مساحات التجديد في الفكر الإسلامي

Last Updated: 2024/04/26By

مساحات التجديد في الفكر الإسلامي

د. علي المؤمن

تحديد الثوابت والمتغيرات في الفكر الإسلامي، يهدف إلى التعرّف على المساحات القابلة للتجديد أو غير القابلة، وعلى الأصول المقدسة للإسلام، ونتاجات المسلمين الفكرية والفقهية.

وقد مرّ أن أصول الفكر الإسلامي المتمثلة بالقرآن الكريم والصحيح من السنة الشريفة، وهي سنّة الرسول (ص)، عند المذاهب السنية، مضافاً إليها سيرة الأئمة الاثني عشر (ع)، عند الإمامية، باعتبارها كاشفة عن السنة النبوية؛ هي أصول ثابتة بالمطلق وغير قابلة للتغيير، وهي المرجعية القوّامة المنصوص عليها، وبها تتمثل أسس الحلال والحرام، ومعايير التجديد والتحريف؛ لأنها الجانب الإلهي المعصوم والملزِم في الإسلام، وبكلمة أدق هي الإسلام بعينه.

وتنطلق العملية الاجتهادية، عقيدة وفقهاً، من القواعد الثابتة التي يؤسس لها القرآن الكريم والسنة الشريفة، وهي ما يسميه الإمام جعفر الصادق(ع) بالتفريع: «إنما علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم أن تفرّعوا»، فالمراد منه فهم أصحاب الاختصاص من الفقهاء والأصوليين وعلماء الكلام والحديث والمفسرين، وليس الفهم العام. وهذا الفهم التخصصي ووعي الخبراء بالإسلام هو الجانب المتجدد، رغم أنه يتمتع بثبات وإلزام نسبيين. وقد أفرز الوعي بالأصول عبر الأزمان، من خلال مناهجه العلمية، كالاجتهاد، ما يمكن أن نطلق عليه العلوم والنظريات الإسلامية في مختلف مجالات حياة الإنسان واهتماماته، كالفقه والأخلاق والتأريخ والنظم وغيرها.

والعملية الاجتهادية وتجديد الوعي مستمران، ويستمد هذا الاستمرار خصوصيته من طبيعة الشرع الإسلامي المقدس، وقابليته على استيعاب متطلبات الزمان والمكان. والاجتهاد والوعي الموروثان المتمثلان بما أنتجه السلف الصالح هو «التراث». وتحديداً التراث الفقهي والكلامي والفكري. والتراث هو المساحة القابلة للتجديد، أو «المتغير» في الفكر الإسلامي الذي يراعي التحولات في المفاهيم العامة وتطوّر وعي المسلم والعقل المسلم، عبر الزمان والمكان. والمتغير الآخر اللصيق هو ما أغفله التراث من نظم ونظريات، أي الكشف الجديد. وبكلمة أخرى، فإن القابل للتغيير يقتصر على ثلاث مساحات:

  • القواعد والأحكام العقدية والفقهية المكتشفة سابقاً في القرآن والسنة الشريفة، والمختلف في فهمها وتفسيرها، وهو الاختلاف المرتبط بالموروث.
  • الأدوات والمعارف التي تساعد على الاكتشافات العقدية والفقهية الجديدة في القرآن والسنة الشريفة.
  • القواعد والأحكام والإجابات والمقاربات للوقائع والموضوعات الجديدة، بما فيها الموضوعات التي كانت لها أحكام سابقة، ثم تغيرت موضوعاتها، فتبعها تغيير في الحكم.

وهنا ينبغي الأخذ بنظر الاعتبار قوانين التجديد والتغيير في مجالي الفقه والكلام، وأصول الاستنباط الفقهي المتعلقة بالمساحة الأولى، وخاصة «الإجماع» باعتبار حيثيته الكاشفة عن السنة. أي أن التغيير هنا ليس مطلقاً في حريته؛ فمن الثوابت في هذا المجال؛ أن يعتمد التغيير على أدوات لا تتعارض مع الأصول (المصادر المقدسة الملزِمة)؛ فإنه من غير الممكن أن يتم الاستنباط من الأصول أو قراءتها بمناهج وضعية تتعارض مع الثوابت الدينية أساساً؛ فتكون النتيجة – آنذاك – تطبيق ما يمكن تطبيقه من الشريعة، أو الاستفادة مما يمكن الاستفادة منه في عصرنا.

والمتغير في الفكر الإسلامي يُخضع الواقع الجديد للثابت، فلا ينسخ الثابت ولا ينسخ الوعي السابق به، بل إنه يجدد هذا الوعي، ليقتحم بالثابت تحولات الزمان والمكان بكل أبعادها، ويحتويها احتواءً حقيقياً، أي إنه يقوم هنا بمهمتي هدم وبناء:

  • تحطيم الجمود على وعي الثابت، وهو الجمود الذي يعطّل فاعلية الثابت ودوره، ويؤدي إلى قطع صلات الشريعة بالحياة. مع الالتفات إلى أن عملية الهدم لا تستهدف ذلك الوعي بنفسه، بل تستهدف الجمود عليه. فوعي الأسلاف كان تجديداً وتغييراً في زمانه، وهو مادة غزيرة للوعي القائم، لدراستها وتحليلها وتنظيمها.
  • تجديد الوعي بالعصر والمستقبل ومتطلباتهما؛ لإعادة ربط الحياة بالشريعة، وإنهاء عملية الاستلاب الحضاري.

ومن جانب آخر، سيعمل التغيير على تنقية ما طرأ على الفكر الإسلامي من شوائب وانحرافات في التصور والفهم، والعودة إلى الثوابت، لتصحيح الوعي بها – في هذه المجالات – والتمّسك بحبلها، والالتصاق بها لضمان الحاضر والمستقبل. وينبغي هنا التأكيد الى أن العودة إلى الثوابت (القرآن الكريم والسنّة الشريفة)، لا تعني العودة إلى الماضي، ولا تعني «السلفية» بمفهومها الاصطلاحي، فالثوابت ليست جزءاً من الماضي، أو جزءاً من التراث الإسلامي، بل هي أسس ثابتة لشكل الحياة الإسلامية في الماضي والحاضر والمستقبل. فالعودة هنا ليست عودة بالمنظور الزمني، بل بمنظور استئناف عملية الأخذ المتكامل من الثوابت. أما نزعة التمسك بالماضي والفهم الموروث (أو الماضوية حسب اصطلاح التغريب الحديث) والنزعة السلفية، فتعنيان التمسك بوعي الماضي وبوعي السلف للثابت وللأصول؛ الوعي بكل أشكاله وأبعاده، وليس التمسك بالأصول أو الثابت وحسب. وهذا النوع من الجمود على الوعي من شأنه فصل الثابت عن واقع البشرية.

ولعل من المناسب أن نذكر بأن مصطلح «السلفية» الذي ترجمه إلى الإنجليزية أحد الكتّاب المصريين في بداية الثمانينات إلى مصطلح «الأصولية» (Fundamentalism)، لا يرادف معنى الأصولية في الفكر الإسلامي، فإذا كان المراد من الأصولية العودة إلى الأصول، وهي القرآن الكريم والسنة الشريفة، كما يفهم المسلمون ذلك، فإن السلفية تعني العودة إلى هذه الأصول أيضاً، ولكن على أساس فهم السلف لها، وليس على أساس فهم متجدد.

والتجديد الذي يعبّر عن فهم جديد للأصول، ليس تجديداً للحاضر والمستقبل، ولا إلغاءً لفهم السلف الصالح، بل هو تجديد للحاضر فقط، في حين سيكون للمستقبل تجديده الذي يعيه أبناؤه، أما فهم السلف فهو تجديد وإبداع في الماضي، وهو نقطة الانطلاق لتجديد الحاضر؛ يبدأ من حيث انتهى الأسلاف، وتجديد المستقبل يبدأ من حيث انتهينا، فوعي المسلمين متصل ومتواصل ومتراكم. وهذا جزء من قانون «الوراثة الحضارية».

وعموماً فإن التجديد الذي يتضمّن هذا الشكل من التغيير، يساهم في إبقاء الثوابت مقدسة في وعي المسلمين، لأنه سيركّز القناعة بقدرة الثوابت على استيعاب العصر وتلبية حاجاته. في حين أن الإصرار على التزام وعي المفكرين والفقهاء السابقين، وهو وعي روعيت في معظمه حاجات العصر السابقة؛ سيسلخ تلك القداسة عن أذهان بعض المسلمين، على اعتبار أن الثوابت لم تقدم لهم إجابات وافية على تساؤلاتهم.

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment