محاور الاشتراك بين النظام الديمقراطي والنظام السياسي الإسلامي

Last Updated: 2024/04/26By

محاور الاشتراك بين النظام الديمقراطي والنظام السياسي الإسلامي

د. علي المؤمن

يمكن حصر أبرز مجالات اللقاء بين الأنظمة الديمقراطية التقليدية والنظام السياسي الإسلامي على مستوى التوجهات السياسية وأساليب ممارسة السلطة وحماية حقوق الناس وحرياتهم، بما يلي: المفاهيم السياسية والاجتماعية العامة، مفهوم الجمهورية، الفصل بين السلطات، سيادة القانون، الالتزام بالحقوق والحريات العامة، وممارسة الأمة لدورها في المشاركة السياسية. ولا يعد اللقاء بين النظامين في إطار هذه المحاور لقاءً مطلقاً أو كاملاً، وإنما يقتصر على مساحات مشتركة تدخل في إطار هذه المحاور، أي إن كل محور يحمل داخله مساحة مشتركة وأخرى متعارضة، تكبر إحداهما أو تصغر، وفقاً لحجم الاشتراك أو التعارض. ونعالج هذه المحاور فيما يلي بشيء من التفصيل:

1 – المفاهيم السياسية والاجتماعية العامة:

ليس المراد بهذا المشترك المفاهيم العقيدية والفلسفية؛ بل المبادئ العامة التي تدخل في إطار احترام الإنسان وإرادته، والمحافظة على حقوقه، وهي مبادئ إنسانية مشتركة لها أبعاد سياسية واجتماعية. فمن الناحية النظرية تدعو الديمقراطية إلى تحقيق العدالة الاجتماعية ومساواة الجميع أمام القانون ومناهضة الاستبداد، وتكفل للشعب حق نقد الحاكم ومحاسبته والمشاركة في الحياة السياسية والاجتماعية، كما تكفل حرية الفكر والمعتقد والتعبير عن الرأي. ومع أن الإسلام يختلف عن الفكر الديمقراطي في نظرته لمنشأ هذه الحقوق والحريات، إذ يرى أن منشأها هو الله تعالى، بينما تعدّها الديمقراطية حقوقاً، يفرزها العقد الاجتماعي بين أفراد الشعب، إلا أن النظام الإسلامي يشترك مع النظام الديمقراطي في الدعوة إلى تلك المبادئ الإنسانية؛ بل سبقه في الدعوة إليها، إذ جاء الإسلام لتكريم الإنسان وتحريره من كل ألوان العبودية والاستبداد، ورفع الظلم عنه، وتحقيق العدل والقسط، وضمان حق الأمة في محاسبة الحاكم، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وممارسة الإنسان لدوره في الاستخلاف في الأرض، وفي رسم مسار النظام الإسلامي، والمشاركة في حركته وقراراته. والضمانات التي يقدمها الإسلام – في سياق احترام إرادة الأمة وحقوق الإنسان وحرياته الاجتماعية والسياسية – لم يصل أي نظام أو مذهب سياسي آخر إلى مستوى مضامينها ونوعيتها، رغم أن التجربة التاريخية – عدا مرحلة صدر الإسلام – لم تستطع التعبير عن هذه الحقائق. ويمثل النظام السياسي الإسلامي الحديث محاولة لتشكيل تجربة جديدة، تتحرك في إطار المبادئ الإنسانية التي دعا إليها الإسلام.

وعصرية الدولة وأجهزتها مبدأ عام، يشترك فيه النظامان الإسلامي والديمقراطي. ومن مقومات الدولة العصرية انسجامها مع متطلبات العصر زمانياً ومكانياً، وعلى كل المستويات، ولا سيما الدستور الدائم الذي يشكل محور اتفاق الشعب والسلطة والدولة، ووجود القوانين التي تستوعب كل مجالات حركة الدولة، إلى جانب الضمانات التي تكفل تطبيق هذه القوانين، وتساوي الجميع أمامها، وكذلك عصرية نظام الدولة، كتوزيع السلطات والتكافؤ في ما بينها، وآلية تداول السلطة، والتطوير المستمر لآليات حركة المال والاقتصاد، ولقطاعات الصناعة والزراعة والتجارة والعلم والتكنولوجيا، وتحديث مناهج التعليم والتربية والتوجيه، والتواصل الدائم مع آخر مستجدات العلم والتكنولوجيا، ودعم حركة الفنون والثقافة والآداب والصحافة والنشر، والاهتمام بقضايا الرفاه والضمان الاجتماعي والصحي لكل أفراد الشعب، واستحداث أفضل الآليات لضمان أمن الدولة واستقلالها السياسي والاقتصادي، ومن تلك الآليات القوات المسلحة ذات الكفاءة. وعلى مستوى السياسة الخارجية، تعمد الدولة العصرية إلى الالتزام بالقوانين الدولية وتحسين علاقاتها بمختلف دول العالم على أساس التكافؤ والاحترام المتبادل.

2 – المفهوم العام للجمهورية:

النظام الجمهوري أحد أكثر الأنظمة انسجاماً مع مبادئ الديمقراطية؛ فمصطلح الجمهورية يدل على الدولة التي تعتمد مبدأ حكم الجمهور. ويرأس هذا النظام رئيس ينتخبه الشعب دورياً. والتعريف التقليدي للجمهورية هو أنها الجسم العام أو الجماعة السياسية أو الدولة التي يحكمها الجمهور من خلال القوة السيدة التي توحد كل أعضائها وأجزائها وهيئاتها. وهذه الأجزاء والهيئات هي مشتركات بين الجمهور أو الشعب، كالسلطة والقوانين والثروة العامة وغيرها. ومع أن هذا التعريف يعود إلى قرون خلت، إلا أن التطور الذي لحق بمفهوم الجمهورية لم يفقده مبادئه الأولى، إذ ظلت الجمهورية تعطي مدلول الجسم السياسي الذي يشترك الجمهور (الشعب) في بنائه وفي اختيار حكومته، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة.

والمفهوم العام للجمهورية الذي يعني هذا البحث، كمشترك بين النظامين الديمقراطي والإسلامي، هو المفهوم الذي تعتمده الديمقراطيات التقليدية. وهذا المفهوم يلتقي مع طبيعة دور الأمة في النظام الإسلامي، إلا أن الأخير قيّد مصطلح الجمهورية بقيد عقيدي، هو «الإسلامية». هذا التقييد أو الاقتران كان مطلباً جماهيرياً، ولم تجبر الأمة عليه، وإن كان في الأصل تكليفاً قبل أن يكون محض رغبة من الشعب.

ومن هنا فالحكومة الإسلامية هي حكومة جمهورية، لكنها تفترق عن الأنظمة الديمقراطية في إطلاق مفهوم الجمهورية؛ لأن دور الشعب في الجمهورية بمعناها المطلق هو منح الشرعية للحكومة والحاكم، أي حصر شرعية الحاكم في الشعب فقط. في حين أن شرعية تأسيس الحكومة الإسلامية مقررة من الله تعالى، مع اعتمادها على الشعب في إقامتها وتفعيل شرعية الحاكم الفقيه، أي منحه المشروعية القانونية والعملية. وكذلك بالنسبة إلى رئيس الجمهورية الإسلامية؛ فإن دور الشعب في انتخاب الرئيس ليس منحه الشرعية؛ بل الكشف عنه للولي الفقيه (رئيس الدولة) لإقرار تعيينه رئيساً للحكومة.

ويذهب الفقيه الشيخ عبد الله جوادي آملي إلى أن «النبي نفسه هو الذي طرح الجمهورية الإسلامية والعودة إلى رأي الأمة، حيث أوضح أن إسلامية النظام تقوم على أساس الوحي، وشعبيته على أساس قبول الأمة به.. إن كلام النبي في قوله تعالى: {لقد لبثت فيكم عمراً} يعكس البعد الجمهوري في نظام الإسلام… فالوحي قد نزل وتعينت صفتي كنبي، وبذلك توافرت الرسالة والنبوة والولاية بمعنى الإدارة، ولم يبق غير قبولكم وإيمانكم».

3 – الموقف بين السلطات:

ويعبّر عنه علماء السياسة وفقهاء القانون الدستوري بالفصل بين السلطات أو توزيع السلطات أو تقسيمها، والمراد بها السلطات الرأسية في الدولة. وقد ظهرت الفكرة في أوروبا كرد فعل على الاستبداد والحكم المطلق وتركيز السلطة بيد الملك. وهي فكرة قديمة، تعود جذورها إلى الفكر السياسي اليوناني الذي عبّر عنه أفلاطون في «الجمهوريته» وأرسطو في «السياسة». ثم تحولت الفكرة إلى مبدأ في دستور الزعيم الانجليزي «كرومويل» (1590 – 1658) الذي طبّق هذا المبدأ بعد إسقاط الملكية وإقامة الحكم الجمهوري، فقد ميّز بين ثلاث سلطات: التشريعية والتنفيذية والقضائية؛ بهدف عدم تركيز السلطة في مؤسسة واحدة أو شخص واحد.

وجاء المفكر الإنجليزي «جون لوك» (1632 – 1704) لينظّر لمبدأ الفصل بين السلطات في كتابه «الحكومة المدنية» الذي صدر عام 1690. إلا أن الذي بلور المبدأ على نحو منهجي وأرسى أصوله هو المفكر السياسي الفرنسي «مونتسكيو» في «روح القوانين»، حتى نسب إليه، وكان هدفه حماية الحريات، ومنع إساءة استخدام السلطة، والاعتدال والموازنة بين السلطات، إضافة إلى قيام قدر من التعاون والتنسيق والرقابة المتبادلة في ما بينها، بحيث لا يكون مشرّع القانون (السلطة التشريعية – البرلمان) هو منفّذ القانون نفسه (السلطة التنفيذية – الحكومة) وهو نفسه الرقيب على حسن تطبيق القوانين (السلطة القضائية)؛ إذ إن الجمع بين السلطات – هذه – سيؤدي إلى الاستبداد والحكم المطلق.

وجد هذا المبدأ طريقه إلى التطبيق تدريجياً، في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، ابتداءً من القرن الثامن عشر الميلادي، وكانت نتيجته تقسيم الوظائف الأساسية للدولة على أساس السلطات الثلاث المنفصلة عن بعضها، والمستقلة في عملها أو المترابطة مع بعضها، بشكل أو بآخر. وباتت كل سلطة متخصصة بعملها، كما أصبحت هذه السلطات ملكاً للدولة ويمارسها أشخاص، يحملون صفات محددة، بعد أن كانت السلطة ملكاً للأشخاص. والحقيقة هي أن هذه السلطات خرجت من أيدي الملوك والأمراء والنبلاء والأسر الحاكمة عموماً، ودخلت في أيدي أسر حاكمة جديدة، هي الأحزاب وأصحاب رؤوس الأموال.

وتقسيم السلطات في الدولة إلى ثلاث: تنفيذية وتشريعية وقضائية، هي من نقاط الاشتراك بين الأنظمة الديمقراطية والنظام السياسي الإسلامي الحديث، إلا أن الأخير يتميز عن الأنظمة الديمقراطية بوجود سلطة عليا، هي سلطة الولي الفقيه (القائد)، التي تشرف على أعمال السلطات الثلاث وتنسق فيما بينها، وتتدخل في المجالات التي حددها القانون. وهذا التوزيع الذي اعتمده النظام السياسي الإسلامي الحديث يجمع بين مساحة الحكم التي يعطيها مبدأ ولاية الفقيه للفقيه الحاكم، وهي المساحة التي تشبه في حجمها مساحة حكم النبي والإمام، باعتباره مركزاً للسلطات الثلاث، وبين متطلبات العصر وتوسع الدولة وتضخم وظائفها وأعمالها. وقد أشار الإمام الخميني إلى موضوع الفصل بين السلطات في الحكومة الإسلامية بقوله: «لهذا قرّر الإسلام إيجاد سلطة التنفيذ إلى جانب سلطة التشريع» و«سلطة القضاء غير هاتين السلطتين». أما سلطة الفقيه الحاكم (القائد) فهي فوق هذه السلطات، ولكنها ليست فوق القانون؛ بل إنها – كباقي السلطات – خاضعة له.

ويذهب الدكتور وهبة الزحيلي – أيضاً – إلى أن هذا المبدأ شرّعه الإسلام ووجد له حيزاً في التطبيق، فالسلطة التشريعية تتمثل بأولي الحل والعقد؛ للاجتهاد في استنباط الأحكام من نصوص الشريعة، والسلطة التنفيذية ممثلة بالحاكم الأعلى ووزرائه، والقضائية ممثلة بالقضاة، «ليس بينهما مبدأ الفصل التام، ولا مبدأ الاندماج الوظيفي، ومع أن كل سلطة مستقلة في عملها عن الأخرى، إلا أنها تساند وتعاون السلطات الأخرى»(*).

ورغم أهمية تقسيم السلطات والفصل بينها، إلا أن عدم التوازن في عملية الفصل الناتجة عن ضعف التنسيق بين السلطات وعدم وجود سلطة مرجعية عليا، يخلق الكثير من المشاكل في مسيرة الدولة، فضلاً عن التعددية في مراكز رسم السياسات والتخطيط والقرار، وبالتالي ستحاول كل سلطة وضع العقبات أمام السلطات الأخرى، بهدف إضعافها، أو الاستئثار بالسلطة. هذا الأمر جعل العديد من علماء السياسة يعتقدون بأن مبدأ الفصل بين السلطات مبدأ نظري بحت، لا يمكن تحقيقه في الواقع العملي؛ لأن هناك استحالة في فصل الهيئات المختلفة من الدولة عن بعضها، فهي بمثابة الأعضاء في الجسم البشري أو الأجزاء المكوّنة للآلة. كما أن تطبيق هذا المبدإ في بعض الدول تمخض عنه سيطرة سلطة معينة على بقية السلطات العامة في الدول، ما قضى على الهدف من المبدأ».

وهناك محاولات كثيرة لتقسيم السلطات في الدولة تقسيماً جديداً مغايراً تماماً للتقسيمات التقليدية – كما يقول الخبير القانوني المصري الدكتور يحي الجمل – مثل: «سلطة حكومة وسلطة إدارة، أو سلطة التقرير وسلطة التنفيذ، وسلطة المشاورة والمراقبة، أو سلطة الحكم وسلطة المداولة، إلى غير ذلك من التقسيمات التي توحي بأن الفكرة التقليدية – بعد أن اهتزت اهتزازاً شديداً في العمل – بدأت تهتز بعنف من الناحية النظرية».

وعلى مستوى السلطة التشريعية؛ فإن كثيراً من الأنظمة الديمقراطية تعتمد نظام المجلسين التشريعيين، مثل: مجلسي العموم واللوردات (بريطانيا) ومجلسي النواب والشيوخ (الولايات المتحدة الأمريكية)، في حين أن أنظمة أخرى تعتمد نظام المجلس الواحد، مثل: الجمعية الوطنية (فرنسا) وغيرها. ويرى كثير من علماء السياسة والقانون أن نظام المجلسين التشريعيين ينسجم مع روح الديمقراطية وأهدافها؛ لأنه يمنع استبداد السلطة التشريعية، فوجود مجلس واحد يمسك بيده السلطة التشريعية قد يدفعه للاستبداد بها أو التعسف في استعمالها في مواجهة السلطة التنفيذية؛ ولا سيما إذا كانت كل سلطة يسيطر عليها حزب مختلف. كما يمنع نظام المجلسين التسرّع في التشريع ووضع القوانين وإقرارها، في حين أن وجود مجلسين يقرّ أحدهما تشريعات الآخر سيؤدي إلى مزيد من التروي والدقة في إصدار القوانين وإلى الاستقرار القانوني في الدولة. ويرفع نظام المجلسين من كفاءة السلطة التشريعية؛ لأن كثيراً من الكفاءات القانونية والسياسية التي لم تدخل الانتخابات يمكن أن تجد طريقها بالتعيين في أحد المجلسين. وهذا لا يعني أن نظام المجلسين ليس له مساوئه، والتي من أبرزها تأخر إصدار القوانين والتشريعات والعراقيل التي يوجدها كل مجلس في طريق الآخر، إلا أنها تبقى أقل من حسنات نظام المجلسين. أما السلطة التشريعية فتعتمد تعيين بعض أعضاء البرلمان أو بعض أعضاء المجلسين من قبل رئيس الدولة.

وكمثال على نظام المجلسين في النظام الإسلامي؛ فإن قد نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية اعتمد أسلوباً خاصاً في عمل السلطة التشريعية، للمحافظة على الأصالة الفقهية لطبيعة هذه السلطة وعملها، وفي الوقت نفسه استخدام الأدوات العصرية في حركتها واختيار أعضائها. وتتمثّل السلطة التشريعية بمجلس الشورى الإسلامي الذي ينتخب أعضاؤه انتخاباً مباشراً من الشعب. ولكن الدستور وضع مجلساً فقهياً – دستورياً مصغراً، هو مجلس صيانة الدستور؛ لإقرار القوانين والقرارات التي يصدرها مجلس الشورى؛ بهدف ألّا تأتي هذه القرارات والقوانين متعارضة مع الشريعة الإسلامية ودستور الجمهورية الإسلامية.

4 – سيادة القانون:

تؤكد الديمقراطية على أن تطبيقها لا يمكن أن يتم إلا في دولة القانون، ولكي «تقوم الدولة القانونية يلزم أن يتوافر لها ضمانات معينة، يتمثل أهمها بوجود دستور، وبتطبيق مبدأ الفصل بين السلطات، واحترام مبدأ سيادة القانون، وبتدرج القواعد القانونية، وكذلك تنظيم رقابة قضائية، وأخيراً حماية الحقوق والحريات الفردية». كما يجب أن تخضع جميع الهيئات الحاكمة في الدولة القانونية للقواعد القانونية السارية، وتتقيد بها، شأنها في ذلك شأن المواطنين العاديين. ويعني ذلك خضوع جميع أوجه نشاط الدولة في التشريع والتنفيذ والقضاء للقانون. ويعني هذا المبدأ – في تفاصيله – أيضاً خضوع السلطة التنفيذية في ممارستها لوظائفها للسلطة التشريعية؛ بحيث لا تقوم على تصرف معيّن إلا تنفيذاً للقانون أو بمقتضى القانون.

والسلطة التشريعية من جانبها تلتزم في تشريعاتها وقوانينها بنصوص دستور الدولة؛ نظراً إلى علو القانون الدستوري على غيره من القوانين، وسموه على كل السلطات في الدولة، وهذه القاعدة تعرف بـ«دستورية القوانين»، بمعنى أن أي تشريع يصدره البرلمان على خلاف الدستور في الشكل أو المضمون، يعدّ تشريعاً غير دستوري. وتحديد عدم دستورية القوانين وإيقافها ومنع تطبيقها يقع على عاتق جهاز معين في الدولة، له تسميات تختلف من دولة إلى أخرى، وغالباً ما يكون هذا الجهاز تابعاً للسلطة القضائية، ويتمثل بمحكمة عادية أو خاصة أو إحدى المحاكم العليا. وتعتمد معظم الأنظمة الديمقراطية هيئة قضائية، تتميز بوضع خاص، تعرف بالمحكمة الدستورية. ويرفض القانون الدستوري أن يكون الجهاز تابعاً للحكومة (السلطة التنفيذية) أو البرلمان (السلطة التشريعية)؛ لأن ذلك سيوفر لهما أرضية الاستبداد بالسلطة والقرار، أما إذا كان مستقلاً فإنه سيتحول إلى سلطة جديدة قائمة بذاتها. ومن هنا كان الخيار الأفضل هو أن يكون موقعه في إطار السلطة القضائية.

ويتميز النظام السياسي الإسلامي، أيضاً، باعتماده مبدأ سيادة القانون؛ فالدولة هي دولة القانون – بالمقاييس الشرعية البشرية – بل إن عدم التزام النظام السياسي الإسلامي بالقانون سيزيل عنه صفة الإسلامية؛ لأن إسلامية النظام السياسي تأتي عبر التزامه بالشريعة الإسلامية وتطبيقها، سواء تمثلت بأحكام شرعية أو قوانين؛ إذ إن القانون في النظام السياسي الإسلامي هو عبارة عن الأحكام الشرعية أو القوانين والقرارات التي تصدرها الأجهزة المختصة، وأبرزها مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان المنتخب شعبياً). يقول الإمام الخميني: إن الحكومة الإسلامية ليست حكومة مطلقة مستبدة، وإنما هي دستورية، بمعنى التقيد بمجموعة الشروط والقواعد المبيّنة في القرآن الكريم والسنة الشريفة، والمتمثلة بوجوب تطبيق أحكام الإسلام وقوانينه، «من هنا كانت الحكومة الإسلامية هي حكومة القانون الإلهي»، «فلا مجال للآراء والأهواء في حكومة الإسلام، وإنما النبي والأئمة والناس، يتبعون إرادة الله وشريعته». وعليه «كان لزاماً على حاكم المسلمين أن يكون عالماً بالقانون».

5 – الحقوق والحريات العامة:

يقوم الفكر الديمقراطي في نظرته إلى موضوع الحق والحرية على أساس فلسفي، يتمثل بأصالة الفرد، والذي تبلور في المذهب الفردي، الذي يعتبر الإنسان الفرد الحقيقة الأساسية الأولى في الاجتماع الإنساني، وأن هذا الإنسان الفرد يتمتع – بحكم الطبيعة نفسها – بحقوق وحريات طبيعية مقدسة، قبل وجود الدولة وسلطتها. وقد وجدت الدولة والسلطة بهدف حماية تلك الحقوق والحريات، فلا يمكن – إذن – لسلطة الدولة أن تنال من تلك الحقوق والحريات. ومصلحة الفرد – في المذهب الفردي – مقدمة على مصلحة الجماعة، ومن مجموع المصالح الفردية تتشكل المصالح الجماعية. ويطرح المذهب الفردي مبدأ أساسياً يشكل الإطار العام لمصدر الحقوق والحريات، وهو مبدأ المساواة القانونية والاجتماعية بين الأفراد؛ إذ إن الأفراد ولدوا وهم متساوون في الحقوق الطبيعية. ويرجع بعض الباحثين في الفكر السياسي مبدأ المساواة إلى نظرية القانون الطبيعية التي يقول فيها «جون لوك» بأن الناس قد خلقوا بطريقة واحدة، ومن نوع واحد، ولهم القدرات الطبيعية نفسها، فيكونون حينها متساوين بلا تبعية أو خضوع. بينما يرجع آخرون هذا إلى نظرية العقد الاجتماعي التي بلورها «جان جاك روسو».

وتبلورت الحرية الفردية في الغرب في المذهب الليبرالي الذي ترتكز عليه الديمقراطيات التقليدية. ويقول هذا المذهب بأن التعارض الطبيعي بين استقلالية الفرد في سلوكه الخاص من جهة، وما يقتضيه السلوك الاجتماعي للمجتمع من جهة ثانية، لا يحسم على حساب حقوق الفرد؛ بل يمكن حله بواسطة التوازن بين السلوكين، وتنازل الأفراد عن بعض حقوقهم وحرياتهم لمصلحة إرادة الأكثرية. ويعد «جون ستيوارت مل» (1806 – 1873) من أهم منظري المذهب الليبرالي، وقد طرح أفكاره الأساسية في كتاب «الحرية»، الذي ناقش فيه موضوع العلاقة بين الحرية والسلطة، بما في ذلك سلطة المجتمع وعلاقتها بحرية الفرد، ودافع عن حرية الفرد وضرورة عدم المساس بها من أي سلطة، وينتهي إلى القول بأن «الغاية الوحيدة التي تسوّغ للناس، أفراداً وجماعات، التدخل في حرية الفعل لأي عضو بطريقة مشروعة ضد الفرد هو منعه من الإضرار بالآخرين أو إيذاء غيره. ويعتقد «مل» بأن حرية الفكر والمناقشة والرأي هي ضمانات عدم استبداد السلطة وطغيانها وفسادها.

والمذهب الفردي الذي يرتكز على أصالة الفرد، ويتجسد في الديمقراطيات التقليدية (الليبرالية)، يقابله المذهب الاجتماعي الذي يرتكز على أصالة المجتمع، ويتجسد في الفكر الاشتراكي والماركسي، وهو يعطي السلطة (الدولة) حق مصادرة حرية الأفراد وحقوقهم لمصلحة المجتمع؛ إذ إن المجتمع هو مبدأ السلطة وحركة الجماعة. ويعتقد مفكرو المذهب الاجتماعي بأن تنازل الأفراد عن حرياتهم وحقوقهم لمصلحة المجتمع هو الضمانة الوحيدة لحصول الأفراد على حرياتهم، ولكن ليس حصولاً ذاتياً ومباشراً؛ بل من خلال المجتمع، فالمجتمع هو صاحب هذه الحقوق والحريات، وهو الذي يمنحها. والأنظمة الاشتراكية تختزل المجتمع بالدولة وسلطتها، وتعطي نفسها الحق في التدخل في كل مجالات الحياة الفردية والاجتماعية، وصولاً إلى قوننتها وإخضاعها لسلطة الدولة المباشرة.

وبالنظر إلى تنوع الحقوق والحريات في الديمقراطيات التقليدية وتعددها وتباين أشكالها، فإن علماء القانون والسياسة قد يختلفون في تقسيمها وتبويبها. وهي تشتمل عموماً على المجالات الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والشخصية. ويمكن القول: إن إعلان حقوق الإنسان الذي أصدرته الثورة الفرنسية (1789) هو الذي بلور طبيعة هذه الحقوق والحريات من وجهة نظر الديمقراطية. ثم جاء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة (1948) ليوضح أنواعها وطبيعتها على نحو الدقة.

وقد سبق الإسلام جميع الأنظمة الحديثة، بما في ذلك الديمقراطية، بالتأسيس لحقوق الإنسان وحرياته، ثم حددت الشريعة الإسلامية هذه الحقوق وكفلت تطبيقها. إلا أن التجربة التاريخية لدول المسلمين التي أعقبت الخلافة الراشدة، اتجهت في مسار معاكس لا يختلف كثيراً عن تعامل الحكومات المطلقة والشمولية في قضايا الحقوق والحريات. فالحقوق والحريات الإنسانية تعدّها الشريعة الإسلامية منحة إلهية، أي إن جذورها تعود إلى الله تعالى، ومن هنا لا يحق لأي إنسان أن يسلب هذه المنحة من إنسان آخر، إلا في الإطار الذي حددته الشريعة الإسلامية نفسها. إذ يذكر دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية بأن «السيادة المطلقة على العالم وعلى الإنسان للَّه، وهو الذي يمنح الإنسان حق السيادة على مصيره الاجتماعي، ولا يحق لأحد سلب الإنسان هذا الحق الإلهي أو تسخيره في خدمة فرد أو فئة ما، والشعب يمارس هذا الحق الممنوح من الله بالطرق المبينة». وتتمثل التجسيدات الأساسية لهذه الحقوق في جملة مبادئ، أهمها: المساواة بين البشر أمام الله والشريعة وأمام بعضهم الآخر، كما في قول الرسول الأعظم: «كلكم لآدم وآدم من تراب»، دون أي تمييز في الجنس واللغة واللون، وكذلك قوله: «لا فضل لعربي على أعجمي، ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى». وعدم التقوى لا يلغي – من جانبه – الحقوق الأساسية الإنسانية.

6 – الحقوق والحريات السياسة:

تتلخص الحقوق والحريات السياسية في الأنظمة الديمقراطية في المشاركة السياسية للشعب؛ باعتباره المعني بحكم نفسه وتقرير مصيره السياسي، ويتجسد ذلك على أرض الواقع بحق المواطن – دون الأجنبي – في الترشيح لأي منصب من مناصب الدولة التي يقرّرها القانون، وفي التصويت في مختلف الانتخابات، كانتخاب رئيس الدولة أو رئيس السلطة التنفيذية وأعضاء المجالس النيابية، كالمجالس التشريعية والبلدية وغيرها، وكذلك التصويت في الاستفتاءات العامة، وحق تشكيل الأحزاب والجمعيات أو الحصول على عضويتها، وإصدار الصحف. أما الحريات السياسية فهي إفراز لهذه الحقوق وتتداخل فيها، ومنها حرية المعتقد والفكر والتعبير. وتؤكد الديمقراطيات من خلال هذه الحقوق والحريات دور الشعب، وكونه مصدر سيادة الدولة وشرعية الحكومة وشرعية المجالس النيابية. كما تؤكد أن مشاركة الشعب في التصويت والترشيح والاستفتاء وغيرها من الأدوار السياسية، هي الآليات التي تجعل من الشعب ذلك المصدر.

ويلتقي النظام الديمقراطي بالنظام السياسي الإسلامي في مجال تمتع الشعب بهذه الحقوق والحريات السياسية؛ إذ أن ضمان الحريات السياسية والاجتماعية في حدود القانون، هو من واجبات الدولة الإسلامية. ورغم أن دور الشعب في النظام الإسلامي، يختلف من الناحية النظرية عنه في النظام الديمقراطي، إلا أنه لا يختلف من ناحية الممارسات العملية. إذ إن هذا الدور – نظرياً – هو أساس شرعية النظام الديمقراطي، أما في النظام الإسلامي فإنه نوع من التكليف والتعهد على الشعب، لأنه يمارس دوره المكلف به من قبل الله سبحانه وتعالى؛ باعتباره المستخلف في الأرض، والأساس الواقعي الذي يقف عليه النظام الإسلامي، والقدرة التي تفعّل ولاية الحاكم الشرعي. وهذا الدور يلتقي عنده المؤمنون بنظام ولاية الفقيه ونظام الشورى، وكذلك غير المؤمنين بالنظام الإسلامي. واللافت أن الإمام الخميني كان دائماً يحتج برأي الشعب وإرادته على غير المؤمنين بالنظام الإسلامي، إذ يقول في إحدى خطبه: «الشعب هو الذي يحدد ما نقوم به. افترضوا أن الذي يريده الشعب يعتبر كارثة بالنسبة لكم!، فما العمل والشعب هو الذي يريد ذلك؟! تعالوا نحتكم إلى الشعب، ونجري استفتاءً عاماً نقول فيه: أيها الناس إن السادة [المعارضين] يقولون إن ولاية الفقيه كارثة فهل تؤيدونها أم لا؟ وعندئذ سترون كم هم الموافقون وكم هم الرافضون».

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment