مداخل موضوع حرية الفكر في الرؤية الإسلامية

Last Updated: 2024/04/26By

مداخل موضوع حرية الفكر في الرؤية الإسلامية

د. علي المؤمن

    ينطوي موضوع حرية الفكر من منظور الإسلام على أهمية خاصة؛ لارتباطه بالكثير من القضايا الحساسة التي تعيشها الأمة في حركة الفكر والواقع، وفي مقدمتها: حقوق الإنسان والحريات الخاصة والعامة، إضافة إلى الموضوعات الأخرى، التي تشكل مداخل أو نتائج له، كمصادر الحقوق ومناشئها، ومفهوم الحرية، والحرية في الإسلام، والعلاقة بالأديان والعقائد والأفكار الأخرى. وقضايا التجديد في الفكر الإسلامي، والارتداد والانحراف وغيرها.

سنطرح هيكلاً عاماً للإشكاليات والتساؤلات التي يثيرها موضوع الحرية الفكرية وفق التصور الإسلامي، وخاصة ما يتعلق بحدود هذه الحرية وضوابطها. وتزداد إشكاليات الموضوع وتتراكم؛ تبعاً لاختلاف زوايا النظر حياله، وما ينتج عنها من آراء فكرية وقانونية وسياسية متعارضة، وخضوعه للمزايدات السياسية ولدعاوى فرض الحريات والحقوق وفق الأنماط الغربية، وهي دعاوى مسيسة غالباً، وذات أهداف سلطوية، الى جانب تشعب إفرازات الموضوع بمرور الزمن، وقلة المعالجات الفقهية والفكرية الإسلامية التأصيلية الواقعية؛ الأمر الذي يتسبب في تعدد غير صحي في الرؤى النظرية والتطبيقية المستندة الى التصور الإسلامي، وتبدأ بأقصى اليمين، وتنتهي بأقصى اليسار.

ورغم أن الفلاسفة والمتكلمين والفقهاء المسلمين قد بحثوا هذا الموضوع في أطره العامة منذ قرون طويلة، ولا سيما في باب «الجبر والتفويض في علم الكلام»، و«الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» و«الجهاد» و«الارتداد»، و«حفظ كتب الضلال»، و«العلاقة بأهل الذمة» وغيرها من الموضوعات الكلامية والفقه؛ إلا أن الأفكار والموجات الثقافية الجديدة التي اجتاحت المجتمعات الإسلامية، منذ نهايات القرن التاسع عشر الميلادي، سواء التي تعبّر عن صدى للأفكار الوليدة في الغرب، أو أنها أفكار مستوردة جاهزة أو توفيقية، أو أفكار تعبّر عن إفرازات واقعية من داخل المجتمع الإسلامي، كلّها تفرض بحث هذا الموضوع تحت عناوين جديدة، ووفق أسس أكثر استيعاباً وثباتاً وواقعية. ولا نقصد بالعناوين الجديدة، إصدار فتاوى وأحكام فقهية حيال المسائل المطروحة، بل مقاربات بحثية تأصيلية تتعامل بعمق وصبر مع تفاصيل الموضوع، وتفكك إشكالياته العقدية والفقهية والقانونية والسياسية والتنظيمية والتطبيقية، وتراعي الواقع ومتطلباته ومتغيراته وتطوراته على الصعد كافة، إضافة الى بسط قضية المناخات الفكرية السياسية، فيتم بحث الحرية الفكرية ــ مرة ـــ في إطار نظام سياسي إسلامي شرعي، وأخرى في إطار مجتمع المسلمين الذي يحكمه نظام سياسي وضعي.

وقبل الدخول في صلب الموضوع؛ ينبغي التوقف عند مجالات حرية الفكر في إطار مجتمع المسلمين، والاتجاهات الفكرية التي تشكل مادة بحث الحرية الفكرية، ويمكن حصرها بثلاثة اتجاهات:

  • الحرية الفكرية للاتجاهات الإسلامية.
  • الحرية الفكرية للاتجاهات الخارجة على الدين (ومنها المنحرفة والمرتدة والكافرة).
  • الحرية الفكرية للاتجاهات الدينية غير المسلمة (أهل الكتاب).

ولا شك أن كل واحد من هذه الاتجاهات بحاجة إلى مقاربة خاصة، تقوم بتثبيت أطره العامة والخاصة وحدوده ومظاهره وأنواعه، لأن المعالجات العامة غالباً ما تؤدي إلى حدوث خلط واضح بين تلك المجالات.

ومن خلال قراءة تخصصية للنص الإسلامي (القرآن والصحيح من السنة)، وكذلك بعض البحوث الكلامية والفقهية التفاعلية؛ نرى أن الإسلام يمنح الإنسان الحرية، على أساس العبودية للَّه والإيمان به وتوحيد، وأنه الحق المطلق ومصدر كل الحقوق ومشرّعها، وأن حرية الفكر تبدأ به لتنتهي إليه، لأنه الهدف النهائي لحركة الحرية. وبكلمة أخرى؛ فإن التصور الإسلامي يذهب الى أن إطلاق حركة العقل الإنساني، تقوم على تحريره من قيد العبودية للنفس والشهوات والأفكار المعلبة والأنماط المستوردة من مناخات اجتماعية أُخرى؛ لتتحول الى أصنام فكرية. أما إطلاق حرية السلوك والفكر دون ضوابط دينية وعرفية؛ فهو تركيز لحالة العبودية للنفس والآخر الفكري والسياسي، ولحالة العبث الاجتماعي. فالحرية الفكرية الهادفة المرشّدة، التي يدعو لها العقل، وتمنح الجميع حقوقهم في العيش بأمان وتكافؤ، هي الحرية التي شرعها الإسلام، سواء عبر نصوصه الثابتة أو حركة الاجتهاد التفاعلي المستمرة؛ على خلاف الحرية الفكرية والسلوكية غير الهادفة والفوضوية، التي تعني الحرية لمجرد الحرية، والتي تؤدي – قبل كل شيء – إلى العديد من المفاسد الاجتماعية، وأبسطها نقض الحرية نفسها. وهذا يقود إلى نتيجة واحدة، وهي أن الإسلام يضع ضوابط عقلانية للحرية، ومعايير فطرية للحقوق، أي أنه يطلقها من جانب، وينظمها ويرشِّدها من جانب آخر.

وهذا النوع من حرية الفكر هو نتاج المناخات الغربية، والتي أصبحت قاعدة للصنمية والعبث الفكريين منذ انطلاق ما عُرف بعصر «التنوير» (Enlightenment) في أوروبا خلال القرون 17 و18 و19 للميلاد، والذي استهدف الفكر الديني قبل كل شيء؛ إذ استهدف حراك التفكير الحر (Free Thinking) الذي كان يقوده المفكرون (الأحرار)، أمثال: «فولتير» و«جان جاك روسو» و«مونتسكيو» ومن جاء بعدهم؛ التحرر من التعاليم المسيحية والإلزامات الدينية وقيود الكنيسة على وجه التحديد، وكان ترى أن الدين هو شريك السلطة السياسية المستبدة في قهر الفكر ومصادرة إرادة الناس. وإذا كان هذا الحراك المفصل على مقاس المناخات الأوروبية والديانة المسيحية والنظام الديني الكنسي؛ فإنه استعبد عقول بعض المثقفين في مجتمعاتنا الإسلامية فيما بعد، وبات يعتقد أن النهضة والحرية والحقوق رهينة بفصل الدين عن الشأن العام والدولة والتشريعات، وهو بذلك يعيش وهم قياس الإسلام بالمسيحية، ومناخات المسلمين بمناخات الأوربيين، وهو قياس باطل في مقدماته ومعالجاته ومخرجاته؛ لأن الإسلام أسس لمنظومة الحقوق والحريات، وشرع أحكامها وتطبيقاتها وأدوات تنفيذها، وهو ما تفتقد اليه الديانة المسيحية، في تعاليمها الأخلاقية العيسوية، أو لاهوتها البطرسي، أو نظمها الثيوقراطية القسطنطينية. فإذا كان مفكرو عصر النهضة الأوروبية استدلوا في صحة حراكهم التحرري من النظام الديني المسيحي الى مظاهر الظلم والاستبداد والتخلف التي ظل هذا النظام يفرزها منذ عهد قسطنطين الأول؛ فإن المتأثرين بهذه الحراك في المنطقة العربية والإسلامية يفتقدون الى مثل هذه الحجة، وهو يواجهون دين محمد بن عبد الله.

ولابد هنا من توضيح الفرق بين حرية التفكير والاعتقاد وحرية التعبير عن الفكر والمعتقد. فالمراد من حرية التفكير والاعتقاد، أن يطلق الإنسان لعقلة حرية الحركة، للتأمّل والتفكير، ثم الاستنباط والاستنتاج، وأخيراً التبني والاعتقاد، سواء بشكل فردي أو جماعي، وما يتخلل ذلك من شكوك واهتزازات أو ثبات. أما حرة التعبير عن الفكر والمعتقد، فيعني أن يعلن الإنسان عن أفكاره ومعتقداته، ويعبر عنها بالوسائل المختلفة، وفي مقدمتها الإعلام العام والخاص والسلوك الفردي والجماعي، سواء كان الإعلان بهدف الكسب والتبشير أو بهدف الدفاع.

وحيال هذا الكم النوعي المهم من الإشكاليات؛ تتبادر إلى الذهن أسئلة كثيرة: ما هي طبيعة حدود الحرية الفكرية في الإسلام وضوابطها العقدية والفقهية؟ وما هي آليات تنظيم تلك الحرية؟ وما هي مظاهرها؟ وما علاقتها بالمعايير العرفية؟ وما هي المواقف التي يجب أن يتخذها النظام الإسلامي أو النظام الاجتماعي الديني أو مجتمع المسلمين أو الفرد المسلم، انطلاقاً من مواقع المسؤولية الشرعية والفكرية والاجتماعية والسياسية؟ وهل أن تحديد الحرية، بمستوى تنظيمها وترشيدها، يتعارض مع طبيعة الحرية الإنسانية؟ وفي أي مجال يطلق الإسلام للفكر حريته في الحركة؟

ولا نهدف من خلال هذه المقاربة تقديم إجابات نمطية على الأسئلة، بل الهدف يتلخص في محاولة تفكيك إشكالياتها ومقاربتها، في إطار دعوة للحوار الفكري المنهجي حول الموضوع، بعيداً عن الكلام التعبوي والشعارات الايديولوجية التي يطلقها المتطرفون من كل الاتجاهات، سواء المتطرفون العلمانيون أو المتطرفون الإسلاميون.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment