نشأة القوانين في التاريخ الإنساني حتى ظهور الشريعة الإسلامية

Last Updated: 2024/04/26By

نشأة القوانين في التاريخ الإنساني حتى ظهور الشريعة الإسلامية

د. علي المؤمن

تزامن نشوء الأعراف والعادات والتقاليد الاجتماعية والسياسية مع نشوء التجمعات الإنسانية وتحولها إلى مجتمعات تسود فيها القيم البدائية. وكانت هذه القيم تعبِّر عن القوانين الأُولى في شكلها العرفي. وكلّما توسعت التجمعات البشرية ونمت عقلياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً؛ برزت الحاجة إلى بلورة الأعراف والعادات وتحويلها إلى شبه ثوابت تنظِّم الحياة الداخلية لهذه المجتمعات وعلاقاتها مع المجتمعات الأُخر.

ومع ظهور الكتابة البدائية المسمارية تحديداً، ونشوء ظاهرة (الدول ـ المدن) لأول مرة على الأرض، وذلك في جنوب العراق السومري، وهي الحضارة الإنسانية الأُولى التي عُرفت بحضارة وادي الرافدين؛ توسعت الحاجة إلى تحويل الثوابت العرفية المجتمعية إلى لوائح مدوّنة، وهو ما يمكن وصفه بتجارب التقنين الأُولى. أي أنّ محاولات التقنين الحقيقية ليست من مستحضرات الحضارة الحديثة، بل عرفتها الإنسانية منذ أقدم العصور. ومن أهم هذه المحاولات: شريعة «أورنمو» السومرية في جنوب العراق، والتي وضعت سنة 3300 ق.م (قبل حوالي ألف وخمس مئة عام على وضع شريعة الملك البابلي حمورابي)، وشريعة «أشنويا» البابلية في سنة 2200 ق.م، وشريعة «لبث عشتار» البابلية في سنة 2150 ق.م، و«شريعة حمورابي» البابلية، التي احتوت على أكثر من (282) مادة بأُسلوب علمي يقترب من القوانين الحديثة، وهي مقسمة إلى فقرات ومواد، ووُضعت ما بين السنوات 1792 ـ 1750 ق.م. وبعد ظهور الشرائع والقوانين السومرية والبابلية في جنوب العراق وفراته الأوسط؛ بمئات السنين؛ ظهرت الشرائع في دول العالم الأُخر، وأهمها: «شريعة مانو» الهندية؛ ذات الصياغة الشعرية، والمكونة من (2658) بيتاً، ووُضعت على أرجح الآراء في القرن الثالث عشر ق.م، و«دستور جوجونج» الصيني؛ الذي صدر بين سنتي 1115 ـ 1079 ق.م، ثم «قوانين دراكون» في أثينا الإغريقية في سنة 594 ق.م. ثم جاء قانون «الألواح الاثني عشر» أو قانون «الرجال العشرة» الروماني الصادر سنة 449 ق.م بأُسلوب شعري.

وتخلل ذلك أيضاً ظهور محاولات التقنين في الحضارات الأُخر؛ كحضارة العيلاميين في غرب إيران، ثم الحضارة الفارسية في شمال ووسط إيران، وحضارة (المايا) في المكسيك، والحضارة اليابانية، والحضارة الصينية، وهي الحضارات التي سبقت المجتمعات البشرية الأُخر، إلى جانب الحضارات الإغريقية والرومانية والهندية والمصرية والعبرانية، وقبلها جميعاً الحضارة العراقية؛ في وضع القوانين والشرائع الأُولى، وهي ـ كما ذكرنا ـ عبارة عن تقنين للعادات والأعراف والتقاليد.

وكانت عملية التقنين تمثل إرادة السلطة؛ ولا سيّما السلطة الاجتماعية ـ السياسية؛ الممثلة برئيس التجمع البشري أو زعيم القبيلة أو الأمير أو الملك والإمبراطور والشاه والفرعون والقيصر. ولذلك جاء التقنين ليعزز ـ غالباً ـ سلطان الزعيم والملك، ويقسم المجتمع طبقياً، ويجعل الدولة والمجتمع بكل طبقاته ونشاطاته الاقتصادية والدينية والسياسية والعسكرية بخدمة السلطان المطلق. وكانت السلطة الدينية أداةً إضافية مهمة بيد الزعيم أو الملك؛ يكرس من خلالها سلطانه وجبروته واستعباده الناس، ويضفي على نفسه مسوحاً دينية ـ إلهية. ولذلك كان التقنين ـ تاريخياً ـ يصب في مصلحة الزعيم والملك، ويتعارض مع مصلحة الشعب.

بينما كان الأنبياء والمرسلون وأولياء الله يمارسون الدور المعاكس لسلطة الزعماء والملوك وقوانينهم؛ سواء من خلال نصوص الوحي أو من خلال حركتهم وسلوكهم؛ فكانت شرائع السماء الممثلة بتعاليم الأنبياء تقف إلى جانب الشعوب والأُمم، وتدافع عن حقوقها وحرياتها، وتعمل على تنظيم حياتها في إطار غايات العدالة الدنيوية والكدح نحو الغيب والحياة الأُخرى. وهو ما ظل يتعارض مع قوانين الأرض التي يشرِّعها الزعماء السياسيون والملوك. وبذلك ظلت الشرائع الدينية السماوية قواعد لتحرر الشعوب واستعادتها حقوقها وإصلاح أوضاعها، ولمجابهة سلطة الملوك المطلقة، وسلطة كهنتهم ومعابدهم وأديانهم الأرضية.

ومثّل ظهور الإسلام في جزيرة العرب، تحولاً أساسياً في مسارات التقنين الإنساني؛ على المستويين الموضوعي والفني؛ فقد جاءت الشريعة التي بشَّر بها الرسول محمد(ص) لتحمي مصالح الشعوب والناس العاديين، في إطار العدالة وحقوق الإنسان والحريات العامة، وتُحررهم من جبروت الملوك وسلطات السياسة والمال والدين الوضعي، وتنظم حياتهم على كل المستويات. أمّا من الناحية التقنية (تقنيات التشريع)؛ فقد جاءت أحكام الشريعة الإسلامية في غاية التنظيم والتفصيل والشمولية والتوزيع الموضوعي. وبذلك تكون الشريعة الإسلامية ـ من الناحية التقنية ـ أهم منظومة قانونية متكاملة عرفتها الشرية، والوحيدة الصالحة لكل زمان ومكان. ولا نطرح هذا القول بدوافع عقدية وايديولوجية، بل من خلال استقراء موضوعي للشرائع والمنظومات القانونية الأُخر، ومقارنتها مع منظومة التشريع الإسلامي. ويمكن في هذا المجال مراجعة مئات الكتب والشهادات التي كتبها مسلمون وغير مسلمين، ومنها اعترافات المؤتمرات الدولية؛ من مؤتمر لاهاي في العام 1932 وحتى مؤتمر المجمع الدولي للقانون المقارن في العام 1951، إضافة الى ما وثّقه “غوستاف لوبون” في كتاب «حضارة العرب»، و”سيديولوت” في كتاب «تاريخ العرب»، والدكتور عبد الرزاق السنهوري في كتاب «فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أُمم شرقية»، والدكتور جمال الدين عطية في كتاب «تراث الفقه الإسلامي ومنهج الاستفادة منه».

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment