منهجية «المستقبلية الإسلامية»

Last Updated: 2024/04/26By

منهجية «المستقبلية الإسلامية»

د. علي المؤمن

ليس الحديث عن «المستقبلية الإسلامية» التي نسعى لبنائها كنظرية ومنهج من أجل اكتشاف المستقبل الإسلامي ورسم ملامحه المشرقة؛ حديث أمنيات وآمال، أو حديث توقعات ونبوءات، بل وليس حديث وعظ أو خطاب تثويري، لأن تحقيق هدف «المستقبلية الإسلامية» لا يقتصر على دراسة عناصر القوة في الدين وأتباعه، أو الحتميات التي تؤكد امتلاك مقومات البقاء والاستمرار والنمو والنهوض، أو المراهنة على سقوط الحضارات والمدنيات الأخرى التي سيكون الإسلام بديلاً لها فحسب، بل إن الحديث عن المستقبل الإسلامي هو حديث العلم والمعرفة العلمية المؤطرة بالبعد الإيماني الذي يربط حياة الإنسان الدنيوية بحياته الأخروية، والعمل بالجزاء، والكدح بالثواب، وإعمار الأرض بتحقيق هدف الاستخلاف، وبالتالي سعادة الدارين والحياة الأفضل فيهما.

ويسعى مشروع المستقبلية الإسلامية – ابتداء – إلى تحديد الإطار النظري للمنهج الإسلامي في استشراف المستقبل، فهو في حقيقته لا يبحث في نظرية ولا يسعى – في مراحله الأولى – إلى اكتشاف نظرية، بل إنه يبحث عن إمكانية اكتشاف نظرية، وعن تأسيس حقل دراسي في هذا المجال، يستوعب النظرية والمنهج والوسائل.

ومن خلال ذلك يتضح أن المشروع لا يتشبّه بمناهج الدراسات المستقبلية في الغرب أو يسعى لمجرد أسلمتها، بل إنه يتحدث عما تفرزه النظرة الكونية التوحيدية من رؤية إسلامية شاملة للمستقبل، تنطوي على إبحار في السنن الإلهية، ووقوف على الرؤية الإسلامية لأساسيات علم اجتماع الحضارات وفلسفة التاريخ، فضلاً عن دراسة متأنية لتقنيات ومناهج الدراسات المستقبلية الحديثة. وبالتالي؛ تكون المحصلة مشتملة على رؤية متكاملة لعملية النهوض والبناء والتغيير الإسلامي الشامل.

وتستند منهجية «المستقبلية الإسلامية» الى جملة قواعد، تمثل العناصر التي تجعل المسلمين أقدر على تأسيس منهج علمي فاعل وواقعي لاستشراف المستقبل واكتشافه والإعداد له، وهي: مقاصد الرسالة الخاتمة وأهدافها في الحياة، وعي السنن الإلهية، والتراث الضخم في مجال الإخبار بالمستقبل، وخاصة بعض الحتميات التاريخية الغيبية المستقبلية. وفي الوقت نفسه؛ تستجيب منهجية «المستقبلية الإسلامية» الى الحاجات النظرية والعملية إلى استشراف المستقبل الإسلامي، والمتمثلة في الخصائص الثلاث الماضية:

    1 – الخصيصة النظرية:

وهي حاجة ثابتة عبر الزمن، وتؤكد عليها النصوص الإسلامية المقدسة، بل وتأمر بها، كما في قوله تعالى في كتابه الكريم: ((وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة))، ((يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدّمت لغد)). وكما جاء في الحديث الشريف: «من عرف الأيام، لم يغفل عن الاستعداد». «من استقبل الأمور أبصر، ومن استدبر الأمور تحيّر». من لم يتحرز من المكائد قبل وقوعها، لم ينفعه الأسف عند هجومها».

وإذا أضفنا الغيبيات الواردة في الأحاديث والروايات الصحيحة والتي تتضمن الإخبار – على نحو الإجمال – بأحداث ستقع مستقبلاً، والأوامر المقدسة بالإعداد للمستقبل، سنفهم أن الاستعداد لمواجهة المستقبل وحوادثه وطرق التعامل معها، وعدم التزلزل والانحراف إزاءها، هو واجب على الأمة بمختلف قطاعاتها، وخاصة أصحاب الاختصاص والاهتمام والمسؤولية.

2 – الاستجابة للسنن الإلهية:

للسنن الإلهية التاريخية علاقة وثيقة بعملية استشراف المستقبل، فاكتشافها على صعيد المسيرة التاريخية للبشرية أو سنن التاريخ، وفهمها واستثمارها، تعني اكتشاف جزء مهم من المستقبل، وهو الصورة العامة له، فضلاً عن اكتشاف أساليب الإعداد للتعامل مع ذلك الجزء. وسنن الله تعالى ثابتة لا تتبدل ولا تتحول: ((فلن تجد لسنّة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً)).

واكتشاف السنن والعمل وفقها، ضرورتان لحاضر الإنسان ومستقبله، أكد عليهما القرآن الكريم: ((قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذّبين)). والسنن التاريخية هي «القوانين التي تتحكم في المسيرة التاريخية للانسان» كما يقول السيد محمد باقر الصدر في محاضراته “المدرسة القرآنية”، وهي الرابط بين ماضي مسيرة الإنسان وحاضرها ومستقبلها، كما أنها توضح طبيعة العلاقة والتأثير والتأثر المباشر بين الأزمنة الثلاثة، انطلاقاً من كون المستقبل امتداداً للحاضر والماضي.

ولعل أبرز السنن الإلهية التاريخية التي نستفيدها لاستشراف المستقبل:

أ – السنن المشروطة التي يرتبط فيها جزاء الله بشرط قيام الإنسان بالعمل، كما في قوله تعالى: ((ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض))، أو قوله تعالى: ((إلاّ تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم)).

ب – السنن الفعلية الناجزة، تمثّل نوعاً من الحتمية التاريخية، وهي تمثّل إرادة الله تعالى فقط، كعصر الظهور وقيام الساعة. يقول تعالى: ((ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين)). وقوله تعالى: ((وإن الساعة آتية لا ريب فيها)). ويمثّل وعصر الظهور دور العدل من أدوار مسيرة الإنسان على الأرض، كما يحددها القرآن الكريم، وهي دور الحضانة ودور الوحدة (حدثا وانتهيا)، ودور التشتت (لا تزال البشرية تعيشه)، ودور العدل، وهو الدور المستقبلي، وفقاً لتقسيم السيد محمد باقر الصدر.

3 – تحولات الواقع الراهن وتحدّياته:

هذه التحولات والتحدّيات التي تشتمل على جميع جوانب الحياة، يعيشها العالم بأجمعه، بشكل أو بآخر، ولكن معظم أمم العالم لها مشاريعها ومخططاتها للتعامل المدروس مع هذا الواقع، لضمان أفضل الخيارات في المستقبل. أما المسلمون، فلا يزال معظمهم يتعاملون مع التحولات والتحدّيات من منطلق ردود الفعل والتعامل مع اللحظة، دون تخطيط مسبق. وإن وجد التخطيط لمواجهة التحدّيات، فإنه تخطيط يستبطن الإحباط، وعدم الثقة بالنفس، والشعور بالهزيمة أمام الآخر. وأبرز هذه التحدّيات هو التحدّي المشترك: الايديولوجي – الاجتماعي – الأخلاقي – الروحي، والذي أدى إلى انهيار بعض الحضارات والمدنيات، كما حدث للحضارة الماركسية – إن صحّ تعبير الحضارة هنا – والسير المتقهقر لحضارات أخرى، كحضارة الغرب، وبحث البشرية عن البديل المناسب مستمر وفي هذا المجال لم يطرح الإسلاميون بديلهم (الحضاري الإسلامي) بصورته الحقيقية، حتى إن القضية انعكست حرجاً على المسلمين أنفسهم.

والتحدي المهم الآخر هو تحدي التطور العلمي والتكنولوجي والاقتصادي الغربي، والذي عمّق الفاصلة الحضارية – في جانبها المادي – بين العالم الإسلامي والغرب. ويستمر الأخير في محاولاته ابتلاع العالم أو احتوائه عبر العلم والتكنولوجيا، في الوقت الذي يراهن على بقاء الواقع الاقتصادي للعالم الإسلامي والعالم الثالث، كما هو، مثقلاً بالفقر والديون والاستهلاك والاعتماد على مورد اقتصادي واحد، وانعدام حالات التضامن والتكافل. وهذه السلطة المعرفية والعلمية والتكنولوجية التي يستحوذ الغرب عليها، تمثل الوجه الآخر لسلطة التفوق العسكري والسياسي، وكلاهما يمثلان عملة واحدة أطلقت عليها الولايات المتحدة الأمريكية مفهوم “النظام العالمي الجديد”، والذي يعمل الغربيون على صياغته وتثبيته لمئة عام قادمة، أي حتى أواخر القرن الحادي والعشرين.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment