من التراث إلى المستقبل

Last Updated: 2024/04/26By

من التراث إلى المستقبل

د. علي المؤمن

التراث الإسلامي العلمي هو مساحة المراجعة الأساسية، ولا نقصد به التراث الكلامي والفكري والفقهي والأُصولي الذي خلّفه علماء الكلام والفقهاء والمحدّثون والرجاليون والمؤرخون والمفسرون والحكماء والمفكرون من السلف الصالح وحسب، بل يشتمل التراث أيضاً على ما وضعه المعاصرون؛ إذ إنّ مسار المعرفة الإسلامية مسار واحد ممتد، وهو حصيلة جهود متواصلة وتراكم معرفي غير منقطع، وفهم تكاملي يعبر عن مسيرة الوعي والاجتهاد والعقل الإسلامي عبر مراحل التاريخ المختلفة، وهذا التلازم هو الوجه الآخر لقانون (الوراثة الحضارية). ولا نقصد بالتراث ثوابت الشريعة فقهاً وعقيدة، فهي ـ كما ذكرنا ـ لا تنتمي إلى تراث المسلمين ولا تشكل مساحات للمراجعة؛ لأنّها ليست إفرازاً لزمن أو عصر أو بيئة، ولا تتأثر بقواعد التاريخ والجغرافيا.

وتعاملنا مع التراث وأنماطه ومعارفه لا بدّ أن يتضمن أدق ألوان الاعتدال والتوازن: إذ إنّ الإفراط والتفريط والانفعال والنظرة المبتورة ستؤدي إلى نتائج قاصرة تماماً عن تحقيق الهدف المطلوب من المراجعة. ففي الوقت الذي لا يعدّ فيه التراث سلطة معرفية ثابتة وقاهرة، فإنّه ـ لا شك ـ يشكل جزءاً من هوية الأُمّة وتكوينها العقيدي والثقافي والاجتماعي والنفسي.

ومن هنا؛ فالتراث هو قوام حضارتنا في الماضي وإطار هويتنا في الحاضر ومنطلق دخولنا عالم الغد. ولكن يبقى أنّ هذا التراث يعبّر عن فهم عصر آخر وزمن مختلف، وكان تعبيراً عن التجديد والإبداع في البيئة التي أنتجته، ولا ينبغي أن تبقى نظمه المعرفية والعقلية وأدواته ومناهجه، التي صاغتها عقول المبدعين والمجددين في أزمنتهم، عائقاً أمام المراجعة والإصلاح والتطور الفكري، والتنمية الشاملة، والتغيير والنهوض الإسلامي الذي يكفل التأسيس للبديل الحضاري الإسلامي المستقبلي.

والظواهر الفكرية والحركية المتنوعة التي تشهدها الساحة الإسلامية، منذ بدايات القرن الميلادي الماضي وحتى الآن، هي ـ في معظمها ـ إفراز لأنماط التعامل مع التراث، والذي كشف عن ثلاثة تيارات رئيسة، بغض النظر عن أسمائها ومسمياتها وطبيعة انتماءاتها وزمن انبثاقها، الأول والثاني تعاملا تعاملاً انفعالياً، غير متوازن ولا واقعي مع التراث ومعارفه وعلومه، إذ جمد الأول على فهم السلف وأدواته ونتاجاته، ولم يع حقائق العصر ومتطلباته وضرورات استمرار الاجتهاد والاكتشاف والتأسيس، فيما أدار الثاني ظهره للتراث ومعارفه وتمسك بالعصر ومشاكله وأفكاره. وهذا التعامل غير المتوازن مع التراث والعصر تسبب في ألوان من القلق والانحراف والانفلات العقيدي والفكري والسلوكي.

ويبقى أنّ رهان المستقبل هو على التيار الثالث الذي عاش توازناً منهجياً وواقعياً في تعامله مع قضايا التراث والعصر؛ فأنتج نمطاً متوازناً أيضاً من الفكر والرؤى والخطاب والسلوك، حفظ له أصالته الإسلامية ومكنه من معالجة كثير من تحديات العصر، من خلال خطاب عصري في لغته وشكله، وأصيل في بنيته ومضامينه. وهذا الاختلاف في فهم الأُصول المقدسة وقواعد التعامل معها، وفي نوعية النظرة إلى الإنتاج العلمي والفكري للمسلمين، وإلى قضايا العصر ومتطلباته، هو المؤشر الأبرز على الجانب البشري في التراث. والذي يسمح لأهل الاختصاص بالمراجعة والتنقية والتجديد والتأسيس وإعادة البناء.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment