موقع المرجع السيستاني لم يحظ به مرجع في العراق
موقع المرجع السيستاني لم يحظ به مرجع في العراق
د. علي المؤمن
عاش النظام الاجتماعي الديني الشيعي والمراجع الشيعة في العراق، عصورهم الذهبية خلال العهدين البويهي والصفوي، وتحديداً على مستوى الحريات المذهبية والحركة الميدانية وتنفيذ صلاحياتهم في القيادة والولاية. وتتركز أهمية هذا الموضوع في العراق خاصة، أكثر من أية دولة أخرى، سواء إيران أو دول الحضور الشيعي الأُخر، لأن مركزية النظام الاجتماعي الديني الشيعي والمرجعية العليا والحوزة العلمية، ظلت قائمة في العراق، وهو ما ينعكس على الواقع الشيعي في العراق نفسه وعلى واقع الشيعة في كل دول العالم، هذا من جهة، ومن جهة أُخرى فإن إيران هي دولة شيعية بالأساس، ولا يتعرض فيها الشيعة لأزمات طائفية وليس لعلماء الدين الشيعة فيها مشاكل كبيرة، كما أن الشيعة في دول الحضور الشيعي الأُخر، هم أقليات غالباً، ويتبعون مركزية النظام الاجتماعي الديني الشيعي. ولذلك؛ فإن معوقات عمل علماء الشيعة في العراق هو موضوع مركزي وأساس ويؤثر في كل الوضع الشيعي العالمي، وهو ما كانت تدركه السلطتين العباسية والعثمانية وغيرهما؛ حيث كان شيعة العراق منذ تأسيس النظام الاجتماعي الديني الشيعي في عصر الغيبة، يعني منذ السفراء الأربعة، ثم بعدهم الفقهاء الأربعة، يعانون بشدة من الحروب الطائفية التي تشنها عليهم الحكومات والمؤسسات الدينية الطائفية التي لا تعطيهم فرصة التعبير عن حقيقة قيادتهم للمجتمع، وحقيقة إمامتهم الزمنية للطائفة وللمذهب.
وقد كانت غاية السلطة السياسية السنية ومؤسساتها، سواء كانت طائفية أو معتدلة؛ الاستفراد بالأمة، وبالشعوب التي تحتل بلدانها، وتستفرد بمؤسسات السلطة والدولة، ولا تعطي الفرصة للمرجع الديني الشيعي لكي يمارس مهامّة الطبيعية كمرجع زمني وديني للأمة، لأنها لا تريد منافساً، حتى لو كان منافساً سنياً؛ فكيف إذا كان المنافس زعيماً دينياً شيعياً.
لكن المرجع الوحيد الذي توافرت له هذه الفرصة في العراق هو السيد السيستاني بعد العام 2003 ولم تتوافر لغيره، لأنّ المكوّن الشيعي الأكبر بات جزءاً من قرار الدولة والحكم، ولأنّ الأغلبية السكانية الشيعية بعد العام 2003 شاركت في الحكم، وأصبحت الشريك الأكبر، وأصبح الحاكم الأول شيعياً، أي رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة. وقد فتح هذا الأمر الأبواب أمام النجف وفتح أبواب النجف على مصراعيها، لتأخذ مجدها وتعبر عن نفسها لأول مرة في تاريخ الشيعة. بينما كانت أبواب المراجع والعلماء مغلقة قبل العام 2003؛ فقد كانوا محاصرين ومقيدين، ومن فتح أبوابه فقد أعدم أو قتل في الشارع. وهكذا قتل النظام البعثي المئات منهم، وهجّر الآلاف، واعتقل الآلاف. كانت هناك هجمة شرسة شاملة على الحوزة العلمية وعلى علماء الدين خصوصاً، وعلى الشيعة والمذهب الشيعي بشكل عام. ولكن بعد 2003، انقلبت الصورة تماماً، فأصبح الشيعة مشاركون في الحكم مشاركة قيادية، وأصبح مرجع الطائفة، أي السيد السيستاني، مبسوط اليد نسبياً فيما يتعلّق بالواقع العراقي، وأصبحت له كلمة ودالّة على تشكيل الحكومة واستقالتها، ودالة جوهرية على الأحزاب الشيعية الحاكمة، وعلى عموم الشيعة.
وإذا أردنا أن نكون دقيقين وواقعيين؛ فإن الكردي السني والعربي السني لا يؤمنان بالمرجعية بالشكل الذي يؤمن به الشيعة، واحترامهم للمرجعية إنما هو من باب الأمر الواقع، أما الشيعة فإنهم يؤمنون بأن المرجع الديني هو نائب الإمام المهدي، وله سلطة تتعلّق بأنواع الولايات التي يمتلكها، وخاصة ما يتعلق بموضوع التقليد وإدارة الأمور الحسبية، وهذا يجعل السياسي الشيعي وصاحب السلطة الشيعي يلتزم بتوجيه المرجع، سواء كان مقتنعاً أو مضطراً، بينما السني والكردي لا يقلّدان المرجع الديني ولا يرجعان إليه في أمور الحسبة ولا في أي أمر آخر، ولا يؤمنون بقيادة المرجع الأعلى، ولكن باعتبار السيد السيستاني هو مرجع المكوّن الأكبر، أي مرجع الخمسة وستين بالمائة من الشعب، بمن فيهم الذين لا يقلّدون السيستاني؛ فإنهم مضطرون لاحترامه والاستماع إليه، والاحتكام إليه أحياناً.
ومن خلال المجسّات والإحصاءات التقريبية والحركة الميدانية؛ يظهر أن الأكثرية الساحقة من شيعة العراق يقلدون السيد السيستاني، وربما لا يقل عن 70 بالمائة من الشيعة المقلدين. وهناك من لا يزال على تقليد السيد محمد باقر الصدر والسيد الخوئي والسيد محمد الصدر والسيد محمد سعيد الحكيم رحمة الله عليهم، وهناك من يقلد مراجع آخرين كالسيد كاظم الحائري والسيد على الخامنئي. لكن نسبة مقلّدي السيد السيستاني هي الأغلبية الساحقة في العراق.
وهناك قضية مهمة عند الشيعة، وهي العلاقة الفطرية الروحية بالمرجعية العليا، حتى عند من لا يقلد أساساً، أو يقلد مرجعاً آخر. والذي يقلّد المرجع يعني أنه يقرأ رسالته العملية ويطبقها ويتّبع فتاواه، ويستفتيه في الصغيرة والكبيرة، ثم يعطيه الحقوق الشرعية، وهذا ربما غير متوافر عند أكثر من نصف المقلدين أو أكثر من نصف الشيعة، ولكن العلاقة بالمرجع الأعلى أوسع من ذلك؛ فهي علاقة وجدانية، علاقة روحية وأبوية، علاقة بالقيادة الاجتماعية الدينية، وحتى الذي لا يقلّد المراجع، أو الشيعي غير المتدين وغير ملتزم؛ فإنه يشعر بالانتماء إلى المرجع الأعلى، لذلك؛ فإن الأغلبية الساحقة من أبناء الطائفة الشيعية يحسّون بالانتماء الى لمرجع الديني، حتى وإن لم يكونوا ملتزمين دينياً، ولا يؤدّون الفرائض وغير ملتزمين عبادياً ومعاملاتياً، لكنهم يلتزمون قيادة المرجع وأبوة المرجع والإمامة الزمنية للمرجع.
وقد حظي السيد السيستاني بموقع مختلف عن الموقع الذي كان يحظى به الشيخ مرتضى الأنصاري والسيد أبو الحسن الإصفهاني والسيد محسن الحكيم وغيرهم من مراجع الشيعة الكبار، رغم أن المنصب واحد من الناحية النظرية، والصلاحيات واحدة والولاية واحدة، وهنا أتكلم عن الجانب العملي وعن القدرة الموضوعية التي توافرت للسيد السيستاني لتطبيق صلاحيات الفقه وولايته، وذلك لأن الظرف السياسي صار ملائماً. ويمكن أن نشبّه هذا الظرف بظروف الكثير من مراجع الدين الشيعة الذين عاشوا العهد البويهي ومرحلة الامتداد الصفوي لبغداد؛ فقد حصل فارق كبير في الوضع الشيعي في العراق وفي الحوزة وحراك مراجع الديني، بين العهد العباسي ثم الاحتلال العثماني من جهة، وبين الاحتلالين البويهي والصفوي من جهة أخرى؛ فأغلب علماء الدين الشيعة كانوا مضطهدين في البلاد العباسية والعثمانية، ومنها العراق، ولكن عندما جاء البويهيون والصفويون إلى العراق؛ أصبحت أبواب الحوزة والمرجعية مفتوحة على المجتمع والدولة، بكل حرية، ودون أي معوق، بل كانت الدولة تدعم الحوزة والمرجعية وعلماء الدين دعماً كبيراً؛ الأمر الذي كان يحقق للطرفين أهدافهما المتشابهة غالباً.
ما سبق يعني أن واقع السلطة والظرف السياسي الإيجابي الذي يكون فيه للسياسيين الشيعة حضوراً مركزياً في الدولة، وإن كان بعضهم أو أغلبهم سيئين، هو الذي يمنح المرجع الأعلى تمكيناً للعمل وفق صلاحياته وولاياته، وهو أمر كان يعيه بقوة فقهاء العصر الصفوي؛ فدعموا الدولة الصفوية بكل قوة، سواء كان دعماً بالحكم الأوّلي أو الحكم الثانوي، ثم حصدت الأجيال التالية هذا الدعم والجهود فيما بعد، وحتى اليوم، على شكل استقرار مجتمعي وحرية شاملة لعالم الدين بالعمل والتحرك، وهو ما افتقد إليه المجتمع الشيعي العراقي والحوزة العلمية والمرجعية الدينية في العراق، طيلة القرون التي سبقت العام 2003.
latest video
news via inbox
Nulla turp dis cursus. Integer liberos euismod pretium faucibua