مثالية نظرية حزب الدعوة الإسلامية

Last Updated: 2024/04/26By

مثالية نظرية حزب الدعوة الإسلامية

د. علي المؤمن

ظلت الأسئلة والإشكالات الفكرية تلاحق حزب الدعوة منذ تأسيسه؛ ولاسيما تلك التي تقارن بين نوعية النظرية وحجم التطبيق. ويبدو أن كثيراً من هذه الأسئلة والإشكالات مقبولة؛ بالقياس إلى طبيعة نظرية «الدعوة» وعقائديتها وغاياتها وأهدافها وأفقها العالمي؛ حسبما أثبته مؤسسو «الدعوة» ومنظروها في نهاية الخمسينات وعقد الستينات؛ وهي نظرية مثالية في كثير من ركائزها.

ولعل هذا الجنوح المثالي يعود إلى عاملين:

العامل الأول: طبيعة أعمار وحجم خبرات الشباب العشريني المؤسس والرائد والمنظر؛ على اعتبار أن 90 بالمائة من مؤسسي حزب الدعوة ورواده كانوا شباباً في العشرينات من عمرهم، وكانوا يعيشون اندفاعاً حركياً كبيراً، وحماساً دينياً بحجم التاريخ والجغرافيا.

العامل الثاني: تأثر هؤلاء الشباب الواعي المتحمس بضجيج الآفاق الايديولوجية للأحزاب التغييرية الانقلابية الشمولية العابرة للحدود؛ كالشيوعية والناصرية والبعثية والإخوانية والتحريرية؛ وهي عقائد تهدف إلى تغيير الأمة والعالم وإلى صياغتهما من جديد.

وحيال ذلك لم يكن شباب «الدعوة» الأوائل يستكثرون على أنفسهم التفكير بمنهجية تغيير الأمة والعالم؛ أسوة بما كان يصرخ به “ماركس” و”لينين” و”تروتسكي” و”ماوتسي تونغ” وحسن البنا ومحمد تقي النبهاني وميشيل عفلق وجمال عبد الناصر وسيد قطب والمودودي وغيرهم. وكان الدعاة يعيشون دائماً وقع خطوات هذه النماذج الحسية الواقعية المعاصرة؛ عبر الكتب والنشرات، أو عبر التحسس المباشر. صحيح أن النظرية الإسلامية هي نظرية تغييرية شمولية عالمية؛ إلّا أن التأثيرات الشعورية واللاشعورية الحسية اليومية المباشرة على الدعاة؛ كانت الأقوى والأكبر. وأضيف على هذا التأثر بعد العام 1979 تأثرٌ فكري وسياسي ومنهجي وتغييري وانقلابي أكثر قرباً من ايديولوجيا «الدعوة»؛ ولكنه إسلامي شيعي هذه المرة؛ تمثل بثورة الإمام الخميني في إيران.

هكذا كانت مرامي التغيير في أدبيات «الدعوة»؛ فقد كان المؤسسون والرواد يقصدون بالدعوة الانقلابية – مثلاً – تغيير المجتمع وتغيير الأمة تغييراً جذرياً يستوعب كل مجالات الحياة؛ وصولاً إلى تغيير العالم وإخضاعه للشريعة الإسلامية. ولم تكن أدبيات «الدعوة» تقتنع بالعمل على تغيير شيعة العراق أو الوطن العراقي فقط؛ بل تغيير كل الأمة الإسلامية؛ بعد أن رفض الدعاة – ابتداءً – المذهبية؛ لأنها تحجِّم «الدعوة» في حدود الـ (200) مليون شيعي آنذاك؛ فلماذا تستغني عن الـ (800) مليون سني حينها؟! وبذلك رفض حزب الدعوة أن يكون جماعة في الأمة أو قيادة في الأمة على الأقل؛ بل ليكون قيادةً للأمة بشيعتها وسنتها؛ بعربها وعجمها؛ وهو ثوب لم تكن المرجعية الدينية العليا في النجف أو قم تحلم أن تلبسه يوماً.

وإذا تمت محاسبة «الدعوة» في مضمار التطبيق قياساً إلى نظريتها ورسالتها وأهدافها ورؤيتها لنفسها؛ لصدقت معظم المؤاخذات عليها والانتقادات، ولكانت كل الإشكالات واردة؛ لأن رواد حزب الدعوة حمِّلوا أنفسهم أعباء الأنبياء وهموم الأوصياء، ومسؤولية بناء الأمة من جديد؛ أي أنهم أسسوا لنظرية كبيرة واسعة الأفق كثيراً، ولا يستطيع هو ولا عشرات الأحزاب الإسلامية حملها؛ فضلاً عن الشيعية منها؛ لأن أزمات الأمة عميقة وكبيرة؛ تاريخية وجغرافية وبنيوية، ومن المستحيل تفكيكها وتصفيرها من أي حزب ودولة؛ مهما بلغا من القوة الفكرية والمادية والاتساع الجغرافي. أما إذا كان حجم مسؤولية حزب الدعوة تجاه أزمات الأمة ومشاكلها بالقياس إلى إمكانياته الواقعية؛ وليس بالقياس إلى تنظيراته وأهدافه؛ فإنه لا يتحمل مسؤولية معظم تلك الأوزار الموروثة والإخفاقات المتراكمة في الأمة، وكل أعباء تغيير المجتمع، وقلب أوضاع الأمة ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. وفي هذا المجال يعلم رواد «الدعوة» أن هوية حزب الدعوة تتعارض وجودياً مع أربع حقائق محلية إقليمية ودولية:

  • إن حزب الدعوة جماعة تنتمي إلى الاجتماع الديني النجفي؛ بكل تعقيداته. ولكنها في السلوك الحركي والفكر السياسي غير منسجمة – غالباً – مع هذا الاجتماع؛ لأنه نظام اجتماعي ديني تقليدي لا يؤمن – عادة – بالعمل الحزبي ولا يمارس العمل السياسي اليومي؛ بما في ذلك الجزء الثوري المسيس من هذا النظام.
  • إن حزب الدعوة هو جماعة تغييرية ايديولوجية عابرة للحدود؛ تعمل في دولٍ لها قوانينها الدستورية وتعريفاتها في القانون الدولي، وفي ظل أنظمة طائفية قمعية لا تسمح بأي تغيير فكري أو سياسي؛ فكيف إذا كان هذا التغيير صادراً من جماعة إسلامية شيعية عابرة للحدود؟!
  • إن حزب الدعوة هو جماعة دينية سياسية شيعية؛ تعمل في بيئة اجتماعية سياسية سنية، ونظام سياسي طائفي، ومحيط إقليمي جغرافي قومي سني؛ أي بحر من الأكثرية السنية العربية وغير العربية في العالم الإسلامي؛ والتي لا تتفاعل – غالباً – مع حركة عقائدية سياسية شيعية.
  • إن حزب الدعوة جماعة معادية للاستعمار، وتعمل على تأسيس منظومة سياسية وفكرية وحقوقية مستقلة؛ بينما تتحكم في الإقليم العربي والإسلامي منظومة استعمارية محلية وإقليمية ودولية؛ منحازة إلى إحدى الدول العظمى؛ بريطانيا أو الاتحاد السوفيتي أو الولايات المتحدة الأمريكية.

وبالتالي؛ فإن مساحة عمل «الدعوة» الواقعية هم شيعة العراق غير المقتنعين بفاعلية المنظومة الشيعية التقليدية. أي أنها حركة محاصرة بجدران من (الكونكريت) التاريخي والديمغرافي. في حين كانت الكوادر القيادية الرائدة في حزب الدعوة مقتنعة بأن حضور «الدعوة» في الأمة لا يقل – نسبياً – عن حضور جماعة الإخوان المسلمين وحزب التحرير. والحال أن حزب الدعوة يختلف عن الإخوان والتحرير اختلافاً اجتماعياً سياسياً جذرياً؛ إذ تنتمي جماعتا الإخوان والتحرير إلى الاجتماع الديني السني الذي تنتمي إليه جميع أنظمة البلدان الإسلامية – عدا إيران -. كما تنتميان إلى الأغلبية المذهبية السنية في العالم الإسلامي، ولا مشكلة طائفية لديهما مع أنظمة الحكم. وهو عنصر بنيوي يفتقد إليه حزب الدعوة، ويقف مانعاً مستحيلاً أمام قدرته على تحقيق غاياته وأهدافه النهائية. وكان الدعاة يختلفون عن الشيوعيين أيضاً؛ لأن الشيوعيين كانوا يهيمنون ديمغرافياً على ثلث سكان الكرة الأرضية وعلى أنظمة ربع دول العالم. بينما لم تكن هناك أية دولة في العالم ترضى بوجود جماعة على أراضيها تحمل أفكار حزب الدعوة وأهدافه؛ فضلاً عن تبنيه ودعمه. حتى إيران الشيعية؛ فقد كان نظامها السياسي – حتى العام 1979 علماني بامتياز ويحارب الجماعات الإسلامية السياسية. ولكن بالرغم من كل ذلك؛ فقد نظّر الدعاة العشرينيين لهذا الحجم المتضخم من رسالة حزبهم وغاياته وأهدافه ومهامه وهمومه.

ولعل المثالية في التنظير؛ تسببت خلال عقود من مسيرة حزب الدعوة؛ في تبلور ثنائيات جدلية في فكره، أو بين فكره وواقعه؛ لاتزال عالقة؛ وتبحث عن أجوبة نهائية؛ وإن كان الواقع قد حسم بعضها؛ ولاسيما الثنائية المذهبية والثنائية الجغرافية؛ فضلاً عن أن الظروف الزمانية والمكانية التي مر بها الحزب؛ كانت تؤدي أحياناً إلى التوازن بين طرفي بعض الثنائيات، أو غلبة إحداهما على الأخرى. ولكن بشكل عام تمثل هذه الثنائيات حالات من الفصام بين النظرية والتطبيق أو بين التصور الفكري الإيماني والفعل الميداني. وأهم هذه الثنائيات:

1 – العالمية – المحلية: فقد بنى حزب الدعوة الإسلامية نظريته على كونه تنظيماً عالمياً ويحمل فكراً إسلامياً عالمياً، وله قيادة عالمية (القيادة العامة) وقيادات إقليمية وتنظيمات محلية في كثير من البلدان. ولكنه – في الواقع التطبيقي – تحوّل منذ مطلع التسعينات إلى تنظيم عراقي وطني؛ بفعل الظروف الموضوعية الضاغطة؛ وإن ظل محتفظاً بعلاقات تنسيقية مع رجالاته وتنظيماته السابقة غير العراقية. وتكرست محليته بعد العام 2003. وهنا تبرز الإشكالية في هذه الثنائية؛ لأن الحزب لم يلغ ركيزة العالمية في نظريته وفكره؛ ولكنه طبّقها على أرض الواقع وفي نظامه الداخلي. أي أنه تأسس ونشأ وانتشر وتحرك على وفق ركيزة العالمية، ولا يزال يتبناها نظرياً؛ ولكنه استحال إلى شكل تنظيمي آخر في البعد السياسي الواقعي والثقافة السياسية العامة.

2 – الانفتاح المذهبي – المذهبية: سارت نظرية حزب الدعوة على كونها نظرية وحدوية عابرة للمذاهب، وطبقها بشكل محدود؛ حين استقطب عدداً من الشخصيات السنية العراقية وغير العراقية. وكان ذلك سبباً في انشقاق بعض الكوادر الشيعية عنه في الستينات؛ رفضاً لهذه النظرية. ولكن حزب الدعوة بمرور الزمن؛ وبفعل صدمات الواقع ورفض القيادات الفقهية بعد العام 1981؛ استحال حزباً شيعياً متمذهباً في جميع خصوصياته الدينية والسياسية والاجتماعية.

3 – ولاية الفقيه – الشورى: قام الفكر السياسي لحزب الدعوة على أساس الشورى في قيادة الحزب وفي قيادة الأمة؛ ولكن ظروف الزمان والمكان دفعته لتبني مبدأ ولاية الفقيه ومصاديقها؛ بدءاً بالإمام الخميني. وكانت نظريته الولائية مستقاة من منهجية السيد محمد باقر الصدر والسيد كاظم الحائري. ومكمن الإشكالية هو أن الحزب لم يلغ مبدأ ولاية الفقيه في فكره السياسي؛ ولكنه في الواقع تنقل بين مرجعيات أخرى؛ وصولاً إلى مرجعية النجف الأشرف التي عادت كيانيتها بعد العام 2003 إلى مستوى القدرة على توجيه الواقع العراقي.

4 – النخبوية – الجماهيرية: بالنظر لطبيعة أهداف حزب الدعوة المرحلية في بناء ما يسميه بـ«الكتلة المؤمنة الصالحة القوية» التي تعمل على تغيير الواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي؛ وبمعنى آخر «النخبة الدينية والعلمية والثقافية والسياسية»؛ فإنه ظل يقتصر على ضم الطبقات المتعلمة التي لا يقل مستواها عن التعليم الثانوي. ولكنه بعد العام 1979 خلال بدء المواجهة مع النظام؛ ثم بعد سقوط النظام في العام 2003؛ أحس بضرورة الانفتاح تنظيمياً على الجماهير بكل فئاتهم. ولكن هذا الإحساس المضغوط بالواقع ظلّ يصطدم بالنظرية.

5 – الانغلاق التنظيمي – الانفتاح التنظيمي: بدء حزب الدعوة تنظيماً سرياً محكم الإغلاق؛ نتيجة نظريته في المرحلية وفي بناء التنظيم وانتشاره قبل الإعلان عنه، وكذا ظروف القمع التي كانت تمارسها الأنظمة المتعاقبة؛ ولا سيما نظام البعث؛ والذي حوّله منذ أواخر الستينات وأوائل السبعينات إلى تنظيم حديدي شديد السرية والانغلاق التنظيمي. ولكن الإشكال يكمن في احتفاظ حزب الدعوة بمبدأ السرية التنظيمية بعد العام 2003؛ على الرغم من انفتاحه في البعد السياسي واستلامه السلطة؛ ولكن مفاصل التنظيم أصيبت بحالة من المرونة المبالغ بها، والانكشاف والتشتت في كثير من مفاصل العمل.

6 – الدعوة – السياسة: قام حزب الدعوة على ركيزة عقدية رصينة؛ حددت هويته كحزب ديني تبليغي دَعَوي؛ يتعاطى العمل السياسي باعتباره وسيلة فرعية تقود إلى وسيلة رئيسة؛ هي الدولة الإسلامية، ثم إلى الغاية النهائية المتمثلة بتطبيق الشريعة الإسلامية. وبرزت الإشكالية هنا بعد غلبة الممارسة السياسية المدنية على عمل الحزب في مرحلة الحكم بعد العام 2003. حتى أمكن القول إنه يتوجه للتحول من حزب ديني إلى حزب متدينين؛ أي أن مدلول الداعية و«الدعوة» في التصنيف العقدي؛ أصبح بحاجة إلى إعادة تنظير، وإيجاد مدلولات سياسية جديدة لهما؛ ليكون عضو حزب الدعوة عبارة عن سياسي متدين يعمل على استلام السلطة؛ بالطرق السياسية المدنية.

7 – العلماء – المثقفون: بالنظر لطبيعة الغايات والأهداف التي وضعها حزب الدعوة لنفسه؛ فقد كان من الطبيعي أن يؤسسه علماء الدين ويقوده علماء الدين. وحتى في مرحلة الثنائي المثقف عبد الصاحب دخيل ومحمد هادي السبيتي؛ فقد كان لعلماء الدين سطوتهم على توجهات الحزب. ولكن برزت هذه الجدلية بوضوح بعد تنحي السيد مرتضى العسكري عن القيادة في حدود العام 1963؛ فقد طالب أعضاء الحزب في لجنة النجف – وهم علماء دين غالباً – بأن يكون عدد علماء الدين في القيادة أكثر من غير المعممين؛ لأن عبد الصاحب دخيل ومحمد هادي السبيتي احتفظا بموقعيهما في القيادة، وأضافا إليها الشيخ عارف البصري وهو عالم دين؛ الذي التحق بالقيادة فوراً، كما استدعيا الشيخ عبد الهادي الفضلي لعضوية القيادة؛ ولكنه رفض أن تكون القيادة مناصفة بين علماء الدين والمثقفين؛ ليكون عدد علماء الدين ثلاثة وليس اثنين فقط. وهو ما قوبل برفض السبيتي ودخيل من جهة، واستقالة الشيخ عبد الهادي الفضلي والشيخ كاظم الحلفي وآخرين من علماء الدين من الحزب. ولكن تغير هذا المنحى بعد العام 1980، حين هيمن الفقهاء وعلماء الدين على الحزب وقيادته. ولم يكتف علماء الدين بالإمساك بالمجلس الفقهي؛ بل كان لهم حضورهم العددي والنوعي في جميع القيادات (العامة والتنفيذية والإقليمية). ولكن بعد الخروج التدريجي للفقهاء: السيد مرتضى العسكري، السيد محمد حسين فضل الله، الشيخ محمد مهدي شمس الدين، السيد كاظم الحائري، الشيخ محمد علي التسخيري من القيادة في الثمانينات، ثم الشيخ محمد مهدي الآصفي في العام 1999، ثم اغتيال الشيخ مهدي العطار في العام 2004، ثم وفاة علماء دين آخرين أو ابتعادهم عن العمل السياسي والتنظيمي؛ فإن إشكالية ضعف وجود الفقهاء وعلماء الدين في القيادة وفي مفاصل الحزب باتت ملحوظة؛ ولاسيما بعد العام 2003؛ فضلاً عن عدم وجود مرجعية فقهية داخل الحزب تراقب عمله من الناحية الشرعية حتى أصبحت قيادة الحزب لا تضم غالباً أكثر من ثلاثة من علماء الدين من مجموع 11 إلى 15 قيادياً.

والحقيقة أن النظام الداخلي الذي أقره مؤتمر حزب الدعوة في بغداد في العام 2007؛ لم يحسم هذه الثنائيات السبع؛ بل كرّسها؛ الأمر الذي يقود المهتمين إلى القول بأن حل هذه الإشكاليات يكمن – ابتداء – في إعادة كتابة النظام الداخلي؛ بما ينسجم وثوابت نظرية «الدعوة».

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment