مفصلية العقيدة الأموية في التأسيس للمنظومة الطائفية

Last Updated: 2024/04/26By

مفصلية العقيدة الأُموية في التأسيس للمنظومة الطائفية

د. علي المؤمن

من أبرز الحقائق التاريخية التي تظل مفصلاً أساسياً موجعاً في مسار الانشقاقات في واقع المسلمين، هي مركزية العامل الأموي، فليس هناك أدنى شك بأن كل أنواع الشقاق والاختلاف بين المسلمين، كان سينتهي في عهد الإمام علي، وخاصة بعد أن وأد الإمام علي الفتنة عقيب معركة الجمل، وكادت أمور المسلمين تعود الى سابق عهدها، وتزول كل تبعات سقيفة بني ساعدة والانقسام حول الخلافة، لولا عصيان معاوية وتمرده على الخليفة الشرعي الإمام علي ثم الإمام الحسن، وصولاً الى استيلائه على رئاسة الدولة الإسلامية وتأسيس عقيدة دينية سياسية خاصة به. فحين أصبحت العقيدة الأموية هي التي تحكم الدولة الإسلامية؛ فإن العودة الى واقع الوحدة العقدية والميدانية بين المسلمين، بات أمراً مستحيلاً، وخاصة بعد اختياره ابنه يزيد خليفة من بعده، ثم الأباطرة الأمويون من بعده بالوراثة، كأي سلطة إمبراطورية أخرى في العالم. وقد أدى حكم العقيدة الأموية الى فقدان الصبغة الدینیة التي کانت یتمتع بها الخلفاء الثلاث الأوائل، والذين تم انتخابهم بألوان مختلفة من التعیین والشوری.

“الأُموية” (Umawism) هي عقيدة دينية سياسية، وهي أولى الايديولوجيات في تاريخ المسلمين، ولم تكن مجرد تاريخ أو دولة أو حكم أسرة استولت على مقدرات المسلمين في مرحلة ماضية. وقد أنتجت هذه العقيدة أول سلطة شمولية في تاريخ المسلمين، كخليط ثيوقراطي ديني ــ علماني سياسي، وهي نسخة عربية مطابقة للثيوقراطيات الأوربية والشرق آسيوية في العصور الوسطى، بل أنها تتطابق مع النموذج الثيوقراطي ـــ السياسي الذي أسسه الإمبراطور الروماني “قسطنطين الأول”(272 ـــ 337 م)، والذي طرح نفسه الوريث الديني والزمني الحصري للسيد المسيح، وتجلي الرب على الأرض. وبسيف هذه العقيدة الدينية ـــ السياسية، ذبح قسطنطين جميع معارضيه السياسيين والدينيين، بمن فيهم المسيحيين اللصيقين بالعقيدة الأولى للسيد المسيح، وبذلك؛ أسس ديناً جديداً ينتسب الى السيد المسيح شكلاً، لكنه في الايديولوجيا والسلوك ينتمي الى الإمبراطور قسطنطين.

وتماهياً مع النموذج القسطنطيني، أو العقيدة القسطنطينية (Qustantinism) خلق معاوية عقيدة جديدة، تنتسب الى رسول الإسلام شكلاً، لكنها في الحقيقة عقيدةً سلطويةً من صنعه، تقف على دعامتين، تكمل أحداهما الأخرى، وتجتمعان معاً في شخصية الإمبراطور الأموي، بوصفه الوريث الديني والزمني الحصري لرسول الله:

الأولى: الدعامة الثيوقراطية الدينية، التي تتمظهر في السلطة الدينية للإمبراطور الأُموي، وهي التي تشرعن للمؤسسة السياسية التنفيذية ايديولوجيتها وفقهها السلطاني وسلوكياتها.

الثانية: الدعامة العلمانية السياسية، التي تتمظهر في السلطة السياسية للإمبراطور الأموي، والتي تحدد للمؤسسة الدينية التنفيذية دورها وصلاحياتها في إطار حركة الدولة.

ولكل من الدعامتين المذكورتين مقوماتهما الفكرية وثقافتهما ووسائل تطبيقهما وسلوكياتهما، ويستخدمهما الإمبراطور الأموي بأسلوب منظم ومنهجي وفقاً للحاجة والظرف.

وحينها بات التشابه بين العقيدة الأموية السلطوية، بشكلها الإسلامي، والعقيدة القسطنطينية السلطوية بشكلها المسيحي؛ يقارب التطابق، وخاصة من ناحية الاستعانة بمحدثي البلاط ووعاظ السلاطين والكهنة، من أجل في تحريف الدين والتأسيس لمعتقدات وتشريعات وضعية ونسبتها للدين، بهدف إطلاق يد السلطان على كل الأصعدة بمسوغات دينية، وأهمها تسويغ التأسيس للحكم الملكي الوراثي الثيوقراطي المطلق، والسلوكيات السلطوية الإمبراطورية، وصولاً الى محاولات مصادرة الدين الأصيل، وقمع المؤمنين الحقيقيين وذبحهم، والاستغلال الايديولوجي، بهدف توسيع رقعة الإمبراطورية باسم الفتوحات الزائفة، على حساب أراضي الشعوب وحقوقها وحرياتها، وهو ما يتعارض مع بديهيات الدين الإلهي، فضلاً عن حجم الانحراف الأخلاقي والفساد الشامل لكل مجالات حركة الدولة.

وقد ظلت العقيدتان القسطنطينية والأموية تتستران بالمسميات الأصلية التي اختطفتاها، أي نصرانية النبي عيسى وإسلام النبي محمد؛ إمعاناً في الخديعة التاريخية الكبرى التي مارسها الإمبراطوران المؤسسان بحق أتباع الديانتين المسيحية والإسلامية، والتي مكّنت قسطنطين الأول من التحول الى قديس مسيحي وإلى رسول النبي عيسى الى العالم، رغم أنه أخضع كل أوروبا وأغلب الشرق الأدنى لسلطانه، بالسيف والذبح والاحتلال واستعباد الشعوب، بمن فيها شعوب المسيحية الأصلية في مصر والشام، التي رفضت ديانته التخريفية السلطوية، وصولاً الى إقناع كل مسيحيي العالم بأن ديانته هي الديانة المسيحية الحقة، وإن ما عداها كفر وهرطقة وانحراف. وبأساليب الخديعة نفسها، تمكن معاوية من إعلان نفسه خليفة رسول الله وأمير المؤمنين وسلطان المسلمين، رغم أن سيفه ذبح المسلمين وقمعهم ونكّل بهم، قبل أن يذبح شعوب شمال أفريقيا وشرق آسيا ويستعبدها. وهكذا تمكن معاوية من إقناع جموع غفيرة من المسلمين بأنه الخليفة الحق وأنه أمير المؤمنين.

وظل أغلب أتباع عقيدة معاوية يجهلون بأنهم منحرفون عن دين محمد بن عبد الله، ويعدون معاوية صحابياً مقدساً لا يمكن القدح بعدالته. ولا شك أن تشبّه معاوية بقسطنطين واتّباعه خطاه، ليس من نتاج اختطاف معاوية للخلافة وتنصيب نفسه أميراً للمؤمنين؛ بل يسبقه زمنياً الى مرحلة عمله والياً على الشام، وهو ما صرح به علانية الخليفة عمر بن الخطاب، بعد سفره الى الشام ولقائه معاوية، ثم عاد الى المدينة غاضباً منه؛ لكنه لم يعزله، وهو ما سمح لمعاوية بالاندفاع أكثر نحو اقتفاء أثر قسطنطين.

وإذا كان الإمبراطور قسطنطين الأول قد بدأ حركته التوسعية الاستعمارية، بعد اعتناقه المسيحية، ثم اختطاف تعاليمها، وتحويلها الى الركيزة العقدية لحركتة الاستعمارية، ومطلقاً على نفسه ألقاب القديس ورسول المسيح، لكي يشكل ذلك بيعة دينية له في أعناق الشعوب المحتلة والمستعبدة، وضماناً لاستمرار استعباد الشعوب بسلطة الدين؛ فأن ورثته ساروا على سيرته أيضاً، وكانت وسيلتهم في تحقيق أهدافهم الاستعمارية أيضاً؛ شن الحروب وذبح الناس واضطهادهم ومصادرة أموالهم و سبي نسائهم، باسم المسيحية، حتى تمكنت الإمبراطورية الرومانية من احتلال معظم أوروبا وكثير من شمال أفريقيا وغرب آسيا، تحت شعار نشر المسيحية. كما سار على نهج قسطنطين أغلب أباطرة أوروبا وملوكها من بعده، حتى استحالت الديانة المسيحية ديانة أوروبية سلطوية، وركيزة من ركائز الاستعمار الأوروبي، في الوقت الذي تتعارض ممارسات الاستبداد والاستعباد والاضطهاد، ونهب أراضي الغير وثرواته واسترقاق أعراضه؛ تعارضاً تاماً مع تعاليم السيد المسيح المتمثلة بالمحبة والأخوة والتسامح والسلام، ورفض العدوان وإراقة الدماء.

أما الاستعمار الأموي، فهو الآخر اندفع في حمّى الاستيلاء على أراضي الغير، واستعباد الشعوب، بحجة نشر الدين الإسلامي، وتحت عناوين الفتوحات ووحدة الدولة الإسلامية، وهو ما لم يفعله الرسول محمد، بل أن بديهيات الشريعة الإسلامية في العدل والمساواة، وحرمة الدماء والعدوان على الأنفس والأعراض والأموال، وعدم الإكراه وحرية الاعتقاد واحترام الأديان وأتباعها، والعطف والرحمة والأخلاق تجاه جميع البشر، بل تجاه الحيوان والنبات؛ تتعارض مع المنهج الاستعبادي الذي أسسه له معاوية وآل أمية.

بيد أن مشكلة الديانة الإسلامية أقل تعقيداً من مشكلة الديانة المسيحية في موضوع التحريف والاختطاف، لأن النبي محمداً وضع ضمانتين أساسيتين للحيلولة دون اختطاف الإسلام اختطافاً جوهرياً ودائماً، وهما القرآن والعترة (أئمة آل البيت)، وهي خاصية لا تتوافر في الدين المسيحي؛ إذ عملت الثورات ضد الحكم الأموي، وكذا الجهود العلمية والدينية والتبليغية التي قام بها أئمة آل البيت؛ عملت على تقويض أغلب معالم العقيدة الأموية، ولولا ذلك لاستحال الإسلام ديناً أموياً، كما استحالت المسيحيةُ قسطنطينيةً بامتياز.

وعليه؛ فإنّ معاوية لم يكن مجرد حاكم مستبد أو مجرد ظاهرة سياسية تاريخية يقتدي به الطغاة في سلوكهم السياسي؛ فهذه النظرة سطحية جداً قياسا بما قام به معاوية، عندما أسس عقيدة وايديولوجية متكاملة لصيقة بوعي أهل السنة بأنفسهم وبالآخر المختلف مذهبياً وطائفياً، وأصبح له الدور الاساس في تشكيل العقل السني، الذي رسّخه آل امية، ولاتزال افرازاته ومخرجاته قائمة بقوة. وهذا لايعني أنّ التسنن أسّسه معاوية، بل أنّ معاوية أسس شريعة جديدة، فيها سنة وعقيدة وفقه، وسارت عليها دولة آل أمية ومن تبعها، ولهذه الشريعة تأثيرات كبيرة على الفرق الكلامية والمذاهب السنية والدول السنية، وخاصة في مجال فقه الدولة، وفي مجال النظرة الى التشيع والشيعة، وهي نظرة ستاتيكية راسخة في العقل السني منذ (١٤٠٠) عاماً وحتى الآن، وهذه النظرة هي من أهم عوائق بناء قاعدة رصينة للتآلف والتآخي بين السنة والشيعة. واستمراراً بسياسات التشدد في تطبيق العقيدة الأموية؛ فقد قام السلطان الأموي يزيد بن معاوية بقتل إمام المسلمين الحسين بن علي وآل بيت الرسول وصحابته وتابعيه، وأسر إمام المسلمين علي بن الحسين السجاد. وسبقها بوقعة “الحرة” التي قتل فيها آلاف المسلمين، واستباحة مدينة الرسول، ثم حرق الكعبة وهدمها بقذائف المنجنيق، وذبح المسلمين داخل المسجد الحرام. ولم يتخلف سلاطين بني أمية عن هذه السياسات، بل كان كل سلطان يبتكر أساليب جديدة لتطبيق عقيدة معاوية.

 

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment