منهج المدرسة التكاملية في دراسة حركة التاريخ

Last Updated: 2024/04/26By

منهج المدرسة التكاملية في دراسة حركة التاريخ

د. علي المؤمن

يكشف هذا الاستعراض عن تقاطعات كثيرة وتداخلات أيضاً بين الاتجاهات أو المناهج التي تعنى بالجانب النظري من موضوع صناعة المستقبل، أو بكلمة أدق: الإطار النظري الذي يكتشف العناصر الفاعلة في صناعة التاريخ، وتحديداً ما يعنينا، هو الزمن القادم منه. ولا شك أنّ لكل اتجاه ومنهج زاويته الخاصة في النظر لحركة التاريخ، ومدخله العلمي الخاص في دراسة عناصر تحريك التاريخ. وتكشف النتائج التي يفرزها الواقع عن تقاطع آخر بين هذه الاتجاهات وبين الواقع؛ الأمر الذي يشير إلى وجود ثغرات في الأساس الفكري أو المنحى الايديولوجي أو المنهج البحثي أو أساليب الاستدلال.

ونحن نرى أنّ المدرسة التكاملية يمكنها الإجابة عن كل التساؤلات، وتجاوز كل الثغرات، وهذه المدرسة تفرزها معطيات العقيدة الإسلامية، وهي مدرسة استوعبت النصوص الإسلامية في مجال تفسير التاريخ وأزمنته، كما استوعبت دروس التاريخ ومعادلاته، فضلاً عن المناهج التي بحثت في حركته وفي عناصره الفاعلة، والمناهج النظرية الحديثة التي تعالج موضوع المستقبل وإمكانيات التحكم بحركته.

لا شك في أنّ البطل وحده، لا يستطيع دائماً أن يصنع التاريخ، وكذا النخبة، والمجتمع، والفكر، والقوانين الاجتماعية التاريخية. كما أنّ التاريخ ليس صيرورة حتمية تتفاعل ذاتياً لتنجب نتائج قسرية وجبرية. في حين تعطي (المدرسة التكاملية) لهذه العناصر وغيرها حجمها الطبيعي، وتتجنب الأحاديات المثل الأعلى الأرضي أو الأُخروي أو السماوي أي أنّ البطل (القائد) والنخبة (الصفوة) والمجتمع (الأُمّة) والفكرة (العقيدة) والقوانين التاريخية الاجتماعية (السنن الإلهية) والحتميات التاريخية (الوعود الإلهية)، كلها عناصر فاعلة تكمل بعضها بعضاً، وتساهم معاً بنسب معينة في تحريك التاريخ. وهذه العناصر هي ـ في الواقع ـ مصاديق للسنن الإلهية على مختلف أنواعها.

إنّ موضوع القيادة التاريخية الحضارية، تنظر له المدرسة التكاملية (الإسلامية) من زاوية دور استخلاف الإنسان في الأرض ومتطلبات هذا الدور، وتمثيل القائد لإرادة المثل الأعلى السماوي، وتحوله إلى مثل أعلى أرضي (نسبي)، في إطار امتدادات الاستخلاف على الأرض، ومواصفات الإنسان المستخلف، وعلاقاته مع الآخر (إنساناً أو طبيعة)، ونوعية النظم التي تحكم هذه العلاقات، وأهداف الاستخلاف وغاياته الدنيوية والأُخروية.

ومن هنا ظل دور القائد (البطل) مرتبطاً في الإسلام بأداء التكليف والوظيفة الشرعية. وإذا استثنينا سيرة النبي الأعظم(ص) وأوصيائه، فإنّ التاريخ الإسلامي كان يركز على البعد الحضاري في مسيرته أو إنجاز الأُمّة الحضاري أكثر من تأكيده على دور القائد الفرد.

أمّا الصفوة فهم الرواد والمبدعون في شتى حقول العمل والمعرفة، وتفرزها الكفاءة والإنجاز ونوعية أداء التكليف وليس العرق أو النسب أو الولاءات البشرية. ووجود هذه الصفوة (كماً ونوعاً) هو الذي يميز إنجازات الأُمّة الحضارية عن غيرها من الأُمم.

والأُمّة هي ميدان تطبيق الأهداف الحضارية لحركة التاريخ، وهي الرحم الذي أنجب القادة والصفوة ـ عدا الأنبياء والأوصياء الذين تنتمي الأُمّة إليهم لا العكس. ويأتي الدين والأفكار التي تستند إليه ليكونا منطلق حركة التاريخ وقاعدته ووقوده. والدين ـ فضلاً عن كونه تشريعاً إلهياً ـ فهو سنة من سنن التاريخ وقانون يدخل في صميم فطرة الإنسان ـ كما يقول السيد محمد باقر الصدر ـ وقد اعتمد الشهيد الصدر تقسيمين للسنن التاريخية:

الأول: تقسيمها إلى مشروطة ومنجزة.

والثاني: تقسيمها إلى سنن تقبل التحدي وسنن لا تقبل التحدي.

والسنن المشروطة هي التي تربط الجزاء بشرط الفعل، والمنجزة هي السنن الحتمية، كحدوث مرحلة العدل ووراثة المستضعفين الأرض في المستقبل الإنساني الأرضي، وهي المرحلة التي تمثل السقف الزماني والمكاني للمساحة التي يتحرك فيها الإنسان بحريته وإرادته للتمهيد لعصر العدل.

وبالتالي فالمدرسة التكاملية ترى أنّ صناعة المستقبل الحضاري للأُمّة هو جزء من حركة التاريخ، إذ إنّ حركة التاريخ ـ كما يقول السيد الصدر ـ هي حركة غائية لا سببية فقط، وليست مشدودة إلى سببها، وإلى ماضيها؛ بل إلى الغاية؛ لأنّها حركة هادفة لها علة غائية متطلعة إلى المستقبل. فالمستقبل هو المحرك لأي نشاط من النشاطات التاريخية.

والمستقبل وإن كان معدوماً حالياً، إلّا أنّه يحرك من خلال الوجود الذهني الذي يجسد جانباً فكرياً يضم تصورات الهدف، وجانباً عملياً يمثل الطاقة أو الإرادة التي تحفز الإنسان نحو الهدف. وبالامتزاج بين الفكر والإرادة تتحقق فاعلية المستقبل ومحركيته للنشاط التاريخي على الساحة الاجتماعية. وبناءً على هذه المعادلة، فإنّ عنوان حركة التاريخ هو الحضارة، وهدفها إعمار الأرض وتحقيق مسؤولية الاستخلاف، وغايتها الله، والدين قاعدتها وشرعتها، والأُمّة ميدانها، والإنسان محورها، والقيادة الشرعية في الإسلام هي التي تمسك بمقودها.

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment