مداخل الفكر الإسلامي المستقبلي
مداخل الفكر الإسلامي المستقبلي
د. علي المؤمن
النزوع نحو اكتشاف المستقبل
هل يمتلك الإنسان القابلية على التحكم بمستقبله ومستقبل الدائرة التي يعيش فيها، أم أنه عاجز عن الإمساك به باعتبار محدودية مداركه وحركته وإرادته؟ وهل التحكّم بالمستقبل مفهوم واقعي، أم أنه يرتبط بقضايا الغيب وحسب؟
الحقيقة؛ إنّ الإجابة عن هذين التساؤلين اللذين شغلا البشرية منذ أن أدركت حاجاتها ووعت قيمة حياتها، لا تتم عبر إطلاق كلمتي: نعم أو لا، وبصورة تنطوي على التعميم والتبسيط؛ لأنّهما تساؤلان يستبطنان العديد من القضايا المركَّبة التي تدخل في حيز العقيدة والكلام والفلسفة والفقه والعلوم الاجتماعية.
وبصرف النظر عن نوع الإجابة النظرية التي تستقل بها كل جماعة بشرية، بحسب رؤيتها الكونية وايديولوجيتها أو قبلياتها العقيدية والمثيولوجية، فإنّ التاريخ الإنساني يؤكد فطرية النزوع العملي نحو اكتشاف المستقبل. فقبل أن يعرف الإنسان أيّ منهج علمي أو معادلة موضوعية بشأن المستقبل، فإنّه سعى إلى التحكم به ومواجهته، من خلال أبسط الأساليب؛ لأنّ هذا الزمن القادم ظل هاجساً ملحاً رافق البشرية في رحلة الحياة، منذ أبعد العصور، لما يشكل من رهان مصيري على البقاء والاستمرار. وظل هذا الهاجس يستبطن مشاعر متناقضة من الأمل والطموح والخوف والتشاؤم؛ لأنّه الكائن المجهول الذي لا بدّ أن يأتي محملاً بالمفاجآت. وعلى هذا الأساس، ظل الإنسان مدفوعاً بفطرته إلى الاستعداد للمستقبل بصورة عملية، ومحاولاً اقتحام أسراره، والتبصر بمفاجآته وخفاياه، لتجنب صدماتها وآثارها السلبية، وتعميق صورها الإيجابية.
وحين توسعت مدارك الإنسان، عمد إلى محاولة اكتشاف مجاهيل المستقبل بمناهج أكثر تطوراً، فابتكر التنجيم والتكهن والتنبؤ وغيرها، حتى أصبح المنجمون والكهنة والمتنبؤون أكثر حظوة لدى الزعماء والشعوب من الصالحين والحكماء والفلاسفة، بل وحتى الأنبياء، بالنظر لما ينطوي عليه اكتشاف المجهول القادم من أهمية كبرى لدى الجميع دون استثناء.
وفي المقابل سعت الأديان السماوية الأُولى إلى صرف أنظار الإنسان عن المناهج الخرافية في التبصّر بالمستقبل، فوضعت له مناهج تربط المستقبل بالغيب ورؤيا الأنبياء، وتحدد ميدان حركته وفعله في إطار الإرادة الإلهية والجزاء الأُخروي. ثم جاء الإسلام ليختم الرؤية الدينية بنعمة التكامل في النظرية والعمل، ويمنح الإنسان منهجية صادقة في التعرف على المستقبل، ويدفعه نحو البناء والتقدم والنهوض الذي يحقق له هدفه في الاستخلاف وإعمار الأرض وبناء الدنيا للآخرة، والكدح لملاقاة الرب الرحيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}([1]).
بيد أنّ المسلمين في عصور التراجع والانكفاء انساقوا بعيداً عن هذا المنهج، وعاشوا حالات الانفعال والاستسلام، التي أدّت بهم إلى ألوان بشعة من التنكر للحاضر والمستقبل، والتشبث غير الواعي بالماضي.
ولم يكن الحكماء والمؤرخون وعلماء الطبيعيات بمعزل عن محاولات اكتشاف مناهج لدراسة المستقبل، وقد انتهت محاولاتهم إلى وضع معادلات ومعايير، تنطلق من معتقداتهم الدينية أو رؤاهم الفلسفية والعلمية، فظهر علم التاريخ، وفلسفة التاريخ، وعلم اجتماع الحضارات، حتى أسفرت هذه المحاولات عن نظريات عصر النهضة الأُوروبية والتقدم، وصولاً إلى الدراسات المستقبلية الحديثة. ورغم أنّ الدراسات المستقبلية التي برزت في (منظومة الشمال) تمسكت في مبادئها النظرية بسنن التاريخ وفلسفة التقدم ومعايير التطور وفقاً لنظرة علمية إستراتيجية تهدف إلى اكتشاف المستقبل وتحديد خياراته وبدائله، إلّا أنّ الدافع والغاية النهائية والمحرك يبقى ذاته الذي دفع الإنسان الأول إلى اكتشاف المستقبل؛ والذي تغير إنّما هو المناهج والأهداف التفصيلية، على اعتبار أنّ النهضة الحديثة لمنظومة الشمال حوّلت الحديث عن المستقبل إلى أنساق ومناهج علمية خاضعة لتصورها الكوني الوضعي وغاياتها المادية في الحياة.
وباتت الدراسات المستقبلية رهان الغرب في السيطرة على المستقبل، بل عدّها “آلفن توفلر” ضماناً لاستمرار حياة المجتمعات في المستقبل، وأطلق عليها تسمية (إستراتيجية البقاء)، وكأنّه يريد القول: إنّ المجتمع الذي يفتقد التخطيط الإستراتيجي في إطار دراسة المستقبل دراسة علمية معمقة، ومواجهة متغيراته، هو مجتمع لا يريد البقاء، أو أنّ احتمالات بقائه ستتقلص بشدة، إذ إنّ موجات التغير السريعة وصدماتها المتلاحقة، ستسحق هذا المجتمع بعجلاتها الرهيبة. وهذا التحذير رغم منطلقه المادي الدنيوي، فإنّه تعبير آخر عن سنة كونية قائمة، وكما يقول الإمام علي(ع): <من استقبل الاُمور أبصر، ومن استدبر الاُمور تحيَّر>([2]).
وبالنتيجة، فإنّ الإنسان الذي يدير ظهره للمستقبل سيكون خارج دائرة القرار، بل لن يجد لنفسه مكاناً حتى في الهامش؛ لأنّ البقاء في الهامش سيكون بقرار من دائرة التحكم، التي يمسك بها من استقبل الأُمور وأبصرها وعرف الزمان واستعدّ له.
ولا يمكن للاستعداد للمستقبل أن ينجح بأساليب عفوية ودراسات عشوائية آنية، أو بالوعظ والإرشاد والحديث عن الآمال والأماني، بل بمناهج علمية مستقاة من رؤيتنا الكونية التوحيدية، ومن أُصولنا الإسلامية، ومن تاريخ البشرية وخبراتها وتجاربها. وإذا كان الغرب قد ابتكر الدراسات المستقبلية (Future Studies) وفقاً لتصوره وغاياته، فإنّه بذلك ينسجم مع تطلعاته وما يريده من المستقبل. من هنا، تتعمق نقطة الافتراق مع المستقبلية الإسلامية في المنطلقات والمحركات والغايات.
محاولات بناء منهجية
إنّ الحديث في إطار (المستقبلية الإسلامية) التي نسعى للمساهمة في بنائها كنظرية ومنهج من أجل اكتشاف المستقبل الإسلامي ورسم ملامحه المشرقة، ليس حديث أُمنيات وآمال، أو حديث توقعات ونبوءات، بل وليس حديث وعظ أو خطاب تثويري؛ لأنّ تحقيق هدف (المستقبلية الإسلامية) لا يقتصر على دراسة عناصر القوة في الدين وأتباعه، أو الحتميات التي تؤكد امتلاك مقومات البقاء والاستمرار والنمو والنهوض، أو المراهنة على سقوط الحضارات والمدنيات الأُخر التي سيكون الإسلام بديلاً لها فحسب، بل إنّ الحديث عن المستقبل الإسلامي هو حديث العلم والمعرفة العلمية المؤطّرة بالبعد الإيماني الذي يربط حياة الإنسان الدنيوية بحياته الأُخروية، والعمل بالجزاء، والكدح بالثواب، وإعمار الأرض بتحقيق هدف الاستخلاف، وبالتالي سعادة الدارين والحياة الأفضل فيهما.
والكتابات الإسلامية الرائدة التي تحدثت عن بناء المستقبل، بدءاً من نهايات القرن التاسع عشر الميلادي وحتى نهاية السبعينات من القرن العشرين، تحدثت بإسهاب عن مفاهيم وأفكار ترتبط بالنهوض وشروطه والسنن الإلهية ومقومات النمو والتطور، واستخدم معظمها خطاباً إرشادياً واستنهاضياً. ورغم أنّ هذه الكتابات أثمرت عن موجات وتيارات نهضوية مهمة في تاريخنا المعاصر، إلّا أنّها لم تكن تحمل مقومات الدراسة المستقبلية؛ لأنّها لم تعتمد المناهج العلمية في تحديد زمن المستقبل وصوره وأهدافه وبدائله وأساليب الوصول إليه، فخطاب النهضة ظل يجيب عن سؤال (ما يجب أن نكون عليه؟)، وأحال الإجابة عن (كيف؟) للأُطر العامة والكليات الإرشادية، وترك الإجابة عن تساؤل (متى؟) للزمن المفتوح.
في حين أنّ الدراسات المستقبلية الحديثة تجيب ـ وفقاً لمناهجها ـ عن خمسة أسئلة:
1 ـ ماذا سيكون؟ وفي الإجابة عنه تكمن عملية الاكتشاف والتبصّر، في إطار عملية الاستشراف، وتحديد الأهداف والموضوع والحقل، وينتج عنه التعرف على صور المستقبل واحتمالاته.
2 ـ ما يجب أن يكون؟ وينتج عنه اختيار النماذج والبدائل المطلوبة في حقل معين أو عدة حقول مترابطة.
3 ـ كيف؟ وفيه تتحدد المناهج والأساليب والأدوات للوصول إلى الهدف والبديل.
4 ـ متى؟ وتتحدد فيه المراحل الزمنية للوصول إلى الأهداف.
5 ـ أين؟ تحديد مكان تحقيق الهدف.
ومن خلال الإجابة عن هذه الأسئلة يتم تحديد صور المستقبل واحتمالاته، وموضوع الاستشراف وأهدافه، والنماذج والبدائل المطلوبة، والمناهج والأساليب، والزمان والمكان.
ويسعى مشروع المستقبلية الإسلامية ـ ابتداءً ـ إلى تحديد الإطار النظري للمنهج الإسلامي في استشراف المستقبل، فهو في حقيقته لا يبحث في نظرية ولا يسعى ـ في مراحله الأُولى ـ إلى اكتشاف نظرية، بل إنّه يبحث عن إمكانية اكتشاف نظرية، وعن تأسيس حقل دراسي في هذا المجال، يستوعب النظرية والمنهج والوسائل.
ومن خلال ذلك يتضح أنّ المشروع لا يتشبه بمناهج الدراسات المستقبلية في الغرب أو يسعى لمجرد أسلمتها، بل إنّه يتحدث عما تفرزه النظرة الكونية التوحيدية من رؤية إسلامية شاملة للمستقبل، تنطوي على إبحار في السنن الإلهية، ووقوف على الرؤية الإسلامية لأساسيات علم اجتماع الحضارات وفلسفة التاريخ، فضلاً عن دراسة متأنية لتقنيات ومناهج الدراسات المستقبلية الحديثة. وبالتالي تكون المحصلة مشتملة على رؤية متكاملة لعملية النهوض والبناء والتغيير الإسلامي الشامل.
نحن مهددون في حاضرنا وفي بيوتنا وأولادنا، فكيف نسمح بأن يجنح خيالنا باتجاه مستقبل مثالي أو مستقبل أفضل؟! ولأننا مهددون في حاضرنا، فلا خيار لنا إلّا ببناء مستقبلنا، وبناء المستقبل هو قرار الحاضر، ذلك أنّ حاضرنا كان المستقبل بالنسبة لماضينا، وفي حينه لم نتخذ قرار بناء الحاضر، فبتنا مهددين اليوم. وحيال هذا التهديد المتعدد الأشكال والمضامين، قد يبدو أنّ الحديث عن مستقبل إسلامي حضاري مشرق، متكافئ في جانبه المدني مع الحضارات الأُخر، ومتغلب عليها روحياً وأخلاقياً، محض خيال أو مثال أو يوتوبيا..
ولأننا مهددون ومنهزمون مادياً، فإنّنا بحاجة إلى جرعات عالية من الثقة بالله ووعده وعدله، والثقة بالنفس والمعتقد والتاريخ، كما أنّنا بحاجة إلى صعقات وصدمات تعيد لنا توازننا، بل إنّنا بحاجة إلى وعي مركّز نستبدل به العقل الدفاعي التقليدي بعقل هجومي إبداعي.
لقد كان رسول الله (ص) ملاحقاً في الصحراء.. وحيداً لا يحمل معه إلّا الثقة بالله وبنصره، والثقة بقلبه وعقله، فيقول لـ(سراقة) ما مضمونه: اتركني ولك أساور كسرى. صحيح أنّ أمر رسول الله (ص) مرتبط بالغيب، ولكنه محرك لنا نحو تحقيق شروط النهضة، لتشرع أمامنا أبواب النصر والفلاح، رغم كل الضغوطات والابتلاءات والهزائم المادية والنفسية.
وتتمثل العلاقة النظرية للماضي بالمستقبل في مشروع (المستقبلية الإسلامية) في اكتشاف تطبيقات سنن التاريخ، وفي استنطاق التراث الإسلامي وإعادة اكتشافه، وفي استحضار الصور المشرقة لمراحل الازدهار الإسلامي روحياً وحضارياً. وهي بمجموعها ليست علاقة تراجع نحو الماضي، فالسنن الكونية لا تتبدل، باعتبارها قوانين اجتماعية راسخة، وإن كانت على جانب من المرونة، والتراث الإسلامي بحور من المعرفة الإنسانية التي تمثل الكثير من الطاقة المحركة للانطلاق نحو المستقبل، وقد صوَّر الازدهار الإسلامي دوافع وحوافز إضافية تمنح الإنسان المسلم مزيداً من الثقة بالنفس.
أمّا العودة الروحية والعملية إلى الأُصول الإسلامية المقدسة (القرآن الكريم والسنة الشريفة) فهي ليست عودة بالمفهوم الزمني؛ لأنّ هذه الأُصول ليست من التراث أو الماضي، بل هي الثوابت الخالدة، وخلودها يعني أنّها خارج الزمن العضوي، وأنّها دستور الماضي والحاضر والمستقبل، وبكلمة واحدة: هي الدين الذي لا يمكن فصله عن أيّ شكل من أشكال المستقبل، فحقائق الدين وتعاليمه هي التي ترسم معالم المستقبل الإسلامي، وبالتالي تكون هذه العودة المتكاملة تركيزاً لمرجعية الدين في حياة الإنسان المسلم؛ ليكون المنطلق والمحرك والهدف في بناء المستقبل.
وفي الإطار التطبيقي، أيضاً، إنّ مشروع (المستقبلية الإسلامية) لا يجمد على الماضي، ولا يهرب من ضغوطات الحاضر إلى المستقبل، ولكنه يعي وعياً تكاملياً معادلة العلاقة بين الماضي والحاضر والمستقبل، فهذه المعادلة بإمكانها وضع الأُسس العلمية لبناء المستقبل.
إنّ الأُمّة التي تقترب من نهايتها أو تشارف على الموت، تنكفئ على نفسها، وتبدأ بالاستغراق في استحضار أمجاد الماضي في الضمائر والعقول؛ لأنّها لم تعد ترى أنّ ثمة جدوى من الحديث عن المستقبل أو الاستعداد له، فالذي يشارف على الموت يعلم أنّ مستقبله هو اللحظة التي يعيشها بأزماتها وأوجاعها، فتبقى هذه اللحظة بالنسبة إليه مجرد استعراض لشريط الذكريات.
كذلك هنالك أُمم ومجتمعات ليست أفضل حالاً، وهي تلك التي تريد حرق المراحل والمسافات والعبور على الزمان والمكان، فتحاول رسم صور مستقبلها بالتشبه بمجتمعات تختلف عنها، مارست سيرها الطبيعي في جادات التاريخ والجغرافيا، واكتشفت صور مستقبلها بالمناهج التي أفرزتها مسيرتها. وعندها لا يكون هذا التشبه سوى صور كاريكاتورية لا تعبر عن الواقع بشيء.
إنّ اكتشاف المستقبل وبناءه لا يكونان بتجاوز الحقائق الكونية ولا بحرق الزمن والواقع، بل باستحضار السنن الكونية وتثبيت المراحل الزمانية والمسافات المكانية. فالمراحل والمسافات هي القنوات الموضوعية التي تمر بها عملية البناء من الحاضر باتجاه المستقبل، ومن المستقبل باتجاه الحاضر.
ومن هنا فإنّ مهمة الباحث المستقبلي، في أيّ حقل من حقول المعرفة، ولا سيما في الموضوعات ذات العلاقة بالنظرية والمنهج، تبدو صعبة ومركبة؛ لأنّه لا بدّ أن يمتلك ثلاث عيون بصيرة: عين تنظر إلى الماضي وتستلهم منه، وأُخرى تتأمل في الحاضر وتنطلق منه، وثالثة تتبصر في المستقبل وتستشرفه، في إطار نظرة تكاملية واحدة. إذ لا حاضر بلا مستقبل ولا مستقبل من دون حاضر، فبناء الحاضر يتم بخطة مستقبلية، وحين نضع للمستقبل بديلاً، فإننا نطوّع الحاضر ضمن خطوات مدروسة ليسير بالتدريج نحو المستقبل البديل.
وتضاف إلى الباحث الإسلامي المستقبلي مهمات وخصوصيات أُخر ـ علاوة على ما مرَّ ذكره ـ فهو حين يكتشف المستقبل فإنّه ينظر بعين الله؛ ليتشرب حقائق العبادة والمعرفة، ويعي معادلات الحق والعدل والخير والحب والجمال، فيكون الكشف حينها أقرب إلى الحق الذي يصعب اختراق حجبه في الحالات العادية.
مداليل المستقبل
إنّ المستقبل الإسلامي هو الموضوع الذي تنشده (المستقبلية الإسلامية)، وبناء هذا المستقبل هو الغاية التي يطمح المشروع إلى المساهمة في بلوغها ـ نظرياً ـ وفقاً لمنهج يعتمد وسائل علمية، ويستبعد حالات التمني والتنظير المحض أو التعويمات التي تقف خارج دائرة الزمان والمكان، ذلك أنّ المستقبل الذي نقصده يحمل عدة مداليل مفهومية وتطبيقية، أهمها:
1 ـ من الناحية المفهومية: هو مستقبل مقيد بالتصور الإسلامي على مستوى المصادر والمعتقد والفكر.
2 ـ من الناحية المصداقية: هو محدود بالدائرة الإسلامية، في إطارها الموضوعي الذي يشتمل على الدين ومعارفه وفكره، وفي إطارها العام الذي يشتمل على العالم الإسلامي وعلى المسلمين خارجه، وفي إطارها الخاص الذي ينفرد بجماعة أو بلد إسلامي معين.
3 ـ من الناحية المنهجية: إنّه يعبر عن الحقل العلمي الذي يمارس المشروع بحوثه في إطاره، وهو حقل الدراسات المستقبلية، أو المستقبلية (Futurism) كنزعة علمية تخصصية، ومن خلال منهج جديد في هذا الحقل عنوانه: المستقبلية الإسلامية (Islamic Futurism).
وهذا لا يعني أنّ المستقبل الإسلامي منعزل عن دائرة التأثر والتأثير مع الدوائر الدينية والفكرية والجغرافية الأُخر، فهو يتأثر ويؤثر؛ لأنّه يقع في حدود شبكة عالمية مترابطة تقريباً؛ ولأنّ خطابه عالمي، مما يجعله مستقبلاً للناس كافة، سواء كانوا ((إخوة في الدين أو نظراء في الخلق))([3]).
وفي حين تهدف المستقبليات الأرضية إلى بناء المستقبل، كما يريده الإنسان، أي المستقبل المادي الذي يتجاوز البعد الإلهي في غاياته ومنطلقاته ووسائله، وتطلق يد الإنسان ـ الظلوم بطبعه([4]) ـ في متاهات لا حدود لها على كل المستويات، فإنّ الإسلام ـ في المقابل ـ يرسم صورة واضحة لمساحة حرية الإنسان وإرادته في صنع المستقبل، ترتبط بحقائق الغيب ووعوده وسننه، وهي المساحة التي توصل بين حركة الإنسان ومستقبله المادي، وبين مصير الإنسان ومستقبله الغيبي، فتكون النتيجة أنّ الإنسان المسلم يوظف كل قابلياته وطاقاته المادية والروحية لهدف مرحلي دنيوي يؤهله للوصول إلى هدف نهائي غيبي، سواء كان في ما يرتبط بمرحلة ظهور العدل في الدنيا أو مرحلة العدل النهائية في الآخرة، والتي فيها تكمن نهاية التاريخ: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ}([5]). وبالتالي؛ يكون هدف تقديم النموذج الحضاري الإسلامي الذي يستوعب حقائق العقيدة والعدالة والعلم والمدنية، هو تحقيق رسالة وجود الإنسان على الأرض.
إنّ الإنسان المسلم الذي يدرك شروط السنن الكونية ويعمل على تحقيقها، تمهيداً للنهوض والتحضير للمستقبل المنجز، يقوم في الوقت نفسه بدراسة احتمالات المستقبل المادي وبدائله، ويحث الخطى بصورة علمية وعملية باتجاه البديل المناسب، وبالتالي فإنّ حريته وإرادته تبدأ بتوفير شروط السنن (المشروطة)، وتمر عبر إعداد نفسه؛ لاستقبال السنن المنجزة، وتنتهي في بناء المستقبل الحضاري؛ ليكون في خدمة المستقبل الغيبي.
وفي سياق الحديث عن حرية الإنسان وإرادته في قيادة التاريخ، ودور الفعل الإنساني في صنع المستقبل، لا نريد الخوض في الأبعاد العقيدية والفلسفية لثنائية الجبر والاختيار، ولكننا ننظر إلى الموضوع من زاوية النتائج التي يفرزها العمل على وفق أحد طرفي الثنائية، أو العمل في إطار البينية بينهما.
ففي كل الأحوال سيكون منطلق العمل هو حمل المسؤولية الملقاة على عاتق الإنسان، وأداء التكليف والأمانة على أفضل وجه: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ..}([6])، وفي هذا المنطلق تتجسد الإرادة الإنسانية والعزم، وهو ما لنا، أمّا ما علينا، فهو المستقبل المحتوم في خطوطه العامة وقضاء الله ووعده، وفيه يتجسد الاستسلام لإرادة الله تعالى. وهذه المساحة بين عزم الإنسان وإرادة الله والتي يتوسطها التوكل، هي التي نتحرك فيها لصنع مستقبلنا.
الموقف من المستقبل
من العوامل الرئيسة التي ضاعفت تساؤلات الإنسان المسلم المعاصر، وساهمت في زيادة حاجاته، عاملا تطوّر حركة العصر، وتعاظم حجم المشروع الإسلامي. فكلّما تطوّرت حركة الحياة؛ تراكمت حاجات الإنسان، وكلّما كبُر حجم المشروع الإسلامي وأثمرت حركته في الواقع، كبُرت معه تساؤلات الإنسان، وهي تساؤلات ملحة، وبحاجة إلى من يجيب عنها إجابة منسجمة، وبمستوى العقل المسلم المعاصر.
العامل الأول، جلب معه جملة من الثورات العلمية والاجتماعية الكبرى على مستوى العالم، كثورة الاتصالات، وثورة المواصلات، وثورة المعلومات، والثورة الاقتصادية (الصناعية والتكنولوجية)، والتحولات السياسية والاجتماعية (تحولات الجغرافية السياسية والخارطة السياسية).
وحيال ذلك، وجد الإنسان المسلم نفسه في دوامة من الحاجات المختلفة، وعلى مختلف الصعد، وفي مقدمتها حاجة البحث عن الموقع وسط كل تلك التطورات.
أمّا العامل الثاني، فكان نتيجته الإنجازات التاريخية الكبرى التي حققها المشروع الإسلامي خلال العقود الخمسة الأخيرة، ويقف في مقدمتها تأسيس الدولة الإسلامية الحديثة، واقتراب الإسلاميين من مواقع القرار الشعبي أو القرار السياسي في الكثير من البلدان الإسلامية، وانتشار حركة الصحوة الإسلامية، وامتداد الإسلام في أنحاء مختلفة من العالم، فكان الإنسان المسلم ـ ولا يزال ـ يبحث عن إجابات لتساؤلاته، وفي مقدمتها معرفة موقفه ونظريته حيال مختلف المسائل، وعلى رأسها المسائل الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية. وفي إطار كل مسألة تبرز مجموعة من العناوين الرئيسة، كالحرية، والحرية الفكرية، وتجديد الفكر الإسلامي، وأسلمة المعرفة، والعقل المسلم، وولاية الأمر، وحركة الدولة الإسلامية في دائرة المنظومة العالمية، وتجديد الأنساق الاجتماعية التقليدية، والتنمية والتخلف، والوحدة الإسلامية.
ولمواجهة ذلك القلق الفكري والاجتماعي، بادر كثير من الفقهاء والمفكرين والمثقفين الإسلاميين، بشكل فردي أو جماعي، لوضع المعالجات وتحديد المواقف، بصورة بحوث ونظريات وأُطروحات، أو مشاريع عملية.
رهان التحكّم بالمستقبل
ظلّ المستقبل بالنسبة للبشرية هاجساً يرافقها في رحلة الحياة منذ عصور بعيدة، لما ينطوي عليه من رهان مصيري على البقاء والاستمرار، وظلّ هذا الرهان يستبطن مشاعر متناقضة من الأمل والطموح والخوف والتشاؤم. ومن أجل مواجهة هذه المشاعر، عمد الإنسان إلى محاولة اكتشاف المستقبل بمناهج ابتكرها، بدءاً بالتأمّل والتنجيم وانتهاءً بالعرافة والتنبّؤ. وكانت الأديان السماوية الأُولى ـ كما ذكرت أوائل الفصل ـ تسعى لصرف أنظار الإنسان عن المناهج الخرافية في معرفة المستقبل، فوضعت له منهجاً يربط المستقبل بالغيب والرؤيا.
حتى جاء الإسلام.. الدين الخاتم ليفيض على البشرية بنعمة التكامل في النظرية والعمل، وليمنح الإنسان رؤية صادقة في استشراف المستقبل، ويدفعه نحوها، في إطار بناء المستقبل الإسلامي المشرق، الذي يحقّق للإنسان هدفه في الاستخلاف وإعمار الأرض وبناء الدنيا للآخرة والكدح لملاقاة الربّ الرحيم. إلّا إنّ المسلمين في عصور التراجع انساقوا بعيداً عن هذا المنهج، وعاشوا حالة الانفعال والاستسلام الكامل، التي أدّت بهم إلى ألوان بشعة من التنكّر للحاضر والمستقبل.
أمّا النهضة الإنسانية الأُخرى، فإنّها حوّلت الحديث عن المستقبل إلى أنساق ومناهج علمية، نظرت إلى سنن التاريخ وفلسفة التقدّم ومعايير التطوّر العلمي نظرة إستراتيجية تهدف إلى اكتشاف المستقبل وتحديد خياراته وبدائله، وصولاً إلى التحكّم به وبنائه وفقاً لتصوّرها الكوني الوضعي وغاياتها المادية في الحياة.
إنّ المستقبل (الإسلامي) ليس مجرداً في مفاهيمه وتطبيقاته، وليس منعزلاً عن معادلات التأثير والتأثر مع الدوائر الأُخر، إذ تصدق هذه التجريدات على معتقد يعيش أتباعه في جزيرة نائية، فمن البديهي أن تؤخذ كل عوامل التأثير والتأثر بنظر الاعتبار، بمحدداتها المكانية، فضلاً عن النواميس العامة والسنن الإلهية التي لا تختص بدائرة دون أُخرى. وهنا يكمن أحد أبرز مؤشرات واقعية المنهج الذي يعتمده المركز في عملية الاستشراف، فبناء المستقبل الإسلامي بصيغة علمية يتم وفقاً لمساحات زمنية واضحة، تشكل بمجموعها خططاً قصيرة أو متوسطة أو بعيدة المدى، سواء في إطار الدوائر الإسلامية العامة أو الدوائر الخاصة أو الدوائر التي تتوسطهما.
لقد تجاوزت الدراسات المستقبلية في دول الشمال أو الدول المتقدمة صناعياً مرحلة التنظير لهذا الحقل المعرفي واكتشاف مناهجه والتعريف به والحديث عن أهميته وضرورته؛ لأنّها مارسته كآلية لاقتحام المجهول القادم، منذ نهايات القرن التاسع عشر الميلادي، ووقفت عملياً على خطورة إغفاله، ولم تكتف بإقراره مادة تعليمية في الثانويات والجامعات، وبتخصص مئات المؤسسات البحثية لاستخدامه في التحكم والسيطرة المستقبلية، بل حوّلته إلى رأي عام وثقافة اجتماعية يتشبع بها الفرد والأُسرة، ويتشبع بها المجتمع بكل ألوانه واختصاصاته، سياسية كانت أم اقتصادية أم فكرية أم مدنية، فضلاً عن الدولة وأجهزتها. وباتت معظم الدراسات الإستراتيجية والخطط الحكومية تضع دعائمها على النتائج التي تخلص إليها الدراسات المستقبلية، حتى باتوا يحسون أنهم يعيشون المستقبل.
ولا نبغي هنا عقد مقارنة بين الحقائق التي ميزت عالم الشمال بتبنيه خيار المستقبل، وواقع الدراسات المستقبلية في وسطنا العالم ثالثي أو الجنوبي أو الإسلامي، بالنظر للتباين الشديد في نوعية المراحل التي يعيشها العالمان، ولا سيما بعد أن تنبه عالمنا إلى خيار مرحلته الواقعية، أي خيار العصر وأهمية اقتحامه والعيش في صميمه، وهي خطوة متقدمة بحد ذاتها، وفيها الكثير من الواقعية التي تحتم الانتقال من الماضي أو التاريخ إلى الحاضر أو العصر ثم إلى المستقبل، دون عبور حالم على المراحل، وهي أيضاً المعادلة التي سبق أن أذعن إليها الشمال في العقود الأُولى من القرن العشرين، إذ كان هذا العالم ينفض يديه حينها من خيار العصر، بعد أن عاش في صميمه عقوداً طويلة، وبات يفكر بالخروج من قمقم العصر ليتجه نحو المستقبل اتجاهاً علمياً يضمن من خلاله المحافظة على إنجازات العصر، وتحويلها إلى مولدات لإنتاج طاقة اقتحام العصور القادمة، بهدف ضمان التحكم بها عن بعد. وهذا لا يعني أنّ تبني عالم الشمال لخيار المستقبل ضمن له تجاوز الأزمات التي تعصف به، وحلَّ مشكلات إنسانه ومجتمعه، بل إنّ الخطأ القاتل الذي وقع فيه الشمال والمتمثل في إغفال البعد المعنوي في التطور والاندفاع نحو المستقبل، ثم استحضار آلهة جديدة تحمل عناوين المادة والعلم والتكنولوجيا، أدى به إلى هذه الأزمات الحادة في الأخلاق والسلوك الفردي والاجتماعي وفي الثقافة والفكر.
أمّا عالمنا، فإنّه يعيش مرحلة أُخرى ـ كما تقدم ـ هي مرحلة التشبث بالعصر وخياراته، وهي مرحلة لا يمكن تجاوزها إلى مرحلة أُخرى، إلّا بعد التسلح بمتطلبات المعركة الجديدة، ونقصد بها معركة المستقبل.
ونرى أنّ السلاح الأهم في هذه المعركة، على المستوى المعرفي والمنهجي، هو سلاح الدراسات المستقبلية، وذلك يتطلب ـ في مرحلتنا ـ التعرف على هذا الحقل والتنبه لضرورته وأهميته، ثم ممارسته نظرياً، وصولاً إلى هدف ثماره العملية، التي تأخذ فيها الأُصول والمبادئ المقدسة موقعها الحقيقي في رسم معالم المستقبل وتحديد شكله ومضمونه.
والمركز الإسلامي للدراسات المستقبلية يساهم ـ من موقعه ووفقاً لإمكاناته ـ في ممارسة دور التعريف بحقل الدراسات المستقبلية، وخلق وعي إسلامي بالمستقبل، ومحاولة اكتشاف منهج إسلامي مستقل، يمارس من خلاله عملية الاستشراف في إطار الأهداف والغايات الإلهية.
الوعي بالمستقبل
من الأهداف الأساسية التي ظل مشروع المركز الإسلامي للدراسات المستقبلية يؤكدها ويركز عليها في أدبياته: هدف (نشر الوعي بالمستقبل)، بل وضعته ورقة العمل في مقدمة أهداف المركز؛ إذ جاء في البند الأول من فقرة الأهداف بأنّ المركز يهدف إلى «نشر الوعي بالمستقبل وقضاياه في الوسط الإسلامي، ولا سيما على مستوى الشرائح المثقفة، والسعي لتحويل هذا الوعي إلى رأي عام يجد له صدى في وسائل الإعلام والمؤسسات البحثية والثقافية الأُخرى». ويعني هذا أنّ المشروع يخاطب الوسط الإسلامي بشرائحه كافة، ولا سيما النخب.. على مختلف تخصصاتهم وتوجهاتهم، للإسهام معاً في تركيز حالة الوعي بالمستقبل، والتعبير عن الاهتمام به بالوسائل العملية الفاعلة التي تجعله التزاماً فردياً وجماعياً يدفع بالهدف نحو التحقق، ويعمل على تثبيت دعائم المشروع كمطلب استراتيجي لا يمكن تجاوزه.
والواقع أنّ تحقيق هدف خلق وعي إيجابي بالمستقبل، يتوقف على تعاضد جهود من مختلف الألوان والمجالات، وتتمثل في الشرائح التي يخاطبها المشروع أساساً، ابتداء بالمرجعيات الدينية وفقهاء الشريعة، والمفكرون والكتّاب والباحثون والمثقفون والخبراء، والمؤسسات والأجهزة العلمية والفكرية والثقافية والإعلامية، وانتهاء بأصحاب الأموال والعطاء.
وبكلمة أُخرى فإنّ دعائم تحقيق الهدف وتطبيق الفكرة ونجاح المشروع واستمراره تتمثل في:
1 ـ الجهد الفكري والعلمي الذي يمارسه المفكرون والخبراء والباحثون.
2 ـ التأصيل والتوجيه الشرعي من قبل العلماء.
3 ـ دعم الخيرين وبذلهم.
4 ـ تعاون المؤسسات والمراكز البحثية والفكرية.
5 ـ التشجيع والاهتمام الذي تبديه وسائل الإعلام.
6 ـ حماية المسؤولين والمؤسسات الرسمية.
إنّ توافر هذه الدعائم مجتمعة كفيل بخلق وعي إسلامي نوعي بالمستقبل وقضاياه، يتمظهر في رأي عام ضاغط، وتوجه نخبوي مسؤول، ومؤسسات بحثية رصينة، إذ لا بدّ من مظاهر عملية مؤسساتية لهذا الوعي، تأخذ على عاتقها بلورة النظرية الإسلامية المستقبلية وتأصيل منهجها، والتنبيه على قضايا المستقبل، وتستشرف صوره وتخطط لبدائله، وتحدد الوسائل اللازمة لذلك؛ لتدفع بالأُمّة نحو بناء مستقبلها الحضاري. ولا شك أنّ بذور هذا اللون من الوعي لا بدّ أن تنمو ـ أولاً ـ في الدعائم التي تمسك بالواقع الإسلامي برمته، ثم ينطلق منها إلى رحاب الأُمّة بصورة مختلفة.
مدخلية التحول العلمي والتكنولوجي
أولى الإسلامُ العلمَ اهتماماً خاصاً، ومنحه موقعه الحقيقي الذي يميزه في دائرة الحضارة الإنسانية. وقد تجلى هذا الاهتمام في مبادئ الإسلام ومفاهيمه وألوان الهداية والإرشاد التي قدّمها للبشرية ـ وليس أدل على ذلك من الخطاب الإلهي الذي افتتح به التنزيل، {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}([7])، رغم أنّ أجواء الجزيرة العربية لم تكن تدرك آنذاك أبعاد هذا الخطاب.
وراحت عناصر الخطاب الإسلامي تتكامل وتتبلور بمرور الزمن، لتنعكس على مسار التاريخ بصورة رؤى ومناهج وأهداف، وبالتالي لتنتج نماذج حضارية متفردة تركت بصماتها على مسيرة العلم الإنساني برمته. وتفسير الانجاز الحضاري للمسلمين على أساس المفاهيم والمناهج التي يطرحها الإسلام، ليس تفسيراً جزافياً أو تعسفياً؛ لأنّ الموقع الذي منحه الإسلام للعلم كان المنطلق والمحرك الأساس لذلك الانجاز.
وقد نصّ القرآن الكريم على نوعية الأدوات التي منحها اللَّه تعالى للإنسان؛ ليستثمرها في اكتساب العلم، وكأنّ الباري تعالى بقوله: {وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ}([8]) يدفع الإنسان من خلال منحه هذه الحواس باتجاه المعرفة والعلم. هذا فضلاً عن تأكيدات القرآن الكريم والسنة الشريفة على طلب العلم، والحصول على المعرفة، وإحداث التقدم العلمي؛ لدفع المجتمع الإسلامي نحو الرقي والتحضّر، هذه التأكيدات لا نجد نظيراً لها في أي دين آخر: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}([9])، وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}([10]). وكذا ما جاء في نصوص كثيرة من الحديث، كالنبوي الشريف: ((طلبُ العلم فريضةٌ على كلّ مسلم))([11]).
هذه التأكيدات على موضوعة العلم لا تمثل وضعاً عابراً، وإنّما تكشف عن ربط هادف بين العلم ومجالات متعددة ترتبط بالنظرة الإسلامية التوحيدية للكون، ففي آية {هَلْ يَسْتَوِي…} مثلاً يضع القرآنُ العلم معياراً لتقييم الإنسان ومستواه، في حين حصرت آية {إِنَّمَا يَخْشَى…} خشية الله تعالى بأهل المعرفة والعلم.
وإلى جانب ذلك حفّز القرآن العقل الإنساني على الإبداع والاكتشاف والتبصّر، من خلال آليات النظر والتفكّر والتدبّر؛ لتكون الحصيلة مجموعة متكاملة من النظريات والمناهج والقوانين والأفكار التي يستخدمها الإنسان في بناء حياته وضمان حاضره ومستقبله على أفضل صورة: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ}([12])، {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ}([13])، {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا}([14]).
ولم يقف الإسلام عند حدود تبيين أهمية العلم والتأكيد عليه وضرورته، بل عمل على توضيح الخطوط العامة للمنهج العلمي الصحيح الذي يقود نحو التقدم الحقيقي الذي يريده الله تعالى للبشر، وأنماط هذا المنهج ونماذجه وخصائصه، وما قد يؤدي إليه الانحراف عن المنهج العلمي الصحيح، فضلاً عن تأثير الإنسان وبيئته الاجتماعية ورؤية هذه البيئة للعلم وحقائقه، في صياغة المنهج العلمي وأساليب تطبيقه، لما في قوله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ… وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ}([15])، وقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً}([16])، وقوله: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}([17])، وقوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ}([18])، وقوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا}([19])، وقوله: {مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ}([20])، وقوله: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}([21])، وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى}([22])، وقوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}([23]).
المسلمون والتقدم العلمي: التجربة التاريخية
في فترة العصور المظلمة التي حجبت الضوء عن الغرب وأغرقته في متاهات الجهل والخرافة، اندفع المسلمون بفعل المنهج العلمي الرصين الذي كشفه لهم الإسلام، والعقل المبدع المتبصّر المتحرر من إرث الخرافة والجهل، ومعادلة العلاقة المتوازنة بالفكر الإنساني في مجالاته العامة (المحايدة)، ولا سيما الفكر الفلسفي والعلمي للحضارة اليونانية، اندفع المسلمون لتشييد صرح حضارة علمية راقية هيمنت على الواقع الإنساني من القرن الثامن وحتى نهاية القرن الرابع عشر الميلادي، حتى شكّلت القفزات التي حققتها هذه الحضارة في مختلف مجالات الحياة، ولا سيما في مجال العلوم التطبيقية والبحتة، كالكيمياء والفيزياء والبصريات والفلك والرياضيات وغيرها، ثورات حقيقية على مسار العلوم والمعارف البشرية منذ وجود الإنسان على الأرض، حتى اضطر الأُوروبيون والصينيون للاستعانة بخبرات وطاقات المسلمين لإدارة مشاريعهم العلمية. فضلاً عن نماذج التأثير البارزة في مجال الفلسفة والحكمة، كالتيار الفلسفي الأُوربي المتأثر بفلاسفة الأندلس الذي أطلق على نفسه (الرشديين اللاتين)، والذي كان أحد أهم أسباب النهضة الأُوروبية ابتداءً من القرن السادس عشر الميلادي.
وقد يكفي ذكر بعض النماذج المشرقة التي ستبقى علامات فارقة في تاريخ العلم، الخوارزمي في الجبر والمقابلة، جابر بن حيان في الكيمياء، الحسن ابن الهيثم في البصريات والفيزياء، وابن سينا في الطب والجراحة والميكانيكا، والبيروني في الفيزياء، ونصير الدين الطوسي في الفلك والهندسة، وبهاء الدين العاملي في الحساب، ثم البوزجاني والكرخي والغافقي والرازي وابن النفيس والدينوري، وغيرهم من الرايات المنشورة العملاقة التي لا زالت ترفرف في سماء العلم والاكتشافات العلمية، والتي مهدت للمستشرقين بأنهم أكملوا في اكتشافاتهم الكبرى ما بدأه المسلمون.
هذه التجربة العلمية التاريخية الرائعة التي حققها المسلمون خلال سبعمئة سنة، هي حقل خصب للدراسة واستخلاص العبر، وهي رصيد ضخم من الخبرة العلمية المتراكمة، بالنظر إلى أنّ هذه التجربة كانت تجري فصولها وتنمو مفرداتها في إطار مرجعية أساسية، وهي المرجعية العقيدية المتمثلة بخاتم الأديان، ولم تكن تلك التجربة تدور في فضاء مفتوح أو فراغ معرفي، ومن هنا فهي ركيزة مهمة للانطلاقة العلمية الإسلامية الجديدة التي تستند إلى المرجعية ذاتها.
وفي إطار الاستفادة من هذه التجربة يمكن استخدام المنهج المقارن، بحيث تعقد المقارنة بين الواقع الذي صنعه المسلمون في تلك الفترة وواقع المسلمين الحالي، والبيئة التي أفرزت ذلك الواقع، وطبيعة اعتماد المسلمين لمرجعيتهم العقائدية في تحديد مسارات وأهداف التقدم العلمي المنشود، وأساليب توظيف المعرفة العلمية التي حققت لهم تلك القفزات، ومعادلات تعاملهم مع الخبرة الإنسانية العلمية، وغيرها من الموضوعات التي نستطيع من خلالها قياس واقعنا وتبيّن مرحلتنا.
([2]) علي بن محمد الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ: ص 452.
([3]) أُنظر: نهج البلاغة، تنظيم : د. صبحي الصالح: ص 427 كتاب رقم 53 عهد كتبه الإمام علي بن أبي طالب لمالك الأشتر حين ولّاه مصر.
([4]) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} إبراهيم: 34.
([11]) الأمالي، الطوسي: ص 488 ح 1069؛ وسنن ابن ماجه: ج 1 ص 81 ح 224.
latest video
news via inbox
Nulla turp dis cursus. Integer liberos euismod pretium faucibua