مداخل إشكالية العلاقة بين الفقيه والمثقف

Last Updated: 2024/04/26By

مداخل إشكالية العلاقة بين الفقيه والمثقف

د. علي المؤمن

لا تزال قضية العلاقة بين الفقيه والمفكر والمثقف، واتجاهات الوعي لدى كل منهم؛ تشغل أصحاب الاهتمام والاختصاص في الساحة الإسلامية؛ بالنظر لحساسية نتائجها وخطورتها؛ لأنها تدخل في تحديد جانب كبير من مصير الشعوب المسلمة، حاضراً ومستقبلاً. هذه القضية الشائكة؛ يمكن تقسيمها إلى ثلاثة محاور رئيسة:

1 – اتجاهات الوعي لدى كل من الفقيه والمفكر والمثقف، أي الجانب النظري في المسألة الثقافية.

2 – التخصصات والأدوار الدعوية والدينية الاجتماعية لكل من الفقيه والمفكر والمثقـف، أي جانب الممارسة والتطبيق في الاجتماع الديني.

3 – علاقة تلك الاتجاهات والتخصصات والأدوار بعضها ببعض، وأسس التكامل بينها وأطره.

المحاور الثلاثة المذكورة، أفرزت – من جهتها – مجموعة إشكاليات، أهمها:

  • عدم وعي بعض الفقهاء بالعصر ومتطلباته، وانكفائهم عن معالجة قضايا الواقع، أو معالجتها بأساليب لا تأخذ تحولات الموضوعات وظروفها الزمانية والمكانية بنظر الاعتبار.
  • عدم امتلاك بعض المفكرين الإسلاميين أدوات الكلام الإسلامي والتفقه، أي عدم توافرهم على إمكانية الاستنباط من النصوص الشرعية، في مجالات العقيدة والفقه؛ لكنهم ينظِّرون في مختلف مجالات الفكر الإسلامي.
  • عدم وعي بعض المثقـفين الإسلاميين بالتراث الإسلامي وعلومه، وأهمية هذا التراث في تأصيل فكرهم وحركتهم في السياسة والاجتماع والعمل الإسلامي، ولا يمتلكون إمكانية الاستفادة منه؛ لكنهم ـــ في الوقت نفسه ـــ يقاربون قضايا إسلامية بحاجة إلى تخصص أو إلى مستوى علمي قريب من التخصص.

ففي الواقع الإسلامي هناك من يتصور بأن التراث الفقهي، والعلوم الأخرى المرتبطة به ارتباطاً وثيقاً، كأصول الفقه وعلوم القرآن وعلوم الحديث وعلوم اللغة، هو محور تخصص الفقيه، وأن الفكر المعاصر والتراث الكلامي والفلسفي هو محور تخصص المفكر، وتبقى ثقافة العصر وتيّاراتها المختلفة هي من تخصص المثقـف. إلّا أن التصور يعكس نقصاً أساسياً في الرصيد المعرفي والثقافي؛ على اعتبار أن الفقيه الذي لا يعي العصر وتحولاته؛ لا يمكنه معالجة قضاياه معالجة تنسجم مع الواقع. أما المفكر الإسلامي الذي لا يمتلك القدرة على فهم النص الديني والتراث الفقهي والعلوم المرتبطة به فهماً قريباً من التخصص؛ فإنه سيكون عاجزاً عن التنظير والتأسيس الفكري في مختلف المجالات. في حين أن المثقـف الإسلامي الذي لا يعي التراث وعلومه ولا يقدر على استيعابه؛ فسوف لن يتمكن من ممارسة دوره الحقيقي في النقد والتغيير والتوعية.

وفي قبال ذلك؛ هناك من المهتمين من يقول بضرورة اتخاذ إجراء احترازي لاقتلاع جذور النقص من أساسها. ويتمثّل هذا الإجراء في إدخال تعديل على مفاهيم ومصطلحات كالفقيه والمجتهد والمفكر والخبير والمثقف وأمثالها، وإضافة قيود موضوعية وشروط جديدة لها. فمثلاً؛ يكون وعي العصر وثقافاته وتحولاته، وفهم قضايا المجتمع وحاجاته في مختلف المجالات، إلى مستوى القابلية الكاملة على تحديد مصالح المجتمع، هي من شروط إطلاق لقب فقيه أو مجتهد على المتخصص في العلوم الدينية. كما تكون القدرة على فهم النص والتراث فهماً علمياً والإفادة منهما في بناء النظرية الإسلامية، إلى مستوى يقترب من الاستنباط، هي من الشروط التي يجب توافرها في المفكر الإسلامي. أما وعي التراث واستيعاب علومه، بمقدار فهمها، وليس التخصص فيها، فهي من شروط إطلاق لقب مثقـف إسلامي على أي مثقـف.

تفكيك المصطلحات

يُثار ــ ابتداءً ـــ سؤال معرفي حول أسباب الفصل والتفكيك في المصطلح بين المثقـف من جانب، والفقيه والمفكر من جانب آخر، عند تناول مجمل الإشكاليات وعنونتها؛ على اعتبار أن المدلول المعرفي العام لمصطلح المثقـف يشتمل على الفقيه والمفكر أيضاً. وعلى حد تعبير بعض علماء الاجتماع من أن مصطلح المثقـف يستوعب جميع منتجي الأفكار وناشريها وحملتها ومستهلكيها، بمن فيهم علماء الدين والأدباء والكتاب والإعلاميين والفنانين، بل وجميع خريجي الجامعات والمتعلمين تعلماً مرموقاً. ولكن لجوئنا إلى الفصل له أكثر من سبب ودافع موضوعي، يرتبط مباشرة بواقعنا الإسلامي؛ إذ إن المدلول العام لمصطلح المثقـف – إذا ما طبقناه على الفقيه والمفكر – يواجه إشكاليات، ومعالجتها – مهما تكن – يجب أن تنطلق من البيئة والواقع اللذين يحكمان الإشكالية، دون اللجوء إلى استعارة معادلات أو مفاهيم ومصطلحات من بيئات أخرى، وإن أطلق عليها أصحابها صفة العلم والمعرفة. من هنا كان ضرورياً اعتماد المداليل الخاصة. المنبثقة من الواقع، والتي تضع فروقات واضحة على مستوى المفهوم والاصطلاح والمعنى بين كل من الفقيه والمفكر والمثقـف، وتقسّمهم إلى ثلاث فئات.

وربما نستطيع أن نستفيد من قول الإمام علي: «الناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق»، في تأكيد واقعية الفصل بين الفقيه والمثقـف، والبعد التاريخي لهذا الفصل. فالإمام يفرّق هنا بين العالم الرباني (الفقيه) والمتعلم (المثقـف).

هذا التقسيم له حضور مشهود في تاريخنا الإسلامي، حتى إنه أخذ يتبلور ويأخذ شكلاً شبيهاً بالقانون الاجتماعي؛ فبعد ظهور المذاهب الفقهية والكلامية، حصل الانقسام بين الفقهاء والمتكلمين والأمراء، ثم تبلور التفكيك في فئات العلماء والمثقفين، بعد الهزات الاجتماعية والايديولوجية والعلمية التي عرّض لها العالم الإسلامي، جراء الانقسام الواضح بين العلوم العقلية والعلوم النقلية، فضلاً عن الانقسام بين مجموع العلوم النقلية نفسها ومجموع العلوم العقلية أيضاً، فظهرت فئة الفقهاء، أمثال عبد الله بن أباض وأبي حنيفة النعمان وزرارة بن أعين، وفئة المتكلمين، كواصل بن عطاء وهشام بن الحكم والأشعري، ثم فئة الفلاسفة الموسوعيين، كالفارابي وابن سينا وابن رشد، وفئة علماء الطبيعيات، كجابر بن حيّان والبيروني والرازي، وفئة المؤرخين وأصحاب المغازي، كابن الأثير، وفئة الأدباء والكتاب الموسوعيين، كالجاحظ وأبي حيّان التوحيدي، وفئة اللغويين، وفئة الشعراء، والمفسرين، ورواة الحديث، الخ.

وعلى وفق ذلك، أمكن تقسيم هذه الفئات إلى ثلاث طبقات رئيسة:

1 – طبقة الفقهاء، وتضم فئتي المحدّثين والفقهاء (المجتهدون وأصحاب الفتوى).

2 – طبقة المفكرين، وتضم المتكلمين والفلاسفة.

3 – طبقة المثقـفين، كبعض المؤرخين والأدباء واللغويين.

ولم يكن هذا التقسيم التقريبي موجوداً آنذاك؛ بل لم يكن هناك ما يصطلح عليه الآن بـ«المفكر» و«المثقـف»؛ لكن الهدف من ذكر هذه الفئات هو التدليل على الحضور التاريخي لعملية الفصل، وعلى ضرورتها موضوعياً بالنسبة إلى واقعنا الإسلامي الحالي المعاصر.

وبعد التطورات العلمية المستمرة التي شهدها العالم، وظهور التخصصات، ولا سيما بعد ما عرف بالنهضة الأوروبية، وانتقال عدوى العلمنة والتغرب إلى عالمنا الإسلامي، والاستقلال المتواصل للعلوم والمعارف عن بعضها بعضاً: العلوم الدينية، العقلية، الاجتماعية، التطبيقية والبحتة، وحسب عالم الاجتماع الألماني «ماكس فيبر» الذي عبّر عن هذا التحول التاريخي الكبير على مستوى العلوم والمعارف بـ«خيبة العالم»، أصبح التخصص وانفصال العلم الواحد عن الآخر واقعاً قائماً.

ولكنهم – في الغرب – اختزلوا كل تلك المعاني والمداليل المختلفة في مصطلح واحد، أصبح له بعد معرفي، وهو (Cultured) الذي ترجم إلى كلمة «المثقـف» بعد انتقال المصطلح إلى عالمنا الإسلامي، ومعه انتقلت مداليله وفضاءاته التي تستوعب جميع الفئات الاجتماعية المتخصصة – علمياً – والمتعلمة.

ومن خلال ما سبق، تبرز ضرورة تحديد مفهوم المصطلحات التي احتواها العنوان، لفهم المراد منها هنا، لكنها تكاد تكون غائمة – أحياناً – أو تستخدم استخدامات خاصة في بعض المدارس الفكرية والثقافية؛ لاختلاف تعريفاتها ومفاهيمها من مدرسة إلى أخرى بل – أحياناً – من كاتب إلى آخر.

التعريفات الخاصة التي تطرح هنا، ربما يكون جانب منها مجازياً، ولكن القاعدة هي أن المصطلحات كثيراً ما تبدأ مجازية ثم تنتهي حقيقية:

    1- الفقيه الإسلامي: هو متخصص في الفقه الإسلامي وصاحب رأي في أحكامه، أي أنه قادر على استنباط الحكم الشرعي من مصادر التشريع، من خلال فهم النصوص المقدسة والمراد منها فهماً علمياً دقيقاً خاضعاً للقواعد المثبتة في علوم القرآن (تفسير آيات الأحكام، الناسخ والمنسوخ وغيرهما). وعلوم الحديث (الدراية، الرجال وغيرهما) وعلم أصول الفقه، إضافة إلى علوم اللغة العربية، ثم استخراج الأحكام الشرعية التي تستوعب جميع مجالات الحياة. واصطلاح المجتهد يرادف اصطلاح الفقيه، رغم أن بعض المتخصصين يعطي للفقيه دائرة أوسع وأكثر عمقاً في التعامل مع الفقه. والفقيه هو مشروع مرجعية دينية في الفتوى، وولاية وقيادة للأمة. ومن هنا، فالفقهاء هم مراجع الأمة وقادتها في الدين والدنيا.

2- المفكر الإسلامي: متخصص في الفكر الإسلامي وملتزم به نظرية وسلوكاً، وصاحب رأي في مجالات العقيدة وعلم الكلام والفكر المقارن، من خلال تعمقه في الأفكار الأخرى، ولا سيما المعاصرة، ويمتلك القدرة على تحليلها ومحاكمتها، والتأسيس للأفكار والنظريات الإسلامية الجديدة. فالمفكرون هم نخبة الأمة ومن منظري حركتها في الحياة.

    3- المثقـف الإسلامي: هو المطّلع – إلى حد الاستيعاب – على الواقع وتطوراته وتيّاراته الاجتماعية والفكرية والثقافية والعلمية. وهو لا يمتلك رأياً فقهياً أو فكراً إبداعياً خاصاً به – تمييزاً له عن الفقيه والمفكر – بل إنه يحمل الأفكار ويستهلكها وينشرها ويشرحها في هذين المجالين، أي أنه يتحرك في إطار مرجعية علمية وفكرية، تحركاً واعياً وهادفاً وتكاملياً، والمثقف نوعان:

الأول: مثقف موسوعي، وهو الملمّ بأكثر من مجال ثقافي، كالكاتب والصحافي والأديب.

الثاني: مثقف تخصصي، وهو المتخصص في أحد العلوم الإنسانية كالاجتماع، والسياسة.

والتأكيد هنا على مصطلح «المفكر الإسلامي» و«المثقف الإسلامي» وليس «المفكر المسلم» و«المثقف المسلم»؛ هدفه التفريق في المدلول والمفهوم والدور بين المفكر والمثقف الذين يمتلكان هوية ثقافية غير دينية، وينتسبان للإسلام وراثياً، فلا يشكّل الإسلام بالنسبة له هوية فكرية وايديولوجية، أي أن كلمة «المسلم» هنا لها بعد اجتماعي وقانوني فقط، وبين المفكر والمثقف اللذين يتبنيان الإسلام نظاماً حياتياً متكاملاً، ويشكّل الإسلام بعداً أيديولوجياً في شخصيتهما، ويتحركان اجتماعياً وثقافياً على وفق هذا الانتماء. وبناءً على ذلك، فالمفكرون الإسلاميون هم مُنظرو حراك الأمة الميداني، والمثقفون الإسلاميون هم طليعة الأمة والجهاز التنفيذي لحركتها.

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment