مناهج دراسة حركة التاريخ
مناهج دراسة حركة التاريخ
د. علي المؤمن
هل الفرد (البطل) هو الذي يحرك التاريخ، من خلال نماذج الأنبياء والأوصياء والقادة والمبدعين؟ أم أنها النخب المتميزة سياسياً أو نَسَبياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً؟ أم أنّه المجتمع بكل عناصره؟ أم أنّه نتاج التفاعل بين البطل والمجتمع؟ أم الحتم التاريخي؟ أم القوانين الاجتماعية التاريخية؟ أم الأفكار.. أم ماذا؟!
1 ـ مدرسة البطل:
من المدارس المهمة في هذا المجال؛ المدرسة التي تختصر حركة التاريخ في الدور الذي يمارسه البطل (الفرد)، فالتاريخ يصنعه العظماء (أبطال التاريخ)، أو كما يقول الفيلسوف الاسكتلندي “توماس كارلايل”: إنّ التاريخ العالمي هو تاريخ العظماء وما أنجزوه، وهو حصيلة الأفكار التي عاشت في عقولهم.. إنّهم روح التاريخ العالمي كله.
وتعتبر هذه النظرية البطل بأنّه صانع العصر وليس نتاجاً له، فهو الذي يدفع الأُمّة نحو القمة، أو يلقي بها في مستنقع الضياع. وأعاد آخرون صياغة مقولات “كارلايل” وبلورتها، مثل “والدو إمرسون” الذي اختصر التاريخ في السيرة الشخصية للعظماء. وآمنت هذه المدرسة بالقيادة الفردية العبقرية، وشككت في قدرة الديمقراطية على دفع الأُمّة باتجاه التقدم والسمو. وقد أطلق “غالتون” نظرية (القائد العظيم ـ The Great Leader Theory) كرؤية مكملة تسير في الاتجاه نفسه.
كما اعتبر “وليم جيمس” أنّ مبادرات المبدعين العظماء هي العامل الوحيد في التقدم الإنساني. وقد طرح آخرون منهجاً آخر لدراسة شخصية القائد العبقري الذي يصنع التاريخ، منهم عالم الاجتماع الألماني “ماكس فيبر” الذي أطلق مصطلح (القيادة الكارزمية ـ Charismatic Leadership)، وترجم المصطلح إلى القيادة الملهمة والجذابة أو الساحرة أو الموهوبة أو الآسرة، وهي قيادة ذات مزايا خاصة واستثنائية خارقة، ولكنها بشرية، تظهر في الأُمّة فتقلب أوضاعها. وتلك المزايا الخاصة معظمها ذاتي وليس مكتسباً، وهي تؤثر في الأُمّة إلى الحد الذي يجعلها منساقة بإرادتها أو من دون إرادتها إلى قائدها الكارزمي.
ولا شك أنّ نظرية البطل (الفرد) الذي يحرك التاريخ برزت في أُوروبا في الفترات التي انبهرت فيها الأُمّة بقادة من نوع خاص، مثل “نابليون” و”بسمارك” وغيرهما، حين كانت الحكومات الفردية المطلقة هي السائدة في أُوروبا، وهو الأمر الذي استمر إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية. ولكن التطور الكبير الذي شهدته الحياة، ولا سيما على صعيد الفكر السياسي وعلى الصعيدين العلمي والثقافي، غير المعادلات الاجتماعية التي حكمت نوعية العلاقات في دائرة الاجتماع السياسي، حتى أخذ دور الزعيم الأوحد الذي تنقاد له الجماهير دون وعي، ويكون فوق المحاسبة والنقد والقانون والمسؤولية، يتضاءل تدريجياً.
2 ـ مدرسة النخبة:
المدرسة الأُخرى هي مدرسة (النخبة) أو (الطبقة)، وهي مجموعة من الأفراد الاستثنائيين الذين تفرزهم عوامل معينة، فيتكاملون في حركتهم، بهدف قيادة الأُمّة ورسم تاريخها. وهذه النخبة ـ يرى “فيلفريدو باريتو” أنّها ـ تنقسم إلى نخبة حاكمة ونخبة غير حاكمة، وكل منهما تقوم بدورها في تحريك التاريخ.
ووضع “غيتانو موسكا” خطاً فاصلاً واضحاً بين الطبقة القائدة، وعامة الجماهير، بقوله: إنّ الطبقة الحاكمة هي مدار تقدير شديد، وذات تأثير قوي في المجتمع الذي تعيش فيه، أي أنّ هذه الطبقة ـ في الواقع ـ تلعب دور القائد العظيم في النظرية الأُولى، ولكنها هنا متكونة من مجموعة أفراد ممتازين في مواصفاتهم.
ويقول عنهم “غوستاف لوبون”: أُولئك الذين إذا أخرجناهم من كل جيل سقط مستوى الأُمّة العقلي سقوطاً كبيراً. وتختلف هذه النظرية عما يذهب إليه “كارل ماركس” في مفهوم (دكتاتورية الطبقة العاملة ـ البروليتاريا)؛ لأنّها لا تحجر السلطة والإبداع في طبقة دون أُخرى كما تفعل الماركسية، ولا تحوّل المجتمع إلى طبقة واحدة، بل تؤمن بوجود عدة طبقات، ولكنها تعتقد بأنّ طبقة من هذه الطبقات، وهي التي تضم أفراداً عباقرة، هي التي يجب أن تتفوق؛ لتمتعها بميزات التفوق، وهي التي تصنع تاريخ الأُمّة، ومهمة الجماهير أو الطبقات الأُخر طاعة هذه النخبة وتنفيذ مخططاتها.
3 ـ مدرسة المجتمع:
المدرسة الثالثة هي مدرسة المجتمع، التي تميل إلى إنكار تأثير الفرد أو الشخصية في صناعة الأحداث، وتعتقد بأنّ الجماعة الإنسانية المنسجمة هي التي تحرك التاريخ، وأنّ الفرد هو صنيعة المجتمع ولا يمتلك هوية مستقلة خاصة به، أي أنّ كل فرد من أفراد المجتمع مهما كان موقعه وحجم إبداعه هو خلية وعضو في جسد المجتمع، والمجتمع هو صاحب الشخصية الحقيقية. ويذهب عالم الاجتماع “دور كهيم” ـ الذي بلور هذه النظرية ـ إلى أنّ تأثير المجتمع وثقافته وسلوكه الجمعي في الفرد يتسم بصورة جبرية.
4 ـ المدرسة التفاعلية:
تعرضت النظريات أو المدارس الثلاث المذكورة إلى النقد المتبادل أو النقد من قبل مدارس أُخر ظهرت في وقت متزامن أو في فترات لاحقة. وقد حاول بعض المفكرين وعلماء النفس الاجتماعي إيجاد نظرية بديلة تستثمر إيجابيات النظريات الثلاث المذكورة وتتجنب سلبياتها أو الإشكالات التي وقعت فيها. فظهرت (النظرية التفاعلية Interactinal Theory)، التي اعتقد مؤسسوها أنهم أجابوا عن كل التساؤلات التي عجزت النظريات الأُخر عن الإجابة عنها. فقالوا: إنّ صناعة التاريخ عبارة عن عملية تفاعل بين أربعة عوامل وعناصر يكمل أحدها الآخر، هي:
2ـ النخبة الاجتماعية المحيطة بالقائد أو المحركة لنشاط المجتمع، وهو ما يمكن أن نسمّيه بجهاز العمل والإبداع في كل المجالات
3ـ المجتمع نفسه ونوعية العلاقات بين أفراده وأهدافه ودينامية حركته
4ـ المواقف التي تحددها ظروف الأُمّة والعوامل المؤثرة في صنعها.
ويعبر “غوستاف لوبون” عن هذا التكامل بقوله: إنّ شأن العظماء مهما بلغ أثره في رقي الحضارة، فإنّه ينحصر في تمثيل مجهودات الأُمّة كلها، أي أنّ العظماء يستطيعون تنظيم حركة الأُمّة وقيادتها ودفعها نحو التقدم والرقي، بمقدار قابلياتهم وعبقريتهم، ولكن قدرتهم لا تصل إلى تغيير مجرى حياة الأُمّة كما يقول أصحاب (نظرية البطل).
والنتيجة، إنّ النظرية التفاعلية تنظر بشكل متوازن إلى مجمل العناصر الفاعلة في صناعة التاريخ. إلّا أنّ بعض المفكرين وعلماء الاجتماع ـ ومنهم “سيدني هوك” ـ اعترضوا على وجود هذا الأُسلوب من التفاعل والدمج الكامل والمطلق بين العناصر على مستوى الزمان والمكان، وذهبوا إلى التفكيك بين هذه العناصر، وأقروا بوجود إنجازات خاصة بالفرد أو البطل، وإنجازات خاصة بالعصر أو المجتمع ومواقفه، فهناك بطولات وإبداعات فردية، تجعل من البطل صانعاً للتاريخ، ولو لم ينجز البطل هذا الحدث أو ذاك لتغير مجرى حياة الأُمّة باتجاه مختلف تماماً. وهناك إنجازات حضارية للأُمّة بأجمعها، تأتي نتيجة لتفاعل عوامل فكرية وروحية واقتصادية وسياسية.
وأورد “هوك” أمثلة كثيرة على هذين اللونين المنفصلين من صناعة الحدث، كما يرى أنّ النظرية التفاعلية أغفلت دور سنن التاريخ والقوانين الاجتماعية العامة، وهو الأمر الذي أكدت عليه مدرستان أُخريان أفرطتا في تبني دور القانون التاريخي، هما: مدرسة الحتمية التاريخية، وبعض اتجاهات مدرسة فلسفة التاريخ.
5 ـ مدرسة الحتمية التاريخية:
تنطلق مدرسة الحتمية التاريخية من وجود قوانين تاريخية اجتماعية صارمة تحرك المجتمع في إطار معادلاتها ونتائجها الحتمية. وقد بلور “كارل ماركس” و”فردريك أنجلز” و”بليخانوف” هذه المدرسة، وحولوها إلى نظرية اجتماعية أسموها (المادية التاريخية)، وهي خاضعة أيضاً لقانون الديالكتيك والعامل الاقتصادي. وحاول “ماركس” إضفاء الطابع العلمي على نظريته الفلسفية، أي أنّه عدّ قوانينه التاريخية قوانين علمية ثابتة. وحدد من خلالها خمس مراحل مرت بها البشرية أو لا بدّ أن تمر بها، وتبدأ بالمرحلة المشاعية البدائية، ثم الإقطاع والرأسمالية والاشتراكية، وأخيراً الشيوعية النهائية.
وحين تقف البشرية عند مرحلة الرأسمالية، فإنّ الصراع الطبقي الحتمي في المجتمع الرأسمالي سينتهي بانتصار الطبقة العاملة التي تقوم بإنشاء مجتمع اشتراكي لا طبقي ـ أولاً ـ تمهيداً لقيام المجتمع الشيوعي الذي تنهار فيه كل القيم والأعراف والتمايزات الاجتماعية والنوازع الشخصية، وهي خيار البشرية النهائي.
وقد نظّر لهذه المدرسة فيما بعدُ “لينين” و”كوفالسون” و”ستالين” وغيرهم. وفضلاً عن الإشكالات النظرية الهائلة، فإنّ الواقع الموضوعي أثبت عدم صحة نظرية المادية التاريخية ومراحلها، وأنّ قوانينها ليست علمية، بل هي مجرد رؤى فلسفية، إذ إنّ التاريخ الإنساني مليء بالأحداث التي صنعتها إرادة المجتمع ولم يتحكم فيها قانون قسري معلوم النتائج، أو صنعتها إرادة فرد بذاته أو تفاعل مجموعة من العناصر.
ولعل البيئتين الألمانية والروسية هما أفضل نموذجين أثبتا خطأ نظرية “ماركس” التاريخية، فالمجتمع الألماني ـ وفقاً لهذه النظرية ـ كان هو المرشح للصراع الطبقي، لوجود طبقة عاملة كبيرة فيه في ذلك الوقت، وكونه مجتمعاً صناعياً، وقد بلغت الرأسمالية في المانيا بعد عصر النهضة ذروة مجدها، ولكن هذا الصراع لم يحدث ولم تتحقق الشيوعية النهائية. بينما كان المجتمع الروسي إقطاعياً، وحدثت فيه الثورة الشيوعية. كما أنّ الثورة الشيوعية نفسها في روسيا لم تكن نتيجة لحتمية تاريخية، بل كانت عبارة عن تفاعل عدة عوامل، أبرزها: القائد (لينين)، والنخبة (البلشفيك)، والطبقة (العمال والفلاحون)، والشعب (الروسي)، والفكر (الماركسي). وكانت الثورة سياسية أكثر منها عقائدية أو آيديولوجية. وهكذا، فلا يمكن أن يكون خيار البشرية المستقبلي هو المشاعية النهائية؛ لأنّ التاريخ يسير منذ عصر “ماركس” وحتى الآن باتجاه آخر تماماً.
والحقيقة أنّ اتجاه الحتمية التاريخية بني على أفكار بعض الفلاسفة الألمان الذين قالوا بوجود معادلات تاريخية تحرك المجتمع، إلّا أنهم من “هيجل” في مثاليته التاريخية و”فيورباخ” في تفسيره الأنثروبولوجي والنفسي وحتى “سانت سيمون”، لم يعطوا هذه المعادلات درجة الحتمية ولم يصفوها بالصرامة. وقد تبلور هذا الاتجاه فيما بعد بما عرف بـ (فلسفة التاريخ).
6 ـ مدرسة فلسفة التاريخ:
فلسفة التاريخ تعني ـ هي الأُخرى ـ بتحديد صور المستقبل من خلال القوانين الاجتماعية التي تحرك التاريخ، والتي اكتشفها فلاسفة التاريخ من خلال استقراء الأحداث التي مرت بها البشرية، ومن خلال التوقف عند الدروس التي تركتها، حتى أمكنهم من خلال تلك القوانين التعرف على أسباب تشكل الحضارات والمجتمعات المنظمة وصعودها أو توقفها عن التقدم أو أُفولها وسقوطها. وهذه القوانين ليست جامدة كما هي عليه قوانين المادية التاريخية، بل إنّها تتمتع بالمرونة التي تجعلها خاضعة لإرادة الإنسان (الفرد أو المجتمع) وحريته في التحكم بمسيرة حياته، لا سيما تلك القوانين المشروطة التي ترتبط فيها النتائج بطبيعة فعل الإنسان. وقد أشارت النصوص الإسلامية المقدسة (القرآن الكريم والسنة الشريفة) إلى هذه القوانين وأطلقت عليها صفة (السنن).
وتعدّ جماعة (إخوان الصفا) أول من بلور هذا الاتجاه في معادلات وقواعد تفصيلية بالاعتماد على النصوص الإسلامية والرؤى الفلسفية اليونانية والرؤى الخاصة بالجماعة، ثم استفاد منهم ابن خلدون في مقدمته.
أمّا في الغرب فقد تبلورت مدرسة فلسفة التاريخ على يد عدد من الفلاسفة وعلماء التاريخ خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين الميلادي، لا سيما “أوزوالد شبنغلر” و”أرنولد توينبي”.
وقد نَظَر بعض المفكرين والعلماء المسلمين المعاصرين إلى التفسير الإسلامي للتاريخ، وهو التفسير السنني الذي يدخل في إطار منهجية فلسفة التاريخ، ولكنه يختلف عنها باستخدامه النصوص القرآنية ونصوص السنة الشريفة في اكتشاف سنن التاريخ. وأبرز من كتب في هذا المجال؛ مالك بن نبي، والسيد محمد باقر الصدر، والسيد محمد الصدر، وعماد الدين خليل، والشيخ مرتضى مطهري، وغيرهم. ويفرّق بعض المفكرين ـ كالشيخ محمد تقي مصباح اليزدي ـ بين فلسفة التاريخ وعلم اجتماع الحضارات، في حين يعدهما آخرون حقلاً واحداً يسمّونه التفسير الحضاري للتاريخ (Historisme try) الذي وضعه المؤرخ “فردريك وودز”، وإن اختلفت منهجية كل فيلسوف أو مفكر أو مؤرخ في الاكتشاف والاستدلال والاستنتاج.
ويعدّ منهج القياس التاريخي قريباً من حقل فلسفة التاريخ ومنافساً له، ولكنه يختلف عنه في عدة أوجه. فمنهج القياس التاريخي يُخضع حقائق التاريخ للمعالجة الإحصائية وفقاً لبعض أساليب القياس الموضوعية، وبكلمة أُخرى فهو منهج يختص باختبار القوانين التاريخية أو السنن العامة التي تتعلق بالسلوك الإنساني، من خلال تطبيق التحليلات الكمية على معطيات مستخلصة من عينات تاريخية، كما يقول عالم النفس الأمريكي “دين كيث سايمنتن”. وبذلك يربط منهج القياس التاريخي بين فلسفة التاريخ وعلم النفس الاجتماعي؛ إذ إنّه يكتشف القوانين السلوكية العامة التي تصنع الأحداث.
وهناك منهج آخر قريب أيضاً من منهج فلسفة التاريخ والقياس التاريخي، هو منهج (الإحصاءات التاريخية clionometrics) الذي يهتم أيضاً بفهم حركة التاريخ، ولكنه يركز على الأرقام والإحصاءات الكمية، والمقارنة بينها، ودور زيادة أو نقصان هذه الأرقام في تحديد مسار التاريخ.
وبعيداً عن المناهج التاريخية الصرف، فإنّ اتجاهاً مغايراً يرى أنّ الأفكار والمعتقدات هي التي توجه حركة التاريخ، ويمثله المفكر والفيلسوف الإنجليزي “جون ستيوارت ميل” وآخرون؛ إذ يقولون: إنّ الأفكار هي العامل الأساس في صنع الأحداث وفي تقدم وتراجع الحضارات والمجتمعات، وإنّ كل تقدم حضاري فعلي ـ كما يتبنى ذلك أيضاً الباحث المصري حسين مؤنس ـ لا بدّ أن يسير منذ البداية على خط فكري واضح ومدروس.
وهناك باحثون ومؤرخون يرون أنّ المسار التاريخي للبشرية يجري في إطار مخططات خفية، ترسمها وتنفذها قوى سرية مركزية عليا تقود العالم وتحرك أحداثه، وأنّ هذه القوى هي التي تمتلك وحدها مستقبل العالم، وأنّ القادة والشعوب والأفكار ما هي إلّا عناصر وبيادق تحركها هذه القوى، وهي موجودة دائماً وتتغير من حقبة زمنية إلى أُخرى. وهذا الرأي هو خلاصة لنظرية المؤامرة في التحليل التاريخي.
ولعل قراءة متأنية لما ورد في كتابي «أحجار على رقعة الشطرنج» للمؤرخ البريطاني “وليام غاي كار”، و«حكومة العالم الخفية» للباحث “سبيروفيش”، تكشف عن المفاصل الرئيسة لنظرية المؤامرة. فالأول يعتقد أنّ النورانيين (الكنيس الشيطاني) هم القوة الخفية التي تحكم العالم، أمّا “سبيروفيش” فيعتقد أنّ اليهود والماسونيين هم الذين يقفون وراء حركة الأحداث في الماضي والحاضر والمستقبل.
والواقع أنّ إعطاء هذا الدور لليهودية والماسونية فيه الكثير من الوهم والمبالغة، فمعظم أحداث العالم لا يمكن أن ترسمها سياسة أرضية موحدة، ولا يمكن أن تخضع لمخطط أرضي واحد، كما أنّ الماسونية أو اليهودية أو أصحاب الشركات الاحتكارية أو أصحاب رؤوس الأموال العالمية يظل دورهم محكوماً بالأحداث نفسها، ولا يمكن أن يكونوا قادرين على الإمساك بمؤامرة دولية تحدد حركة العالم برمتها.
7 ـ المدرسة التكاملية:
يكشف هذا الاستعراض عن تقاطعات كثيرة وتداخلات أيضاً بين الاتجاهات أو المناهج التي تعنى بالجانب النظري من موضوع صناعة المستقبل، أو بكلمة أدق: الإطار النظري الذي يكتشف العناصر الفاعلة في صناعة التاريخ، وتحديداً ما يعنينا، هو الزمن القادم منه. ولا شك أنّ لكل اتجاه ومنهج زاويته الخاصة في النظر لحركة التاريخ، ومدخله العلمي الخاص في دراسة عناصر تحريك التاريخ. وتكشف النتائج التي يفرزها الواقع عن تقاطع آخر بين هذه الاتجاهات وبين الواقع؛ الأمر الذي يشير إلى وجود ثغرات في الأساس الفكري أو المنحى الآيديولوجي أو المنهج البحثي أو أساليب الاستدلال.
ونحن نرى أنّ المدرسة التكاملية يمكنها الإجابة عن كل التساؤلات، وتجاوز كل الثغرات، وهذه المدرسة تفرزها معطيات العقيدة الإسلامية، وهي مدرسة استوعبت النصوص الإسلامية في مجال تفسير التاريخ وأزمنته، كما استوعبت دروس التاريخ ومعادلاته، فضلاً عن المناهج التي بحثت في حركته وفي عناصره الفاعلة، والمناهج النظرية الحديثة التي تعالج موضوع المستقبل وإمكانيات التحكم بحركته.
لا شك في أنّ البطل وحده، لا يستطيع دائماً أن يصنع التاريخ، وكذا النخبة، والمجتمع، والفكر، والقوانين الاجتماعية التاريخية. كما أنّ التاريخ ليس صيرورة حتمية تتفاعل ذاتياً لتنجب نتائج قسرية وجبرية. في حين تعطي (المدرسة التكاملية) لهذه العناصر وغيرها حجمها الطبيعي، وتتجنب الأحاديات المثل الأعلى الأرضي أو الأُخروي أو السماوي أي أنّ البطل (القائد) والنخبة (الصفوة) والمجتمع (الأُمّة) والفكرة (العقيدة) والقوانين التاريخية الاجتماعية (السنن الإلهية) والحتميات التاريخية (الوعود الإلهية)، كلها عناصر فاعلة تكمل بعضها بعضاً، وتساهم معاً بنسب معينة في تحريك التاريخ. وهذه العناصر هي ـ في الواقع ـ مصاديق للسنن الإلهية على مختلف أنواعها.
إنّ موضوع القيادة التاريخية الحضارية، تنظر له المدرسة التكاملية (الإسلامية) من زاوية دور استخلاف الإنسان في الأرض ومتطلبات هذا الدور، وتمثيل القائد لإرادة المثل الأعلى السماوي، وتحوله إلى مثل أعلى أرضي (نسبي)، في إطار امتدادات الاستخلاف على الأرض، ومواصفات الإنسان المستخلف، وعلاقاته مع الآخر (إنساناً أو طبيعة)، ونوعية النظم التي تحكم هذه العلاقات، وأهداف الاستخلاف وغاياته الدنيوية والأُخروية.
ومن هنا ظل دور القائد (البطل) مرتبطاً في الإسلام بأداء التكليف والوظيفة الشرعية. وإذا استثنينا سيرة النبي الأعظم(ص) وأوصيائه، فإنّ التاريخ الإسلامي كان يركز على البعد الحضاري في مسيرته أو إنجاز الأُمّة الحضاري أكثر من تأكيده على دور القائد الفرد.
أمّا الصفوة فهم الرواد والمبدعون في شتى حقول العمل والمعرفة، وتفرزها الكفاءة والإنجاز ونوعية أداء التكليف وليس العرق أو النسب أو الولاءات البشرية. ووجود هذه الصفوة (كماً ونوعاً) هو الذي يميز إنجازات الأُمّة الحضارية عن غيرها من الأُمم.
والأُمّة هي ميدان تطبيق الأهداف الحضارية لحركة التاريخ، وهي الرحم الذي أنجب القادة والصفوة ـ عدا الأنبياء والأوصياء الذين تنتمي الأُمّة إليهم لا العكس. ويأتي الدين والأفكار التي تستند إليه ليكونا منطلق حركة التاريخ وقاعدته ووقوده. والدين ـ فضلاً عن كونه تشريعاً إلهياً ـ فهو سنة من سنن التاريخ وقانون يدخل في صميم فطرة الإنسان ـ كما يقول السيد محمد باقر الصدر ـ وقد اعتمد الشهيد الصدر تقسيمين للسنن التاريخية:
الأول: تقسيمها إلى مشروطة ومنجزة.
والثاني: تقسيمها إلى سنن تقبل التحدي وسنن لا تقبل التحدي.
والسنن المشروطة هي التي تربط الجزاء بشرط الفعل، والمنجزة هي السنن الحتمية، كحدوث مرحلة العدل ووراثة المستضعفين الأرض في المستقبل الإنساني الأرضي، وهي المرحلة التي تمثل السقف الزماني والمكاني للمساحة التي يتحرك فيها الإنسان بحريته وإرادته للتمهيد لعصر العدل.
وبالتالي فالمدرسة التكاملية ترى أنّ صناعة المستقبل الحضاري للأُمّة هو جزء من حركة التاريخ، إذ إنّ حركة التاريخ ـ كما يقول السيد الصدر ـ هي حركة غائية لا سببية فقط، وليست مشدودة إلى سببها، وإلى ماضيها؛ بل إلى الغاية؛ لأنّها حركة هادفة لها علة غائية متطلعة إلى المستقبل. فالمستقبل هو المحرك لأي نشاط من النشاطات التاريخية.
والمستقبل وإن كان معدوماً حالياً، إلّا أنّه يحرك من خلال الوجود الذهني الذي يجسد جانباً فكرياً يضم تصورات الهدف، وجانباً عملياً يمثل الطاقة أو الإرادة التي تحفز الإنسان نحو الهدف. وبالامتزاج بين الفكر والإرادة تتحقق فاعلية المستقبل ومحركيته للنشاط التاريخي على الساحة الاجتماعية. وبناءً على هذه المعادلة، فإنّ عنوان حركة التاريخ هو الحضارة، وهدفها إعمار الأرض وتحقيق مسؤولية الاستخلاف، وغايتها الله، والدين قاعدتها وشرعتها، والأُمّة ميدانها، والإنسان محورها، والقيادة الشرعية في الإسلام هي التي تمسك بمقودها.
latest video
news via inbox
Nulla turp dis cursus. Integer liberos euismod pretium faucibua