلّا أنّ قوة التيار العلماني التغريبي في تركيا كان أقوى بكثير منه في الدولة الإيرانية؛ بسبب الدعم المباشر له من الدول الأُوروبية الرامية إلى التخلص من دولة متمددة في أُوروبا بشعاراتها الإسلامية، ولكنها تمارس كل أساليب الاحتلال. ولذلك لم يكن الصراع في حقيقته بين العثمانيين والأُوروبيين صراعاً دينياً عقدياً، بل كان صراعاً بين قوى استعمارية على النفوذ والتمدد. ولذلك كان دعم الأُوروبيين للحراك العلماني التركي قوياً جداً ومباشراً؛ لتمزيق الدولة العثمانية من الداخل. ولم تكن النخب الدينية في البلدان الإسلامية ـ من جهتها ـ متفقة على رأي فكري أو فقهي أو سياسي موحد بشأن الدستور والحكم القانوني بصيغته الحديثة. فقد كان هناك اتجاهان إسلاميان رئيسان:

الأول: يدعم فكرة الدستور، وتقييد الحكم المطلق، وإقامة نظام ينسجم وأحكام الشريعة الإسلامية. ويرى هذا الاتجاه ضرورة وجود قانون مدوّن ثابت يحكم حركة الدولة والسلطة، ويمنعها من إطلاق يدها في التصرف بشؤون البلاد والأُمّة، ويحرمها حقوقها على مختلف الصعد. كما يرى أنّ الدستور ليس فقط ينسجم مع الشريعة الإسلامية، بل ينسجم مع مبادئ حقوق الأُمّة والشورى وسلطة القانون وتحديث الدولة. وأنّ الخشية من عزل أحكام الشريعة الإسلامية عن حركة الدولة وقوانينها؛ يمكن ضمانه من خلال الدستور نفسه؛ وهو ما لا يمكن ضمانه من السلطان أو الملك في حال عدم وجود دستور، وبالتالي يمكن للدستور أن يشكل ضمانة حقيقية (مدوّنة ثابتة) لعدم عزل الدين وأحكامه عن واقع الدولة. وهذا ما أثبته الدستور العثماني لعام 1876، والدستور الإيراني لعام 1907.

والاتجاه الثاني: يرفض فكرة الدستور وإنشائه وتطبيقه، ويدعو إلى حكم تطبق فيه أحكام الشريعة تطبيقاً مباشراً. هذا الاتجاه يرى أنّ حكم الدولة الإسلامية بالدستور والصياغات القانونية الوضعية بدعة؛ لأنّ القرآن الكريم هو الدستور، والسنة الشريفة هي الشارح، والشريعة الإسلامية هي قانون الدولة، واجتهاد الفقهاء يكمل عملية التشريع. وفضلاً عن الوجه الأُصولي المبدئي الكامن في هذه الرؤية، وهو فعل اجتهادي؛ فإنّ الوجه الآخر لهذه الرؤية هو ردود فعل على حجم التأثير الثقافي العلماني التغريبي في دعوات الدسترة والقوننة التي صدرت خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر والعقدين الأولين من القرن العشرين الميلاديين؛ ولا سيّما خلال تحركات (جماعة تركيا الفتاة) منذ العقد التاسع من القرن التاسع عشر الميلادي، و(ثورة المشروطة) في إيران خلال العقد الأول من القرن العشرين الميلادي. ويبدو أنّ هذا الاتجاه ـ بسبب الضغوط الفكرية والسياسية والنفسية التي كان يمارسها التيار العلماني التغريبي، ودعواته لعزل التقاليد المحافظة والتعاليم الدينية عن حركة السلطة والدولة والتشريع ـ قد صادر كل حسنات الدستور، وحوّله إلى شر مطلق وبدعة كفرية.

وكان هذا الاتجاه يخشى بشدة من عواقب الأخذ بمبادئ وأفكار وقواعد نشأت في بيئة أجنبية متمثلة بالدول الأُوروبية، ولا تمثل مجرد تقنيات مشتركة أو أفكاراً إنسانية عامة، بل نتاجاً فكرياً وفلسفياً ينسجم مع مناخات مختلفة. فضلاً عن الخشية من التغييرات الكبيرة في الاجتماع السياسي، والتي سترافق التحول من النظام السياسي العُرفي القديم إلى النظام الجديد الدستوري، ولا سيّما على صعيد العلاقة بين الدولة والمجتمع، ودور الفئات الاجتماعية في النظام الجديد؛ ولا سيّما علماء الدين، وهو تمدد لسلطة الدولة في صورتها الجديدة؛ يتجاوز اختصاص علماء الدين في جانب التشريع والفتيا، والتحكيم بين الناس، وإدارة المنظومة الدينية الاجتماعية والولاية على الحقوق الشرعية.

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment