مجلس أهل الخبرة لاختيار المرجع الأعلى

Last Updated: 2024/04/26By

مجلس أهل الخبرة لاختيار المرجع الأعلى

د. علي المؤمن

إنّ افتقاد النظام الاجتماعي الديني الشيعي إلى مجلس شورى مركزي لأهل الخبرة، ومؤسساتٍ للحكماء والخبراء والاختصاصيين، يقوم برسم الاستراتيجيات الموحدة، ويضبط حركة النظام، ويقدم المشورة لكل مكونات النظام وتفرعاته الدينية والاجتماعية والسياسية والمالية، عبر قواعد نظرية وأدوات إشراف عملية، هذا الافتقاد ظل في بعض ساحات العمل أحد أهم أسباب عدم وضوح المشروع العام وانعدام الاستراتيجية الموحدة والقرار القيادي الواحد، وانهيار الواقع الشيعي، ومصادرة كفاحه وإنجازاته من قبل الآخر الطائفي والآخر الإيديولوجي. وليست هذه الإشكالية وليدة اليوم؛ بل هي قديمة قِدم النظام الاجتماعي الديني الشيعي، وقد كانت في كثير من المفاصل التاريخية تتسبب في تجاذبات تعيق الوحدة المجتمعية. وكلما كان الواقع السياسي رخواً ومتحركاً؛ كان التفرق والشد المجتمعي يبرز بشكل أكبر.

ولا شك أنّ الأعراف في الحوزات العلمية تنفع ـ غالباً ـ في تنظيم موضوع تعدد المرجعيات ووحدة القرار العام، والمتمثل بتنازل باقي المراجع عن ولاياتهم وصلاحياتهم ووظائفهم في مجال الشأن العام لمصلحة المرجع المتصدّي، سواء تمثل ذلك في المرجعية العليا كما في النجف الأشرف، أو ولاية الفقيه في إيران، وهو الحاصل الآن حيال مرجعية السيد علي السيستاني وولاية السيد علي الخامنئي. ولكن هذا العرف لا يطبَّق دائماً، ولا يلتزم به بعض المراجع وعلماء الدين أحياناً، وهو ما يؤدي إلى زعزعة النظام العام وتشتت قراره. وهو ما ظلت تستغله الأنظمة العراقية السابقة، من أجل تمزيق الواقع الشيعي العراقي والإقليمي، كما لا تزال تستغله الأجهزة المخابراتية والسياسية للأنظمة الطائفية والاستعمارية المعادية. وبالتالي؛ سيكون لزاماً مأسسة المنظومة المرجعية للحيلولة دون حصول هذا اللون من الشقاق المجتمعي.

والعرف الحوزوي، وإن كان شفوياً وتقليدياً وينبغي تطويره، إلّا أنّه مفيد وضروري غالباً؛ لأنّه يمثل صمام الأمان في مواجهة حالات الاختراق والانفلات والمزاعم المستمرة بكل أشكالها وعناوينها، وهو الذي حفظ الكيانية الشيعية طوال ١٢٠٠ سنة. إذ لا توجد غير العرف الضاغط هذا أية سلطة أو مؤسسة أو جهة تمنع ادّعاء أيّ شخص لدرجة الاجتهاد أو المرجعية، ثم يخرج على وسائل الإعلام بصفة «المرجع الشيعي» ليشتم الحوزة والسيستاني وإيران. وبسبب عدم تطبيق المعايير العرفية أحياناً، ووجود مخططات معادية للمرجعية والحوزة أحياناً أُخر؛ فقد كثر مدّعو الاجتهاد في العراق بعد سقوط النظام البعثي في العام ٢٠٠٣.

إنّ دوافع ادّعاء الاجتهاد والمرجعية تكون ـ أحياناً ـ ذاتية، وتتمثل في الغرور، والطموح غير المشروع في رکوب الموجة للتعيّش عن هذا الطريق الحافل بالمال والمقام. ثم يأتي التدخل الخارجي ليحوِّل هذا الغرور والوهم والطموح إلى فتنة داخلية. ولا يمكن لليد الخارجية أن تتدخل لولا وجود أرضية داخلية. ولو كان هناك ورع وتقوى وعدالة تكبح جماح الغرور وطغيان الذات لدى بعض المدّعين؛ لما كانت هناك حاجة لضوابط ضاغطة لتحديد آليات فرز المجتهد والفقيه والمرجع والأعلم والأكفأ؛ لأنّ الميدان الديني المحض ينبغي أن ينطوي على كوابح ذاتية من الورع والتقوى والعدالة، وليس كالميدان السياسي والاقتصادي.

ومن هذه الآليات التي يمكن استحداثها؛ مؤسسة مرجعية استشارية عليا تحت اسم «مجلس الحكماء» أو «مجلس أهل الخبرة» أو «مجلس أهل الحل والعقد» أو «مجلس كبار العلماء»، وهم المجتهدون العدول المقبولون شعبياً، والمتفق على اجتهادهم وعدالتهم وفق معايير مؤسسية يتم تثبيتها من لجان تخصصية، ويقرها المرجع الأعلى والمراجع الآخرون؛ لتكون حجة على الجميع. وتناط بهذا المجلس خمس مهام:

1ـ اختيار المراجع الحائزين على شروط التقليد، وطرحهم للأُمّة؛ لكي يكون تقليدهم مبرئاً للذمة لمن يريد تقليد أحدهم.

2ـ اختيار المرجع الأعلى الجديد من بين المراجع الحائزين على شروط التقليد، بعد رحيل المرجع الأعلى السابق، أو فقدانه أحد شروط التقليد، ولا سيما ما يرتبط بالأعلمية أو العدالة أو كفاءة إدارة الشأن العام.

3ـ مراقبة المراجع، ولا سيما المرجع الأعلى، بخصوص محافظتهم على شروط مرجعية التقليد ومرجعية التصدّي.

4ـ تقديم المشورة للمرجع الأعلى في مختلف شؤون المرجعية، لاسيما ما يرتبط بشؤون الحوزة والشأن العلمي والشأن المالي والشأن العام وغيرها.

5ـ التخطيط ورسم الاستراتيجيات للنظام الاجتماعي الديني الشيعي، ومختلف فروعه ومكوناته، بالتعاون مع لجان من الاختصاصيين والخبراء والأكاديميين من غير علماء الدين.

ومن أولويات عمل مجلس أهل الخبرة وضع ضوابط دقيقة في مجال الكشف عن ملكات الاجتهاد والعدالة والأعلمية والكفاءة والمقبولية العامة، ثم القيام بتطبيقها. أي أنّ دور المجلس كاشف أولاً، وترجيحي ثانياً. وقيام مجلس أهل الخبرة بترشيح مراجع التقليد واختيار المرجع الأعلى المتصدّي للشأن العام هو ـ أساساً ـ واجب أهل الخبرة كما توضحها مسائل التقليد وسياقات معرفة المكلف بمن يرجع إليه بالتقليد. وأهل الخبرة يرجحون ويوجهون الاختيار بحسب قناعاتهم، ولكن وفق معايير ثابتة مقننة. والهدف هو توحيد الموقف الشيعي العام وعدم السماح للخطوط والجماعات الخاصة بالتمرد على هذا الموقف وتمزيق الواقع الشيعي.

وفي الوقت نفسه يبقى المجلس يراقب أداء المرجعيات، ولا سيما المرجع الأعلى، من ناحية القدرة المستمرة على الاستنباط، والعدالة والتقوى، والكفاءة القيادية، وكذلك عمل باقي مكونات وتفرعات النظام الاجتماعي الشيعي. ومن المهم الاستعانة بخبراء من غير علماء الدين في إطار لجان ومراكز دراسات تخصصية تابعة لمجلس أهل الخبرة.

وقد يتصور بعض المهتمين أنّ فقدان أحد شروط المرجعية والولاية يرتبط بتقدم المرجع في السن. والحال أنّ التقدم في السن لا يؤدي ـ غالباً ـ إلى عدم الأهلية وعدم القدرة على تأدية الواجبات المرجعية؛ إلّا إذا اقترن بفقدان بعض الحواس التي تعيق أداء الوظيفة، كفقدان الذاكرة أو فقدان السمع والخرس أو القدرة على الحركة مثلاً. وقد يحدث فقدان أحد الشروط في سن مبكر، ومن بينها شرطي العدالة والكفاءة مثلاً، وربما يبقى المرجع محتفظاً بكل الشـروط حتى لحظة وفاته.

وبالتالي؛ فإنّ ملاك الولاية الممنوحة للفقيه المتصدّي (المرجع الأعلى)، والتي يكشف عنها مجلس أهل الخبرة، ويرجِّح من يمتلكها بدرجات أكبر على غيره؛ هي أربعة شروط أساسية لا تنفصل عن بعضها:

1 ـ الاجتهاد المطلق.

2 ـ العدالة والتقوى والورع.

3 ـ الكفاءة القيادية والوعي بالشأن العام.

4 ـ المقبولية العامة.

وحينها يتم ضمان عدم حصول تعارض وتزاحم بين الفقهاء، واقتصار فعلية ولاية الحسبة وحفظ النظام على المرجع الأعلى المتصدّي للشأن العام، وضبط حركة المال الشرعي، وبلورة القرارات المصيرية ذات العلاقة بإدارة الحوزة العلمية ومؤسساتها، وذات العلاقة بالشأن العام وبالدولة. وحينها كذلك يكون صدور الحكم الشرعي ذو العلاقة بالشأن العام منحصراً بالمرجع الأعلى أو الولي الفقيه. والمقصود هنا الحكم الثانوي والولائي في الشأن العام، وليس الفتوى.

إنّ الأفكار التي تدور حول المرجعية، سواء المرجعية الرشيدة، أو المرجعية الموضوعية، أو المرجعية المؤسسة؛ ينبغي بلورتها في صيغة معيّنة تستبطن في نضجها تجربة المرجعية على طول التاريخ، وتراعي الواقع بكل تفاصيله. وهذا الجانب هو من القضايا الأساسية التي تواجه النظام الاجتماعي الديني الشيعي في الوقت الحاضر. فتلك الأفكار والنظريات لا يمكن جرّها بتفاصيلها إلى واقع التطبيق؛ لأنّ الكثير من المهام الموكلة ـ في هذه النظريات ـ إلى المرجعية هي مهام المرجع الحاكم أو المرجع المتصدّي، باستثناء المسائل التخصصية المرتبطة ـ مثلاً ـ بمناهج الدراسة في الحوزة العلمية.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment