معوقات استمرار مشروع حوار الحضارات

Last Updated: 2024/04/26By

معوقات استمرار مشروع حوار الحضارات

د. علي المؤمن

من أبرز الميزات التي يتميز بها مشروع حوار الحضارات التعرّف على طبيعة المعوّقات التي تحول دون استمراره وتعيق حركته، أو تحول دون ارتقاء الحوار إلى مرتبة الواقع والتطبيق، ومن الضروري للمشروع أن يراجع من حين لآخر نوعية المشكلات والعراقيل التي تواجهه، ويعيد ترتيبها، بهدف مواجهتها وفقاً للأولويات. وفي هذه الحالة يتمكن المشروع من أن يكون جزءاً من الواقع، ويتعامل معه في ضوء الإمكانيات المتاحة محلياً وإقليمياً ودولياً، وليس في ضوء الأماني والتخطيط النظري. وتنقسم المعوقات إلى ذاتية مرتبطة بالمشروع نفسه، والموضوعية ذات العلاقة بالوضع العالمي العام وطبيعة المتحاورين.

1-    المعوقات الذاتية:

وهي المعوقات المرتبطة بالمشروع وبنيته الفكرية وغاياته، والنظرية التي يستند إليها، ورسائله وآلياته. وليس من الضروري أن تكون جميع هذه المعوقات قائمة الآن، ولكن مقدماتها تلوح في الأُفق، ومن هنا أمكن استباق قيامها واحتواؤها قبل أن تتجذر. ومن أهم هذه المعوقات: تحوّل مشروع حوار الحضارات إلى خطاب تنظيري وممارسة إعلامية وثقافية عامة مشحونة بالأماني والآمال، أو تحوّله إلى دعوات أخلاقية ومعنوية ونمطية، وفي ذلك تسطيح لأهدافه ووسائله. كما أنّ اقتصار تبنّي المشروع على دولة واحدة أو على مؤسسة فيها، ولا سيما بعد انتهاء عام حوار الحضارات (2001 م)، وعدم مواصلة المنظمات الدولية والدول الأُخر التفاعل مع المشروع؛ سيُضعف المشروع بشكل كبير ويطفئ وهجه العالمي. وفي حال اقتصار المشروع على حالات حضارية ومدنية معينة، وعدم انفتاحه على حضارات ومدنيات أُخر، ولا سيما في مرحلته الأُولى، فإنّ أتباع هذه الحضارات سيكونون مضطرين للانكماش حيال المشروع، فضلاً عن افتقار نظرية المشروع إلى معايير علمية ثابتة لتقسيم الحضارات، وتحديد نوعية الحضارات التي يُفترض دخولها في مشروع الحوار.

2-   المعوقات الموضوعية:

وهي المعوّقات التي تقع خارج دائرة المشروع، والمفروضة عليه من الواقع الدولي ومن طبيعة الحضارات التي يشملها. وأبرز هذه المعوقات: عدم تحديد المتحاورين لهوياتهم تحديداً موضوعياً حقيقياً، فالمحاور الذي لا يكشف عن هويته أو يتجنّب تحديدها بدوافع مختلفة أو يجهل هويته، يعيش أزمة هوية ولا يستطيع حينها التعبير عن نفسه وعن تطلعاته.

فمثلاً عندما نقول: (نحن)؛ فمن البديهي أن نعرّف من نحن؟ هل نحن عرب، مسلمون، عرب مسلمون، عرب أفارقة أم عرب آسيويون؟ وهل نحن ـ مثلاً ـ عراقيون، عرب، مسلمون، أم آسيويون؟ فأي حضارة يمثلها العراق؟ ومن ثمّ فإنّ الهوية الحضارية تنطوي على أبعاد مختلفة تعبِّر عن انتماء الجماعة الإنسانية، ومن أبرزها مصادر تشكيل الهوية ومرجعيتها العقائدية والروحية والتاريخية، إضافة إلى موقع هذه الحضارة في الراهن الدولي ومقدار إسهامها في إنجاح مشروع الحوار وفي التأثير في مسار الحوار.

ولكي نكون أكثر وضوحاً في موضوع الهوية، فإننا نتحدث عن هويتنا الحضارية ـ نحن المسلمين ـ وهي هوية ما زالت غامضة في أذهان الكثيرين، فضلاً عن أنها لم تتشكل بعدُ على أرض الواقع. والسبب يعود إلى تشظي المشروع الحضاري الإسلامي بفعل التجاذبات القومية والوطنية والإقليمية التي تزيد من تعقيد موقف المحاور فيما يعني الهوية الحضارية الإسلامية حين يريد التعبير عن انتمائه وهويته خلال الحوار، إضافة إلى الحصار المزدوج الخطير الذي يعاني منه المشروع الحضاري الإسلامي، بين غزو ثقافي وحضاري خارجي، وبين اغتيال ثقافي داخلي يكمِّل الغزو الخارجي. ومحصلة هذا الوضع بروز مظاهر اغتراب مركبة وارتباك شديد في الهوية، يمكن إطلاق صفة (شيزوفرينيا حضارية) عليه، ومثال ذلك حالة العودة إلى مرحلة ما قبل الهوية، أو ما قبل تشكيل الهوية.

ولا يقتصر الأمر على المسلمين فحسب، بل يشتمل على الحضارات الأُخر أيضاً، فاليونان هم أصحاب حضارة إغريقية رائدة وهم مسيحيون أيضاً وأُوروبيون وغربيون، والغرب كذلك تتوزع انتماءاته بين التاريخ والدين والسياسة والاقتصاد، فمن هو الغرب الذي يراد التحاور معه؟! أو فضلاً عن أنّ الغرب المعاصر يعبر على إشكالية تحديد الهوية، بدوافع مختلفة، فإنّه لا يعرف هوية الآخر معرفةً موضوعية، بل يعرفها من خلال ذاته، ومن ذلك وعي الغرب بالإسلام، والذي يمثّل جزءاً من وعيه بذاته.

من خلال استقراء سريع للأفكار وممارسات الوجودات الحضارية القائمة، يتضح أنّ كثيراً منها لا يعي حقيقة الشراكة الإنسانية على الأرض، فيتصرف وكأنه يعيش مصيراً منفرداً ومنعزلاً عن العالم، أو أنّه صاحب الشأن الوحيد على الأرض؛ باعتباره الذي يحق له التحكم بمصائر المجتمعات البشرية الأُخر، بالصورة التي تحقق له مصالحه وحسب، الأمر الذي يوسّع دائرة التناقض بين البشر، فمثلاً هناك أثرياء يشكلون 15% من عدد سكان العالم يسيطرون على أكثر من 80% من ثروات الأرض، فيما لا تتجاوز ثروة الـ 85% الباقين من البشر نسبة 20% من الدخل العالمي، بل سيؤدي تطور النظم الاقتصادية الحالية إلى ارتفاع نسبة البطالة في المستقبل بشكل مخيف، حتى تقدر بعض الدراسات الاستشرافية أن 80% من عدد سكان الأرض سيكونون خلال الخمسين عاماً القادمة عاطلين عن العمل أو شبه عاطلين. وسيرتكز رأس المال المعولم في أُوروبا الغربية والولايات المتحدة الأميركية واليابان.

ولسنا هنا في معرض نقد الغرب، بل يهمنا التعرف على المساحات القابلة للحوار معه، من خلال الوقوف على طبيعة وعيه لحقيقة الشراكة الإنسانية؛ لأنّ الغرب هو أحد أبرز اللاعبين الدوليين في مشروع الحوار.

إن المشكلة أو العقبة الأساسية هنا تتمثل في أنّ الحضارة الغربية ـ إن صح التعبير ـ لا تعترف بالآخرين وبحقهم في الاستقلال الحضاري، وتصادر أي جهد أو إنجاز حضاري لا يصب في مسارها؛ لأنّها أُحادية النظرة. وتطبّق عملياً نظرية (إمّا نحن أو أنتم) أو (إمّا نحن أو لا أحد)، وهي بذلك ترفض ـ ضمنياً ـ التعايش المتكافئ، وإن اعترفت بالآخرين فإنّها تعترف بهم كأطراف وضعفاء وهوامش، في حين أنّ الغرب هو الذات والمركز والأصل والقوة ـ الحق والسيد والعقل.

فالأوروبيون لم يتعاملوا مع الهنود الحمر ـ مثلاً ـ من منطلق الشراكة في الأرض والثروة والسيادة والمصير، رغم أنّ هذه الشراكة مجحفة بحق الهنود الحمر، ولكنهم تعاملوا من منطلق اختزال معنى الحق في حالة التفوق، فالمتفوق الأقوى له الحق في تدمير الآخر الضعيف سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وتكنولوجياً، وتصفيته جسدياً لو رفض الاستعباد والاستكبار.

إذن، لا معنى للشراكة مع الآخر في وعي الغرب بذاته وبما حوله، بل هناك معانٍ خاصة للتعايش. أي أنّ الغرب يشعر بالحاجة للتعايش مع الآخر، وبالحاجة للحوار معه، ولكن بهدف تحويل الآخر إلى سوق استهلاكية لمنتوجات الغرب الفكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية، ومن ثم إعادة تشكيل الأخير قيمياً وأخلاقياً وعقائدياً وسلوكياً، فهو لا يرضى عن الآخر إلّا إذا أصبح الآخر كما يريد الغرب وليس كما يريد الآخر أن يكون، فالآخر ـ في رأي الغرب ـ لا يحق له أن يفكر كما يريد أو يكون كما يريد، وإلّا سيكون متمرداً ولا يستحق أن يحاوره الغرب أو يتعايش معه. وإعادة التشكيل هنا تتضمن (غربنة) معتقدات الآخر وأفكاره وعواطفه وقيمه وسلوكه، وفقاً لعقلانية الغرب وحداثته. ويستخدم في هذه العملية مختلف أنواع الوسائل والأساليب، ابتداءً بالغزو العسكري والسياسي والاقتصادي والثقافي وانتهاء بتحويل العالم والتكنولوجية المتطورة إلى نظم للاستبداد والسيطرة والتحكم بالآخر، ومن ذلك نظم المعلوماتية والفضاء والاتصالات والمواصلات والإعلام، بل وحتى العلوم التي تهدف إلى خدمة الإنسانية، كالهندسة الوراثية والبايولوجية وغيرهما.

ولعل هذه المنظومة الفكرية وما يترتب عليها من ممارسات، هي مؤشرات على لون من البداوة (عكس التحضر)، أو هي عودة إلى البداوة، فالغرب منذ (35) عاماً وحتى الآن يمارس الغزو كقبيلة كبيرة وقوية أعطت لنفسها الحق في مصادرة حقوق جميع الوجودات الأُخر.

وعند هذه النقطة نصل إلى حقيقة لاحقة أُخرى أو معوّق آخر، ويتمثل في عدم التكافؤ بين المتحاورين سياسياً واقتصادياً وعلمياً وعسكرياً، واستثمار الأطراف المتفوقة هذه المعادلة اللا متوازنة لتحقيق أغراضها في التحكم بالآخرين، إذ إنّ عدم وعي حقيقة الشراكة بين سكان هذا الكوكب يؤدي إلى الإحساس بعدم التكافؤ بينهم. وحينها يكون الحوار حوار القوي والضعيف أو حوار الغالب والمغلوب، وهو ـ في الواقع ـ ليس حواراً حقيقياً موضوعياً، بل يتلخَّص مضمونه في فرض إرادة القوي على الضعيف وإملاء شروط الغالب المتفوق على المغلوب المنكسر، وخلاله تتحول المثاقفة والتبادل الفكري إلى غزو ثقافي، والحوار الحضاري إلى بداوة وتوحش.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment