مقدمة كتاب النظام السياسي الإسلامي الحديث
مقدمة كتاب “النظام السياسي الإسلامي الحديث وخيارات الديمقراطية والثيوقراطية والشورى”
تأليف: علي المؤمن
ينظر الإسلام إلى قضايا الإنسان وعلاقاته باعتبارها شبكة مترابطة، ومن ذلك علاقة الإنسان بربه، علاقته بنفسه، علاقته بأخيه الإنسان وبكل أشكال الحياة الأخرى. وقد استوعب الإسلام هذه القضايا والعلاقات في تشريعاته؛ ومن خلالها برزت النظم المتعددة التي يعبّر كل منها عن وجه من أوجه الشريعة الإسلامية. فتنتظم العبادات في الشريعة بأشكالها الفردية والجمعية، وتنتظم المعاملات بكل أنواعها، وتنتظم أشكال السلطة والقدرة، بل وأشكال التعامل مع الحيوان والبيئة ومكونات الطبيعة الأخرى، أيضاً. من هنا، تمتلك الشريعة الإسلامية ما من شأنه بلورة فقه شامل لنواحي الحياة المختلفة، وبالتالي صياغة نظم إسلامية تمثّل الوجه التطبيقي للشريعة الإسلامية الكاملة، وفي مقدمتها «النظام السياسي».
والمراد هنا بـ«النظام السياسي»؛ المصطلح نفسه الذي تتداوله علوم السياسة والقانون، أي أنه مجموعة القواعد والأجهزة المتماسكة التي تحدد هيكل نظام الحكم والمؤسسات العاملة فيه، وطريقة ممارسة السلطة، إضافة إلى غايات النظام وأهدافه، والتي تتدخل في صياغة شكل النظام وآليات عمله وأجهزته. وبالتالي؛ فالنظام السياسي الإسلامي هو مجموعة الأجهزة السياسية للدولة الإسلامية وطريقة ممارستها للسلطة، والمستنبطة من غايات الدولة الإسلامية وأهدافها. والنظام السياسي الإسلامي هو تجسيد للبعد السياسي في النظام الإسلامي الذي تتكامل فيه النظم الأخرى، كالنظام الاقتصادي والنظام التعليمي وغيرهما؛ وهي نظم لا ينفصل بعضها عن بعض إلا في المجالات التخصصية والتفصيلية. ومن وجهة نظر الفقه السياسي الإسلامي فإن مصطلحي «الدولة الإسلامية» و«النظام الإسلامي» يدلان على مضمون واحد، أطلق عليه المسلمون في عصر صدر الإسلام اسم: «دولة الرسول» ثم «دولة الخلافة». بينما يمثّل مفهوم النظام السياسي الإسلامي الوجه الآخر لمفهوم «الحكومة الإسلامية»، وهو يركز على موضوع الحكم والسلطة والأداء السياسي.
لقد أدى تفاعل الفقه السياسي الإسلامي مع الواقع ومتطلباته الزمانية والمكانية إلى بروز مصطلح جديد وهو «الجمهورية الإسلامية» ليكون مرادفاً لـ«الدولة الإسلامية» و«النظام الإسلامي». ومن هنا، فالنظام السياسي للجمهورية الإسلامية هو ما نقصده – بالتحديد – بالنظام السياسي الإسلامي الحديث.
ومفردة «الحديث» التي تم تقييد «النظام السياسي الإسلامي» بها في العنوان، وضعت لتأكيد جملة من المعاني المتعاضدة، هي: الجديد والمعاصر والحاضر. فالجديد يراد به النظام الذي تأسس حديثاً، في مقابل القديم، والمعيار هنا هو الزمن ومتغيراته. أما المعاصر فهو النظام الذي يتمتع بمواصفات النظام العصري، والمراد منه النظام القائم في رقعة جغرافية معينة، في مقابل النظام الذي زال واندثر، والمعيار، هنا، هو الواقع. ويتضح من خلال ذلك أن المراد بـ«الحديث» في العنوان ليس النظام الحديث الذي تعارف المفكـرون الغربيون والمتأثرون بهم في المنطقة الإسلامية على تحديد عناصره، وأبرزها: العلمانية والفردانية والعقلانية، والتي هي – كما يذهب كارل بوبر – مقومات الدولة الحديثة، في مقابل الدولة التقليدية.
والنظام السياسي هو أحد الحقول التي يتم الوقوف من خلالها على طبيعة موقع قضية السياسة في الدولة الإسلامية، إلى جانب الفقه السياسي والفكر السياسي والفلسفة السياسية والنظرية السياسية؛ بيد أن المصطلحات الأخيرة تعبر عن حقول معرفية نظرية، بينما يعبر النظام السياسي عن الجانب التطبيقي لهذه الحقول. وعموماً، فإن جميع هذه المفردات بينها عموم وخصوص من وجه – كما يقول المناطقة – فالفقه السياسي الإسلامي يستند إلى معطيات الشرع المقدس الذي يحدده القرآن الكريم والسنة الشريفة، إضافة إلى إعمال الاجتهاد في الحالات التي حددها الشرع نفسه. وبذلك يعبّر الفقه السياسي الإسلامي عن موقف الشريعة الإسلامية في الأحكام القطعية، وموقف الفقيه في الأحكام الظنية، أي أنه يمثل لعامة المسلمين أنواعاً من الإلزام. في حين يجمع الفكر السياسي بين معطيات المصادر المقدسة والرؤى والاستنتاجات العقلية، وهو يعبر عن موقف المفكر. ومن مجموع الأحكام الفقهية (قطعية وظنية) والأفكار السياسية تتألف النظرية السياسية. أما الفلسفة السياسية فتستند – غالباً – إلى معطيات عقلية. ومن هنا ينشأ الاختلاف بين الأفكار والاستنتاجات التي تنتمي إلى الإسلام أو تنسب نفسها إليه.
إن الهدف العلمي لهذا البحث يتمثل في تحليل إشكالية التشابه بين جذور الفكر السياسي الإسلامي والفكر الثيوقراطي وأنظمته، وكذلك إشكاليه التشابه بين آليات ممارسة السلطة في النظام السياسي الإسلامي وأنظمة الديمقراطيات التقليدية؛ والتوقف عند مساحات الاشتراك والافتراق بين هذه الأنظمة الثلاثة: الإسلامية، الثيوقراطية والديمقراطية. كما يهدف البحث إلى تسليط الأضواء على موقع الشورى والممارسة الشورية في النظام السياسي الإسلامي الحديث؛ وقياس مستوى مشاركة الشعب في القرار السياسي للدولة بمقياس كل من الثيوقراطية والديمقراطية والشورى. ويهدف البحث، أيضاً، إلى قراءة محاولات تأصيل الفكر السياسي الإسلامي، تلك التي تمخّضت عنها ولادة النظام السياسي الإسلامي الحديث بقواعده وأجهزته؛ وما تخلل ذلك المخاض المتواصل من واقعية وعملانية في اقتباس بعض القواعد والآليات من المذاهب والأنظمة السياسية الوضعية، في إطار ما عرف بـ«الأسلمة». وعليه، فإن جهة البحث تنحصر في المعالجة العلمية لتجربة النظام السياسي الإسلامي الحديث، كشفاً وتقويماً ومقارنة، مع التأكيد على أن هذه المعالجة لن تتناول الممارسة السياسية اليومية للنظام؛ لأنها تخرج عن غرض البحث، بل ستركز على الآليات والأجهزة والممارسات العامة التي تمثل ظواهر سياسية.
ويضع بحثنا هذا جملة من الفروض والمقدمات التي ينطلق منها ويستهدي بها، بغية تحديد مساره المنهجي ومساحته، وهي:
أولاً: إن المراد بالنظام السياسي الإسلامي الحديث (موضوع البحث) هو نموذجه القائم في إيران.
ثانياً: إن هذا النظام يتفرّد بخصوصية تميّزه عن الأنظمة التي حكمت باسم الإسلام، منذ نهاية عهد الخلافة الراشدة وحتى سقوط الدولة العثمانية؛ لأنه أول نظام سياسي في مدرسة أهل البيت يعتمد نظرية فقهية في الحكم في عصر غيبة الإمام المهدي، وهي نظرية وُجِدت، في أسسها وخطوطها العامة، قبل قيام هذا النظام.
ثالثاً: يشكل هذا النظام تجربة مختلفة وجديدة على مستوى الفكر السياسي والنظريات الاجتماعية والنظم السياسية القائمة، من ناحية رؤيته الكونية، وأسسه الفكرية والعقيدية، وبنية السلطة فيه.
رابعاً: برغم ما يميز هذا النظام عن الأنظمة الأخرى، إلا أنه استفاد من الإنجازات البشرية التي تمثل نتاجات نافعة ومحايدة مفرغة من الأبعاد الايديولوجية، وتحديداً في مجال الصياغات الفنية والآليات.
خامساً: لا يعبّر هذا النظام عن مشروع سياسي فحسب، وإنما هو بناء حضاري ونظام اجتماعي، تصوغه الشريعة الإسلامية شكلاً ومضموناً، أي أنه ليس هدفاًّ بذاته بقدر ما هو وسيلة لتحقيق أهداف السماء في الأرض.
سادساً: هذا النظام لصيق بالواقع وضروراته ومقتضياته، الأمر الذي جعل له خصوصيات ترتبط بالزمان والمكان، من أبرزها خصوصيات الجغرافية السياسية، التي فرضت عليه جملة من النظم والضوابط في إطار القانون الدولي.
وينقسم هيكل البحث إلى مقدمة وستة فصول. يمثّل الفصل الأول مدخلاً منهجياً، إذ تناول الخصوصيات المنهجية ذات العلاقة بالنظام السياسي الإسلامي الحديث.
ويشكـل الفصل الثاني الإطار النظري للبحث، ويمهد لمعالجة أهم الإشكاليات التي يطرحها، وفي مقدمتها إشكالية الاقتباس من الأنظمة السياسية الوضعية، وتعاطي النظام الإسلامي مع التجارب السياسية البشرية. كما يتعرض هذا الفصل للمفاهيم الأساسية للأنظمة السياسية التي يطرحها البحث، كالنظام السياسي والنظام الإسلامي وغيرها.
الفصل الثالث ويختص بموضوع النظام الثيوقراطي. وبعد التوقف عند مفهوم الثيوقراطية، يستعرض محاور تعارض الثيوقراطية مع النظام الإسلامي، كالمبنى النظري وآليات التطبيق وموقع المؤسسة الدينية؛ ثم يطرح نقطة اللقاء بين النظامين: الإسلامي والثيوقراطي؛ وهي ترتبط بجذور السيادة والمشروعية، وتلك شبهة لقاء أكثر من كونها مساحة اشتراك حقيقية.
وبالنظر إلى سعة موضوع تعارض النظامين الإسلامي والديمقراطي وتشابههما وعمق الإشكالية في هذا المجال، فقد عالج البحث الموضوع على مدى فصلين، أحدهما، وهو الفصل الرابع، اختص بقضية تعارض الديمقراطية مع النظام الإسلامي، حول محاور السيادة والحاكمية، التشريع والتقنين، وهيكل النظام السياسي. فيما ركّز الفصل الخامس على محاور لقاء الديمقراطية بالنظام السياسي الإسلامي، وأهمها: المفهوم العام للجمهورية، الفصل بين السلطات، سيادة القانون، الحقوق والحريّات العامة، الحقوق والحريّات السياسية.
وطرح الفصل السادس خيار الشورى، وبحثه من خلال جملة من الموضوعات، أبرزها: دور الأمة في النظام الإسلامي، موقع الشورى في النظام الإسلامي، مجالس الشورى في النظام الإسلامي، الاستبداد تبعاً لنوع الأنظمة: الثيوقراطية والديمقراطية والإسلامية، ثم كيف عالج دستور الجمهورية الإسلامية ظاهرة الاستبداد.
وتأتي الخاتمة لتستخلص أهم النتائج التي خرج بها البحث.
ولكي يكون البحث بمستوى موضوعه وأهدافه، فإنه حاول استيعاب أهم ما كتب في الموضوعات التي طرحها من كتب ودراسات، وهي تشكل بمجموعها المصادر والمراجع الرئيسة للبحث، وستقسم إلى سبع فئات:
الأولى: المؤلفات والدراسات التي تتناول موضوع الاجتماع السياسي الإسلامي، دون أن تحدد نموذجاً تطبيقياً، وهي تنتمي إلى المدرستين الإسلاميتين: مدرسة الخلافة ومدرسة الإمامة (أهل البيت).
الثانية: مؤلفات الإمام الخميني ومحاضراته وخطبه ورسائله ذات العلاقة بالشأن السياسي، على اعتبار أن النظام موضوع البحث هو إفراز لفقهه وفكره السياسي إضافة إلى الدراسات التي تتناول نظريته السياسية شرحاً وتحليلاً.
الثالثة: المؤلفات والدراسات التي تعالج قضايا الاجتماع السياسي الإسلامي والنظام السياسي الإسلامي المتمثّل بالنموذج الإيراني القائم، سواء تلك التي تنتمي للنموذج وتتبنى أطروحاته أو التي تقوّمه موضوعياً أو تنتقده.
الرابعة: الشروحات على دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والمؤلفات والدراسات التي تتناول موضوع القانون الدستوري في الجمهورية الإسلامية، على اعتبار أن هذا الدستور هو الصيغة القانونية للنظام (موضوع البحث)، ومعظمها مكتوب بأقلام إيرانية أكاديمية.
الخامسة: المؤلفات والدراسات النظرية في علم الاجتماع السياسي والنظم السياسية والقانون الدستوري، إضافة إلى المؤلفات التي تتناول نماذج تطبيقية في هذه المجالات، ولا سيما الأنظمة الثيوقراطية والدينية والديمقراطية والتوتاليتارية والدكتاتورية والمختلطة.
السادسة: المؤلفات والدراسات التي تعرض للأفكار والفلسفات والنظريات الاجتماعية والسياسية الغربية، ومعظمها مكتوب بأقلام أمريكية وأوروبية.
السابعة: المعاجم والموسوعات السياسية، والقوائم الببليوغرافية التحليلية والوصفية ذات العلاقة بموضوعات البحث، والمنشورة في كتب مستقلة أو في الدوريات.
والحقيقة، إن وجود هذا الكمّ المتميز من المصادر والمراجع، لا يلغي حقيقة الفراغ الذي تعانيه المكتبة العربية في مجال البحوث المنهجية العلمية التي تتناول موضوع الاجتماع السياسي الإسلامي والنظام السياسي الإسلامي الحديث (نموذج الجمهورية الإسلامية) وفقهه وقانونه الدستوري، قياساً بالمكتبة الفارسية الغنية جداً في هذا المجال.
ختام المقدمة.. هذه الدراسة، هي بالأصل رسالة ماجستير في علم الاجتماع السياسي مقدمة إلى الجامعة العالمية الإسلامية في لندن، وحصل فيها الباحث على درجة الماجستير بامتياز. وقد أشرف على الرسالة سماحة العلامة الشيخ محمد علي التسخيري، المفكر والمواطن الإسلامي العالمي، والذي حققت الدراسة من مراجعته لها مكسباً علمياً ومعنوياً؛ ولأنه مقوم موضوعي لتجربة النظام السياسي الإسلامي الحديث، رغم أنه من داخل التجربة وأحد رموزها؛ فله أسمى آيات الشكر والعرفان. وشكر وعرفان للأستاذ الدكتور محمد علي الشهرستاني، رئيس الجامعة؛ لما يقدمه من خدمات علمية من أجل الإسهام في بناء حاضر المسلمين ومستقبلهم، وللأستاذ الدكتور إبراهيم العاتي عميد الدراسات العليا في الجامعة؛ لجهوده الخيرة في الإطار نفسه، وكذلك لسماحة العلامة الشيخ محمد مهدي الآصفي والأستاذ الدكتور محمد علي آذرشب؛ اللذين تفضلا بمراجعة الدراسة وكانا عضوين في لجنة المناقشة. ومن الله التوفيق
علي المؤمن
بيروت – كانون الأول/ ديسمبر 2002
latest video
news via inbox
Nulla turp dis cursus. Integer liberos euismod pretium faucibua