مسار تبلور ايديولوجيا العدوان الصهيونية
مسار تبلور ايديولوجيا العدوان الصهيونية
د. علي المؤمن
منذ مطلع القرن العشرين ظلت المسألة اليهودية بصياغتها الصهيونية، إحدى أهم أسباب التوتر على مستوى العالم أجمع. وكان منظرو العقيدة الصهيونية – آنذاك – يطرحون المسألة بثلاثة وجوه:
الأول: المظلومية التاريخية التي عاشها اليهود قرون طويلة منذ انهيار سلطتهم في أرض كنعان (قبل الميلاد)، وما رافقها من اضطهاد ونكبات وتشتت، استمر حتى بدايات القرن العشرين.
الثاني: تسويغ كل أساليب الرد على المظلومية، وهو ما أسموه بإحقاق الحق، والمتمثل في ممارسة أقصى مظاهر العنف والإرهاب والعدوان ضد الآخرين. فضلاً عن الوسائل التقليدية كالتآمر والمال والجنس: من أجل بلوغ الأهداف التي حددوها.
الثالث: الحصول على تعويضات مجزية لما تعرض له اليهود من اضطهاد، وفي مقدمة تلك التعويضات إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين؛ باعتبارها الأرض التي يمكنها لم شتاتهم.
هذه التوجهات شكّلت مساحة مشتركة مع طموحات الإمبراطورية البريطانية، والتي عملت من خلال وزارة المستعمرات على تحويلها ورقة عمل استراتيجية، تهدف إلى زرع كيان صهيوني في قلب المنطقة الإسلامية، ليكون خندقاً استراتيجياً متقدماً للخارطة الاستعمارية البريطانية، وبؤرة توتر دائمة تشكل أداة استثمار لبريطانيا تحفظ لها حضورها المتواصل في المنطقة، على العكس من كل المستعمرات الأخرى التي يمكن أن تحصل على استقلالها في يوم ما. وهكذا نجح المخطط الغربي في تطويع المسألة اليهودية باتجاه تحقيق أهدافه، ولم يكن هناك أدوات أهم وأكثر تأثيراً من اليهود الصهاينة؛ بالنظر لوحدة الهدف بين الطرفين.
ومع بدء العصابات الصهيونية في تنفيذ مخطط إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين؛ تكون المرحلة الرابعة من التاريخ اليهودي قد بدأت. ويمكن ترتيب هذه المراحل على النحو التالي:
المرحلة الأولى: مرحلة الطغيان
رافقت هذه المرحلة هيمنة بني إسرائيل على السلطة في أرض كنعان وبعض الأراضي المجاورة، وهي المرحلة التي طبعت تاريخ اليهود وساهمت في تكوينهم، جرّاء نوعية الممارسات التي قاموا بها، والتي لم تقف عند حدود قتل الأنبياء والصالحين وأبنائهم، وتسويغ كل ألوان العدوان ضد الأقوام الأخرى، بل تعدتها إلى الافتراء على الله (جلّ وعلا) وإلى كثير من أنواع الفساد في الأرض، وهو ما تشير إليه كثير من الآيات القرآنية والمدونات التاريخية.
المرحلة الثانية: مرحلة القهر
في هذه المرحلة اضطر اليهود للتنظير لأساليب سليمة للتعايش مع الأغيار (الشعوب غير اليهودية) ومع قوى الاحتلال والغزو (البابليين والرومان تحديداً)، حفاظاً عل حياة اليهود ووجودهم. وكان ممن نظّر لهذه الأساليب الحاخام «يوحنا بن راكاي»، الذي عاش الحصار الروماني للقدس في القرن الأول قبل الميلاد. وكذلك الحاخام «يهوذا الأمير» الذي وثّق علاقته بالإمبراطور الروماني «انطونيوس». وقد سعى عشرات الحاخامين الآخرين في القرن الثالث الميلادي، يرأسهم «يهودا هاناسى» عبر تحرير كتاب «المنشاه» إلى دعوة اليهود لتجنب الاستعمال المفرط للعنف والقوة ضد الآخرين، والذي كان يقضي على وجودهم. وطالبت تعاليم هذا الكتاب اليهود بإتباع الوسائل السّلمية في مرحلة الضعف والشتات. وبقيت هذه النزعة سائدة غالباً قرون طويلة، مقترنة باستثمار ثلاثة عوامل بديلة: المال والجنس والتآمر السياسي والاجتماعي.
المرحلة الثالثة: مرحلة الاستقرار
وهي التي بدأت مع انتشار الإسلام واتساع رقعة الدولة الإسلامية. فقد عاش اليهود أفضل حالات الاستقرار والأمان والرخاء في ظل مجتمعات المسلمين سواء في البلدان العربية أو تركيا أو إيران أو الأندلس، على الرغم من استمرار تآمر قطاعات من اليهود ضد المسلمين، منذ بزوغ دعوة رسول الله(ص) وحتى انهيار الدولة العثمانية.
المرحلة الرابعة: مرحلة استدعاء الطغيان
وقد بدأت مع التحالف المصيري بين وزارة المستعمرات البريطانية واليهود الصهاينة وتأسيس المنظمة الصهيونية العالمية، إضافة إلى تحرك اليهود الروس. وقد ساهمت أحداث العنف التي استهدفت يهود أوروبا وروسيا القيصرية في القرن التاسع عشر الميلادي وبدايات القرن العشرين، ولا سيما المذابح الجماعية الروسية (البوغروم) عام 1903، بدوافع عنصرية وسياسية ودينية، ساهمت في دفع يهود أوروبا وروسيا إلى إيقاظ تعاليم وتقاليد العنف والإرهاب اليهودية التاريخية، التي ظلت نائمة غالباً قرون طويلة. وكان هذا الاستدعاء براغماتياً ولوناً فاقعاً من ألوان الدجل السياسي؛ لأن هذه الفئة من اليهود التي بادرت إلى هذا العمل كانت في غالبيتها علمانية وملحدة. ولم يكن يربطها بتعاليم التوراة أو اليهودية المتدينة رابطة تذكر، إذ أنها عمدت إلى انتقاء بعض التعاليم اليهودية التي تدعو إلى القتل والعنف واستباحة دماء (الأغيار) وأموالهم وأعراضهم، واستخدام أية وسائل لا أخلاقية ولا إنسانية بهدف الوصول إلى الغايات المرسومة.
وهكذا ولدت الصهيونية في رحم جمهرة من السياسيين والمثقفين والمحامين اليهود العلمانيين، يتقدمهم «هرتزل»، والذين دعا معظمهم اليهود إلى الثورة أيضاً ضد الديانة اليهودية وتعاليم أنبياء اليهود، باعتبارها تقف عقبة دون تحقيق طموحات اليهود: بسبب أوامرها إلى اليهود بالتعايش مع الآخرين، ومن هؤلاء الشاعر الروسي اليهودي «بياليك» الذي طالب قبضات اليهود أن «تطير مثل الأحجار ضد السماء وضد العرش السماوي»، وكذلك الأديب اليهودي الروسي الذي طالب اليهود بمخالفة التوراة بقوله: «يا إسرائيل ليس العين بالعين. إنّما عينان بعين، بل أسنانهم كلها أمام كل إهانة».
وما نريد أن نخلص إليه هنا هو أن الممارسات العدوانية لليهودية الصهيونية لا تمثل استثنائية، أو مجرد ردود أفعال على أحداث أو اعتداءات: بل هي تعبير عن بنية فكرية ومنظومة عقيدية لا ترى إلا نفسها وأهدافها، ولا تعترف بأي ندٍّ أو نظير لها في الإنسانية، وبالتالي لا تعترف بأي حق للآخر في أي شيء.
وليس مسلسل العدوان المستمر ضد البشر والحجر والقيم والمقدسات في فلسطين ولبنان وبعض دول الجوار الفلسطيني، منذ مطلع القرن العشرين وحتى آخر عدوان على المقاومة الإسلامية اللبنانية وشعبها في تموز/ يوليو 2006، غلا تطبيقات ميدانية لهذه المنظومة.
ولعل من أكبر الإنجازات التي حققتها الصهيونية اليهودية العالمية، فضلاً عن استيلائها بالقوة على فلسطين، هو دعمها ولاة صهيونية شقيقة في الغرب، ولا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، هي الصهيونية المسيحية، التي تعتمد في بنيتها النظرية مجموعة من النصوص المنتقاة من الكتاب المقدس، ولا سيما من المعهد القديم، إضافة إلى تفسيرات ونبوءات تلمودية وأخرى مسيحية تعود إلى مرحلة الحروب الصليبية. وبالتالي فإن التحالف الديني – السياسي – المالي بين الصهيونية المسيحية والصهيونية اليهودية، يستند غالباً إلى رؤى ايديولوجية دينية مشتركة، تتمظهر في وحدة النظرة إلى شكل العالم ومضمونه وحاضره ومستقبله، وما ينطوي عليها من قضايا غيبية لها علاقة بآخر الزمان. ولا شك أن ذلك التحالف وهذه الوحدة والرؤية الكونية بني وجهي الصهيونية ينتج عنه بالضرورة وحدة في المواقف السياسية والإستراتيجية. ووفقاً لذلك يمكن فهم خلفية ربط الصهيونية المسيحية مصيرها بمصير إسرائيل ووجودها.
ومن المهم أن نشير هنا إلى أن النزوع المتجذر في الشخصية اليهودية التاريخية أو مجتمع اليهود التاريخي التقليدي نحو العدوان والإفساد والتآمر، لا علاقة له بالديانة اليهودية وتعاليمها الأصلية، فهناك فرق بين اليهود كعصبية تاريخية وبين اليهودية كديانة سماوية، وفرق آخر بين اليهود كأفراد ومجتمعات إنسانية قائمة وبين العصبية اليهودية التاريخية، فاليهودي كإنسان لا يمكن أن يتحمل أوزار العصبية التاريخية خلال ثلاثة آلاف عام، غلا إذا أصبح جزءاً منها وامتداداً لها، أي أنّ اليهودي له كل الحق في العيش في هذا العالم وممارسة ما يفرضه عليه انتماؤه من حقوق وواجبات، ومن ذلك عباداته وطقوسه، حتى داخل الدولة الإسلامية، فذلك ما تقره الشريعة الإسلامية بكل حزم، وتبيّنه سيرة المسلمين طيلة مئات من السنين. وبالتالي فإننا حين نتحدث عن اليهود في هذه الدراسة فإننا لا نقصد بذلك اليهودية كديانة أو اليهودي كإنسان، بل العصبية اليهودية التاريخية وتطبيقها المعقد المعاصر المتمثّل في العقيدة الصهيونية، التي تمثل نتاجاً مشتركاً لليهود العلمانيين واليهود المتدينين القوميين.
latest video
news via inbox
Nulla turp dis cursus. Integer liberos euismod pretium faucibua