محاولات بناء منهجية (المستقبلية الإسلامية)

Last Updated: 2024/04/26By

محاولات بناء منهجية (المستقبلية الإسلامية)

د. علي المؤمن

إنّ الحديث في إطار (المستقبلية الإسلامية) التي نسعى للمساهمة في بنائها كنظرية ومنهج من أجل اكتشاف المستقبل الإسلامي ورسم ملامحه المشرقة، ليس حديث أُمنيات وآمال، أو حديث توقعات ونبوءات، بل وليس حديث وعظ أو خطاب تثويري؛ لأنّ تحقيق هدف (المستقبلية الإسلامية) لا يقتصر على دراسة عناصر القوة في الدين وأتباعه، أو الحتميات التي تؤكد امتلاك مقومات البقاء والاستمرار والنمو والنهوض، أو المراهنة على سقوط الحضارات والمدنيات الأُخر التي سيكون الإسلام بديلاً لها فحسب، بل إنّ الحديث عن المستقبل الإسلامي هو حديث العلم والمعرفة العلمية المؤطّرة بالبعد الإيماني الذي يربط حياة الإنسان الدنيوية بحياته الأُخروية، والعمل بالجزاء، والكدح بالثواب، وإعمار الأرض بتحقيق هدف الاستخلاف، وبالتالي سعادة الدارين والحياة الأفضل فيهما.

والكتابات الإسلامية الرائدة التي تحدثت عن بناء المستقبل، بدءاً من نهايات القرن التاسع عشر الميلادي وحتى نهاية السبعينات من القرن العشرين، تحدثت بإسهاب عن مفاهيم وأفكار ترتبط بالنهوض وشروطه والسنن الإلهية ومقومات النمو والتطور، واستخدم معظمها خطاباً إرشادياً واستنهاضياً. ورغم أنّ هذه الكتابات أثمرت عن موجات وتيارات نهضوية مهمة في تاريخنا المعاصر، إلّا أنّها لم تكن تحمل مقومات الدراسة المستقبلية؛ لأنّها لم تعتمد المناهج العلمية في تحديد زمن المستقبل وصوره وأهدافه وبدائله وأساليب الوصول إليه، فخطاب النهضة ظل يجيب عن سؤال (ما يجب أن نكون عليه؟)، وأحال الإجابة عن (كيف؟) للأُطر العامة والكليات الإرشادية، وترك الإجابة عن تساؤل (متى؟) للزمن المفتوح.

في حين أنّ الدراسات المستقبلية الحديثة تجيب ـ وفقاً لمناهجها ـ عن خمسة أسئلة:

1 ـ ماذا سيكون؟ وفي الإجابة عنه تكمن عملية الاكتشاف والتبصّر، في إطار عملية الاستشراف، وتحديد الأهداف والموضوع والحقل، وينتج عنه التعرف على صور المستقبل واحتمالاته.

2 ـ ما يجب أن يكون؟ وينتج عنه اختيار النماذج والبدائل المطلوبة في حقل معين أو عدة حقول مترابطة.

3 ـ كيف؟ وفيه تتحدد المناهج والأساليب والأدوات للوصول إلى الهدف والبديل.

4 ـ متى؟ وتتحدد فيه المراحل الزمنية للوصول إلى الأهداف.

5 ـ أين؟ تحديد مكان تحقيق الهدف.

ومن خلال الإجابة عن هذه الأسئلة يتم تحديد صور المستقبل واحتمالاته، وموضوع الاستشراف وأهدافه، والنماذج والبدائل المطلوبة، والمناهج والأساليب، والزمان والمكان.

ويسعى مشروع المستقبلية الإسلامية ـ ابتداءً ـ إلى تحديد الإطار النظري للمنهج الإسلامي في استشراف المستقبل، فهو في حقيقته لا يبحث في نظرية ولا يسعى ـ في مراحله الأُولى ـ إلى اكتشاف نظرية، بل إنّه يبحث عن إمكانية اكتشاف نظرية، وعن تأسيس حقل دراسي في هذا المجال، يستوعب النظرية والمنهج والوسائل.

ومن خلال ذلك يتضح أنّ المشروع لا يتشبه بمناهج الدراسات المستقبلية في الغرب أو يسعى لمجرد أسلمتها، بل إنّه يتحدث عما تفرزه النظرة الكونية التوحيدية من رؤية إسلامية شاملة للمستقبل، تنطوي على إبحار في السنن الإلهية، ووقوف على الرؤية الإسلامية لأساسيات علم اجتماع الحضارات وفلسفة التاريخ، فضلاً عن دراسة متأنية لتقنيات ومناهج الدراسات المستقبلية الحديثة. وبالتالي تكون المحصلة مشتملة على رؤية متكاملة لعملية النهوض والبناء والتغيير الإسلامي الشامل.

نحن مهددون في حاضرنا وفي بيوتنا وأولادنا، فكيف نسمح بأن يجنح خيالنا باتجاه مستقبل مثالي أو مستقبل أفضل؟! ولأننا مهددون في حاضرنا، فلا خيار لنا إلّا ببناء مستقبلنا، وبناء المستقبل هو قرار الحاضر، ذلك أنّ حاضرنا كان المستقبل بالنسبة لماضينا، وفي حينه لم نتخذ قرار بناء الحاضر، فبتنا مهددين اليوم. وحيال هذا التهديد المتعدد الأشكال والمضامين، قد يبدو أنّ الحديث عن مستقبل إسلامي حضاري مشرق، متكافئ في جانبه المدني مع الحضارات الأُخر، ومتغلب عليها روحياً وأخلاقياً، محض خيال أو مثال أو يوتوبيا..

ولأننا مهددون ومنهزمون مادياً، فإنّنا بحاجة إلى جرعات عالية من الثقة بالله ووعده وعدله، والثقة بالنفس والمعتقد والتاريخ، كما أنّنا بحاجة إلى صعقات وصدمات تعيد لنا توازننا، بل إنّنا بحاجة إلى وعي مركّز نستبدل به العقل الدفاعي التقليدي بعقل هجومي إبداعي.

لقد كان رسول الله (ص) ملاحقاً في الصحراء.. وحيداً لا يحمل معه إلّا الثقة بالله وبنصره، والثقة بقلبه وعقله، فيقول لـ(سراقة) ما مضمونه: اتركني ولك أساور كسرى. صحيح أنّ أمر رسول الله (ص) مرتبط بالغيب، ولكنه محرك لنا نحو تحقيق شروط النهضة، لتشرع أمامنا أبواب النصر والفلاح، رغم كل الضغوطات والابتلاءات والهزائم المادية والنفسية.

وتتمثل العلاقة النظرية للماضي بالمستقبل في مشروع (المستقبلية الإسلامية) في اكتشاف تطبيقات سنن التاريخ، وفي استنطاق التراث الإسلامي وإعادة اكتشافه، وفي استحضار الصور المشرقة لمراحل الازدهار الإسلامي روحياً وحضارياً. وهي بمجموعها ليست علاقة تراجع نحو الماضي، فالسنن الكونية لا تتبدل، باعتبارها قوانين اجتماعية راسخة، وإن كانت على جانب من المرونة، والتراث الإسلامي بحور من المعرفة الإنسانية التي تمثل الكثير من الطاقة المحركة للانطلاق نحو المستقبل، وقد صوَّر الازدهار الإسلامي دوافع وحوافز إضافية تمنح الإنسان المسلم مزيداً من الثقة بالنفس.

أمّا العودة الروحية والعملية إلى الأُصول الإسلامية المقدسة (القرآن الكريم والسنة الشريفة) فهي ليست عودة بالمفهوم الزمني؛ لأنّ هذه الأُصول ليست من التراث أو الماضي، بل هي الثوابت الخالدة، وخلودها يعني أنّها خارج الزمن العضوي، وأنّها دستور الماضي والحاضر والمستقبل، وبكلمة واحدة: هي الدين الذي لا يمكن فصله عن أيّ شكل من أشكال المستقبل، فحقائق الدين وتعاليمه هي التي ترسم معالم المستقبل الإسلامي، وبالتالي تكون هذه العودة المتكاملة تركيزاً لمرجعية الدين في حياة الإنسان المسلم؛ ليكون المنطلق والمحرك والهدف في بناء المستقبل.

وفي الإطار التطبيقي، أيضاً، إنّ مشروع (المستقبلية الإسلامية) لا يجمد على الماضي، ولا يهرب من ضغوطات الحاضر إلى المستقبل، ولكنه يعي وعياً تكاملياً معادلة العلاقة بين الماضي والحاضر والمستقبل، فهذه المعادلة بإمكانها وضع الأُسس العلمية لبناء المستقبل.

إنّ الأُمّة التي تقترب من نهايتها أو تشارف على الموت، تنكفئ على نفسها، وتبدأ بالاستغراق في استحضار أمجاد الماضي في الضمائر والعقول؛ لأنّها لم تعد ترى أنّ ثمة جدوى من الحديث عن المستقبل أو الاستعداد له، فالذي يشارف على الموت يعلم أنّ مستقبله هو اللحظة التي يعيشها بأزماتها وأوجاعها، فتبقى هذه اللحظة بالنسبة إليه مجرد استعراض لشريط الذكريات.

كذلك هنالك أُمم ومجتمعات ليست أفضل حالاً، وهي تلك التي تريد حرق المراحل والمسافات والعبور على الزمان والمكان، فتحاول رسم صور مستقبلها بالتشبه بمجتمعات تختلف عنها، مارست سيرها الطبيعي في جادات التاريخ والجغرافيا، واكتشفت صور مستقبلها بالمناهج التي أفرزتها مسيرتها. وعندها لا يكون هذا التشبه سوى صور كاريكاتورية لا تعبر عن الواقع بشيء.

إنّ اكتشاف المستقبل وبناءه لا يكونان بتجاوز الحقائق الكونية ولا بحرق الزمن والواقع، بل باستحضار السنن الكونية وتثبيت المراحل الزمانية والمسافات المكانية. فالمراحل والمسافات هي القنوات الموضوعية التي تمر بها عملية البناء من الحاضر باتجاه المستقبل، ومن المستقبل باتجاه الحاضر.

ومن هنا فإنّ مهمة الباحث المستقبلي، في أيّ حقل من حقول المعرفة، ولا سيما في الموضوعات ذات العلاقة بالنظرية والمنهج، تبدو صعبة ومركبة؛ لأنّه لا بدّ أن يمتلك ثلاث عيون بصيرة: عين تنظر إلى الماضي وتستلهم منه، وأُخرى تتأمل في الحاضر وتنطلق منه، وثالثة تتبصر في المستقبل وتستشرفه، في إطار نظرة تكاملية واحدة. إذ لا حاضر بلا مستقبل ولا مستقبل من دون حاضر، فبناء الحاضر يتم بخطة مستقبلية، وحين نضع للمستقبل بديلاً، فإننا نطوّع الحاضر ضمن خطوات مدروسة ليسير بالتدريج نحو المستقبل البديل.

وتضاف إلى الباحث الإسلامي المستقبلي مهمات وخصوصيات أُخر ـ علاوة على ما مرَّ ذكره ـ فهو حين يكتشف المستقبل فإنّه ينظر بعين الله؛ ليتشرب حقائق العبادة والمعرفة، ويعي معادلات الحق والعدل والخير والحب والجمال، فيكون الكشف حينها أقرب إلى الحق الذي يصعب اختراق حجبه في الحالات العادية.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment