مفارقات نظرة المكونات العراقية الى العراق الجديد

Last Updated: 2024/04/26By

مفارقات نظرة المكونات العراقية الى العراق الجديد

د. علي المؤمن

ورث عراق ما بعد العام 2003؛ بلداً ليس فيه مساحة صالحة للعيش الحقيقي.. بلداً مدمراً منكوباً، وشعباً شديد الإرهاق؛ بفعل الحروب المتوالية، وانهيار الاقتصاد والوضع المعيشي والبنى التحتية، والقمع الطائفي للأكثرية الشيعية، والصراعات العنصرية، ومصادرة الحريات والحقوق الفكرية والثقافية والسياسية والإعلامية، ومنع أي تعبير عن الرأي الآخر، والحرب النفسية، والقتل والاعتقال والتهجير والاضطهاد.

وهذا لا يعني أن نوع النظام الذي حكم العراق بعد العام 2003 غير مسؤول عما وصل إليه الواقع العراقي، بل أنه يتحمل وزر رفض حل عقد العراق وأزماته، حلاً علمياً واقعياً. ولا أقصد بالنظام هنا؛ الحكومات أو رئاساتها، بل أساس النظام التوافقي التوازني المحاصصاتي، وكذلك الفرقاء السياسيين الذين شاركوا في إدارته، لأن حكومات ما بعد 2003 تضم مجاميع من الأحزاب والجماعات والكتل والائتلافات، المختلفة دينياً ومذهبياً، والمتعارضة سياسياً وثقافياً، وكل منها يفرض شروطه وقوانينه على الدولة العراقية، كما يفرض مرشحيه ونسبته من المسؤوليات والمناصب، بدءاً برئيس الجمهورية وانتهاء بمدراء الدوائر. ثم تتحول الوزرات إلى مراكز يديرها – غالباً – الحزب الذي ينتمي إليه الوزير. وبالتالي؛ يتحول نظام الحكم إلى مهرجان من الثقافات والايديولوجيات والموروثات النفسية المتعارضة والانتماءات السياسية غير المنسجمة.

وقبال هذا الوضع؛ يكون من الطبيعي تسلل كل ألوان الفساد الإداري والمالي والأخلاقي والقانوني والثقافي والإعلامي إلى الجسد الحكومي والوطني الذي يتصارع أعضاؤه، ويُفشل بعضها الآخر، ومن الطبيعي أيضاً أن ينخفض منسوب الإنجاز لدى الحكومة إلى حدها الأدنى.

والأسوء من ذلك؛ أن كثيراً من الفرقاء السياسيين الذين يشاركون في نظام الحكم؛ يضع قدماً في الحكومة، وقدماً آخر في المعارضة السياسية، بل يستعير بعضهم قدمين ثالثة ورابعة، ليضع إحداهما في الجماعات المسلحة التي تقاتل الدولة علناً، ويضع الأخرى في واشنطن. هذا التعارض الغريب بين الفرقاء السياسيين؛ له مسوغاته الضاربة بعمقها في أزمات العراق التكوينية والبنيوية، أي أن كل فريق يعطي لنفسه الحق في رؤية العراق من زاويته، ويتغنى بالوطن الذي يعتقد بشكله ومضمونه، وهو شكل ومضمون يختلفان من فريق لآخر. وهو ما ينطبق أيضاً على المفاهيم ودلالاتها وتطبيقها؛ فكل الفرقاء ينادون بحب الوطن والتضحية من أجله، وبكرامة المواطن وبالعدالة والمساواة والحقوق والحريات والمشاركة، لكنهم يختلفون في ماهية الوطن الذي يضحون من أجله ونوعية هذه التضحية، ويختلفون في دلالات المواطنة والكرامة والعدالة والحقوق والمشاركة والمساواة وتطبيقاتها. وفي النتيجة؛ تكون ممارساتهم متعارضة بالكامل، وهم يحملون المفاهيم والشعارات ذاتها ويشتركون في إدارة الدولة والسلطة ذاتها.

ومثال ذلك؛ أن كثيراً من الفرقاء السنة يعتقدون أن عراقهم هو عراق ما قبل العام 2003، وأنهم يطمحون من أجل العودة إليه، أما عراق ما بعد العام 2003 فهو ليس العراق التقليدي الذي يعتقدون به وينتمون إليه، لأنهم أصبحوا مجرد حكام شركاء فيه وليسوا حكاماً مطلقين، بعد أن تحوّل إلى عراق كل المكونات العراقية. وفي المقابل يقاتل أغلب الفرقاء الشيعة من أجل التخلص من رواسب عراق ما قبل العام 2003، لأنهم وجدوا الوطن الذي ينصفهم نسبياً بعد العام 2003. وحيال ذلك ينظر كل مكون للوطن من زاويته فقط. وبذلك يكون الوطن غير الوطن، والتضحية غير التضحية، والعدالة غير العدالة. وهكذا فرقاء متضادون في دلالات المفاهيم وتطبيقاتها ومصاديقها، لا يستطيعون الاشتراك في بناء دولة وحكومة وسلطة منسجمة متوازنة؛ إلّا إذا أذعنوا للواقع الجديد واعترفوا بحقائقه واستحقاقاته.

إنّ المشكلة العراقية تنطوي على مجموعة أزمات مركبة كبرى، وإنّ ما حدث في العام 2003 هو صدمة تاريخية، ربما لا تعرف جوهرها حتى الدول الكبرى التي أسقطت نظام صدام حسين، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية؛ فتتصور أنها أسقطت دكتاتوراً اسمه صدام، كما أسقطت غيره في أمريكا اللاتينية وشرق آسيا. ولكن دول الاحتلال لا تعلم أنها أسقطت في العراق تاريخاً عمره قرون ممتدة.

ولذلك؛ فإن أزمة معقدة عمرها مئات السنين؛ لا يمكن حلّها بعشرين سنة أو أربعين سنة، بل لعل العراق بحاجة إلى أربعين عاماً أخرى، ليصل إلى أهدافه في الاستقرار والتكامل البنيوي؛ شرط أن يكون الطريق الذي يسلكه العراقيون هذه المرة طريقاً علمياً وواقعياً وسليماً في المنهج والفرضيات. ولا نطرح هذه الفترة الزمنية من باب التخمين العابر، بل من منطلق علمي ورؤية استشرافية. ولا شك أن مشروعاً بحثياً استشرافياً ستراتيجياً كهذا؛ هو عمل حكومي بحثي كبير، ينفذه عشرات المتخصصين العراقيين والعرب والأجانب، ممن يعون عمق الأزمات العراقية وأعراضها.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment