منهج دراسة المسألة الطائفية في الواقع الإسلامي

Last Updated: 2024/04/26By

 

منهج دراسة المسألة الطائفية في الواقع الإسلامي

د. علي المؤمن

منذ نشوء المنظومة الطائفية في الواقع الإسلامي، وتشكيل نواتها وظهور ممارساتها المدخلية في عصر صدر الإسلام؛ فإنها لم تكن ذات أهداف دينية أو رؤى عقدية، بل ظلت تعمل وفق أهداف سلطوية وسياسية وممارسات إقصائية، لكنها تحوّلت بمرور المزمن إلى عقائد وفرق ومذاهب، مؤطرة ــ غالباً ــ بألوان من الطائفية السياسية، أي أن الوجود للطائفي في الواقع الإسلامي، يسبق ظهور الفرق العقدية والمذاهب الفقهية، بل أن أغلب هذه الفرق والمذاهب تأسس بناء على الأمر الواقع الطائفي أو الفرز الطائفي القائم أساساً.

وهذا لا يعني أن الخلاف بين المسلمين بدأ سياسياً وطائفياً، بل كان هناك تباين في النظرة الى خلافة رسول الله؛ ففريق الإمام علي كان يعتبرها شأناً عقدياً ودينياً، بالنظر لوجود نصوص ووصايا من الرسول، وهي نصوص دينية وليست سياسية، كما يعتبرون الخلافة شأناً دينياً وسياسياً غير منفصلاً في بعديه، أو أنها الشق السياسي الإداري الدنيوي من الإمامة، بينما كان يرى فريق من الصحابة أن الخلافة شأن سياسي ودنيوي، ويرى بأن الخلاف حولها خلاف سياسي خاضع لوجهات النظر فيمن يمكنه قيادة الأمة ورئاسة الدولة بعد النبي، وليس موضوعاً دينياً عقدياً. وبالتالي؛ فإن الخلاف ليس له توصيف موحّد بين المسلمين، لأن كل فريق ينظر إليه من زاوية مختلفة. وهو ما اضطرهما الى الدخول تدريجياً في سجالات ومماحكات روائية ثم كلامية ثم فقهية، فضلاً عن الصراعات السياسية، التي بدأت في عهد الخليفة عثمان، وسيطرة آل أمية على مقدرات الدولة، وهو ما أفضى الى تأسيس الفرق الكلامية والمدارس الفقهية، والتي عززها الابتعاد عن عصر النص، وعمليات الوضع في الحديث خلال حكم معاوية بن أبي سفيان، واختطاف الدولة الإسلامية، وإقصاء آل البيت، وما رافقه من ممارسات وسلوكيات تتعارض مع بديهيات الشريعة. وهكذا بات الموضوع الطائفي خليطاً من السياسة والسلطة والرواية والعقيدة والتفسير والفقه.

وبقي الواقع الاسلامي محكوماً بهذا الخليط التاريخي، بل يعيشها بكل تفاصيلها؛ فما برح المسلمون يعيشون التاريخ، ويتفاعلون مع أحداثه، وكأنهم جزء منه وهو جزء من حیاتهم الیومية. کما ظلت إثارة الموضوع الطائفي وتضخيمه واللعب على تناقضاته، خارج سياقاته التاريخية والموضوعية، محكومة بالظرف السياسي، وبقوة المنظومة الطائفية أو ضعفها، حتى نجد ــ غالباً ــ أن وراء هذه الإثارات مؤامرة من قبل المنظومة الطائفية، تستهدف الواقع الإسلامي في الصميم، وتضع نصب عينيها تمزيقه وشرذمته.

وفضلاً عن العامل الداخلي التاريخي المتمظهر في التباين والتضاد والتعارض بين تيارات المسلمين العقدية ومذاهبهم الفقهية ومجتمعاتهم (الطوائف) وتوجهاتهم الفكرية والسياسية؛ فقد دخل عامل آخر على خط خلافات المسلمين وتشتيتهم، هو العامل خارجي، والذي كان يتمثل سابقاً في دور اليهود والنصارى في اختراق مدونات الحديث والرواية، بينما بات يتمثل منذ ثلاثة قرون تقريباً في التدخل الأوروبي، الفكري والسياسي والعسكري، والذي ظل يستثمر الخلاف ويصعده ويجني نتائجه.

ولا شك؛ إنّ العصبية الطائفية مرض قاتل في جسد أمة الإسلام، لأنها نزعة سياسية اجتماعية إقصائية، لا علاقة لها بتعاليم الدين والتمسك بها، أو الالتزام الديني المذهبي، فالمتعصب الطائفي ليس بالضرورة أن يكون متديناً أو ملتزماً نظرياً وسلوكياً وعبادياً بتعاليم المذهب، لكنه يتعامل مع موضوع الطائفة تعاملاً اجتماعياً سياسياً، شأنه شأن العنصري؛ فالعنصرية هي أيضاً نزعة اجتماعية سياسية، ومظهرها التعصب للعرق والقومية، وإقصاء أبناء القوميات الأُخر وتهميشهم سياسياً واجتماعياً وثقافياً ومعيشياً. وإذا ما اجتمعت النزعتين الطائفية والعنصرية في جماعة واحدة تعيش داخل أمة المسلمين؛ فإنها ستكون سلاح دمار شامل وخلية سرطانية فتاكة.

كما أنّ التكتم على جذور الطائفية وأفكارها وأعراضها ومن مارسها ويمارسها، بذريعة عدم إثارة الطائفية؛ هو تكريس للطائفية وتثبيت لدعائمها الى أمد غير منظور، كالتكتم على وجود المرض في جسد المريض. ولذلك؛ فإن دور الطبيب الحاذق يبدأ بدراسة أعراض المرض، كمقدمة لمكافحة الخلايا السرطانية والفايروسات والجراثيم، وهي الدراسة التي ينبغي أن تكون عميقة ولصيقة بالمرض، أما ترك الحديث عن المرض، والتغطية عليه، والنظرة السطحية إليه، بحجة عدم تخويف المريض وأسرته أو كيلا يشمت خصوم المريض؛ فإنه لن يؤدي الى معالجة المرض، بل سيقود المريض الى الموت قطعاً. أي أن التكتم على مسارب الطائفية وأفكارها وأعراضها ومن مارسها ويمارسها؛ بذريعة عدم إثارة الطائفية؛ هو الآخر تكريس للطائفية وتثبيت لدعائمها الى يوم القيامة. وحين يتعمق الطبيب بموضوع المرض ومسبباته، ويتحدث عن أعراضه؛ فإنه يهدف الى استئصال المرض، ولا يريد مفاقمة المرض وتحفيز مسبباته.

وهنا يتقمص الباحث في موضوع الطائفية، دور الطبيب في أساليب اكتشاف المرض في الجسد وتشخيص حجمه، ثم تشخيص العلاج والدواء، ما يعني أن الفرق بين الطبيب الذي يقوم بالكشف عن جذور المرض وأسبابه وأعراضه، وبين الفايروس الذي يتسبب في المرض ويقود المريض الى الموت، هو فرق لا يحتاج الى استدلال. وبما أن الدراسة الموضوعية لمرض الطائفية، بهدف تشخيصها والمساهمة في علاجها، يحتاج الى مهارة ودرجة عالية من الوعي والتخصص والخبرة والممارسة؛ فإنّ الطبيب الذي يقوم بهذه المهمة، كأنّه يمشي على حد السيف، ويواجه مهمة صعبة جداً. وهنا لابد من التحذير والتشديد على خطورة إثارة الموضوعات الطائفية دون وعي بهذه الخطورة، ودون الإمساك بخيوط الحل والعلاج، وإلّا فإن العبث في هذا المضمار ومجرد الإثارة؛ سيؤدي الى تفاقم أعراض الطائفية.

وبالتالي؛ لا يمكن تجنب المعالجات العلمية الحفرية لواقعنا الوطني والإقليمي والإسلامي وأمراضه؛ بمسوغ استغلالها من السياسيين أو من الخصوم، أو بمسوغ عدم توافر الوعي والخبرة والتخصص، لأن السياسي والخصم والعدو يستغل أي شيء لتحقيق أهدافه، بل يستغل حتى كلام الله والدين والمذهب. وينبغي الالتفات هنا الى أنّ لغة الباحث تختلف عن لغة السياسي والدبلوماسي والصحفي؛ فالباحث ليس سياسياً بحاجة الى إرضاء الآخرين أحياناً، واستفزازهم أخرى، وليس دبلوماسياً أو مفاوضاً لكي يضطر الى الحديث بلغة ضبابية عامة، بل أنّ من بديهيات عمل الباحث الموضوعي المتخصص تسمية الأشياء بمسمياتها، ووصف الواقع وتحليله كما هو، دون مواربة وتسطيح واستغفال لنفسه وللآخرين، وصولاً الى إيجاد مفاتيح الحلول وتفكيك الإشكاليات. كما أنّ من واجب الباحث المنتمي، بصفته العلمية وبحكم انتمائه وهويته؛ عدم العبور على الحقائق، وعدم تجاوز المفاهيم المصطلحات أو تزييفها.

وإذا كان المنهج الحفري الوصفي التحليلي في قراءة المنظومة الطائفية، وجذورها ومساراتها التاريخية، وحضورها في الواقع الإسلامي، وصولاً الى استنتاج الباحث لرؤيته؛ يستفز بعض الناس، ويدفعهم الى توزيع الاتهامات جزافاً؛ فإن هذه مشكلتهم وليست مشكلة الباحث. ومقتضى استخدام هذا المنهج؛ الابتعاد عن هذا الخطاب التسطيحي في الوصف والتحليل والاستنتاج والمعالجة، والذي يقود الى نتيجتين متعارضتين: إحداهما طوباوية، ترى أن المجتمع الإسلامي مجتمع واحد والأمة الإسلامية أمة متعاضدة متكافلة، ولا توجد خلافات وصراعات بين المسلمين، وأن هذه الصراعات صنيعة الكتّاب التي يتحدثون بها، والأخرى سوداوية، تذهب الى أن المسلمين مجموعة أمم متعارضة، لا يمكن أن تتعايش وتتقارب، وأن الوحدة على أساس المصالح بين المسلمين أمرٌ مستحيل، وأن الصراع الطائفي لابد أن يستمر.

    وتدفع هذه المنهجية الحفرية أيضاً، بعض من يصف نفسه بـ (المتحرر من المذهبية) و(العابر على عقد التاريخ)، بتوجيه اللوم للباحث، لأنه يجتر التاريخ ويعيش فيه، ويلوك التراث ويتعبّد به، ويرى ـــ في المقابل ـــ بأن الحل الوحيد لــ (عقدنا النفسية المذهبية) يكمن في تحررنا من لوثات التاريخ والتراث. والحال؛ أن التراث ليس موضوعاً للتعبد ولا للتقديس، بل هو الخزين المعرفي لمنظومة المسلمين الفكرية، وهو يختلف عن أصول الإسلام المقدسة (القرآن والصحيح من السنة)، وهذا الأصلان ليسا تاريخاً ولا تراثاً، بل الثابتان المعياريان لكل أنواع الفكر والسلوك، والتحرر منهما يعني الخروج عن الدين وعليه.

وهنا يكمن الفرق الجوهري بين من يمارس النزعة الطائفية ويجتر التاريخ، ويحولهما الى مظاهر تعصب وتمييز وتهميش وإقصاء، بهدف إثارة الفتنة الطائفية وتعميقها بين شرائح الأمة والشعوب المسلمة، وبين من يعتمد العقيدة ويستثمر التاريخ ومساراته، ويكشف عن شكل المنظومة الطائفية ومضمونها، ويتحدث عن خطورتها ورموزها، ويضع الحلول للقضاء عليها؛ فالطائفيون هم الذين يمارسون الدور الأول، أما الباحث المنتمي الحريص؛ فهو يمارس دور الطبيب المعالج ورجل الإطفاء. وبما أن الأمة كائنٌ حي؛ فإنها حين تتعرض لأية أزمة مرضية أو ظهور أعراض جديدة لمرض مزمن؛ فعليها ألّا تخفيه ولا تعبر على حقيقة وجوده، بل لابد أن تعترف بمرضها، فذلك هو مدخل الشفاء والتعافي؛ إذ سيدفعها ذلك الى الذهاب الى الطبيب الاختصاص، الذي سيشخص المرض بدوره ويكتب لها العلاج. وأمتنا المسلمة مصابة بأمراض مزمنة، لابد أن نكشف عن أسبابها وأعراضها، حتى وإن كانت الأسباب والأعراض مخجلة وقاسية ومؤلمة، ثم يكون لحكماء الأمة كلمة الفصل في طرق العلاج وأساليبها.

وهنا لابد من الإشارة الى بعض النماذج السرطانية الطائفية، التي ظلت تتبع منهج ((رمتني بدائها وانسلت))، كونها تسببت بشكل أساس في واقعنا المرضي الطائفي، وفي الوقت نفسه اتهمت من يعترض على طائفيتها بأنه طائفي يستحق السجن والجلد والقتل والتشريد ومصادرة الأموال؛ فقد كانت الأنظمة الطائفية الاستئصالية، منذ الأمويين وحتى العثمانيين والوهابيين والبعثيين والقوميين، وصولاً الى الطائفيين من الحركيين الإسلاميين والعلمانيين، تعمل على مسارين متكاملين:

الأول: قمع المختلف المذهبي وتهميشه، ومنعه من الحصول على حقوقه الاجتماعية والمدنية والسياسية والمذهبية، بذريعة الخروج على مذهب الدولة.

الثاني: قمع صوت المختلف المذهبي من الاعتراض على الممارسة الطائفية للسلطة. أما مسوغ السلطة هنا فهو أن هذا الصوت هو صوت طائفي يعمل على بث الفرقة في المجتمع وزعزعة أمنه الاجتماعي.

والمفارقة هنا تكمن في المسار الثاني؛ فمسوغ السلطة في اتهام كل من يعترض على ممارساتها الطائفية بأنه طائفي، إنما هي تهمة معلبة جاهزة، أو بكلمة أخرى، سيف مسموم تذبح به السلطة الطائفية الاستئصالية كل من يعترض على قمعها الطائفي؛ فإذا أراد الآخر المذهبي ممارسة شعائره الدينية بحرية؛ فهو طائفي، وإذا أراد المطالبة ببعض حقوقه الاجتماعية؛ فهو طائفي، وإذا تحدث بجزء من مظلوميته؛ فهو طائفي. وهذا اللون من القمع المركّب والإقصاء والقتل السياسي والإعلامي الاستفزازي، لايزال يمارسه الطائفيون بكل أشكالهم، ضد كل من يتحدث عن طائفيتهم، بهدف الإبقاء على الواقع الطائفي المتراكم كما هو، وتسقيط كل من يواجههم ويفضحهم متلبسين بطقوسهم الطائفية. في حين أن الالتصاق بالواقع والبيئة والزمان والمكان، واستشعار المخاطر بشكل موضوعي ومعتدل، سيقود تلقائياً الى معالجة أمراض الواقع، وفي مقدمتها الطائفية، لتجنب العيش على أنقاض وتراكمات مَرَضية معدية، والتغطية على هذه النفايات الملوثة. ولعل أكثر من يستطيع معالجة الطائفية، هو من اكتوى بنارها، وأبصر ضوء الحياة وهو يعيشها بكل تفاصيلها وأشكالها ومضامينها. ولذلك؛ فإن بغض الطائفية والتمييز الطائفي والتهميش والإقصاء من الذي اكتوى بنارها، ليس مجرد بغض نظري وترف فكري وتشدق بالحقوق والحريات، كما يفعل المترفون فكرياً والمتفرجون والمنفعلون والمصلحيون، بل هو بغض ورفض معجون بالتجربة المريرة، وبالتالي؛ لا يمكن للإنسان العاقل السليم أن يبغض ظاهرة ويمارسها.

والواقع الإسلامي بأمس الحاجة دائماً الى حراك شامل مركّز يقوده عقلاء الأمة، فضلاً عن جهود فكرية وإعلامية وبحثية مكثفة من شأنها التقريب بين فصائلها ومكوناتها، ولا سيما الطائفتين السنية والشيعية، بالنظر لأجواء الشحن والتوتر الطائفي التي تميز المشهد الإسلامي، وخاصة بعد التحول السياسي والاجتماعي الذي أعقب تأسيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وتداعياته وآثاره في المنطقة الإسلامية، وكذلك سقوط دولة البعث في العراق وتداعياته، ثم تحرر الأمة الإسلامية نسبياً من ظاهرة الحصر الطائفي والانغلاق المذهبي. ولعل من أخطر هذه التداعيات تنامي ظاهرة التكفير، والاستخفاف بدماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم ومقدساتهم.

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment