متى تسقط الامبراطورية الاميركية؟

Last Updated: 2024/06/10By

بعد تفكك الاتحاد السوفيتي:

متى تسقط الإمبراطورية الأميركية؟

علي المؤمن

(مجلة الوحدة، 1995)

لم يعد موضوع انهيار الولايات المتحدة الأميركية التدريجي، مجرد بحث نظري في إطار قوانين انهيار الحضارات والنظريات التاريخية، أو معبّر عن اتجاهات ذاتية (ردود فعل سياسية أو انفعالية إعلامية أو طموحات وأمانٍ)، بل أصبح أمراً واقعاً، تؤيده الشواهد والحقائق الموضوعية وسنن التاريخ. وقبل تلمّس هذه الحقائق، نعرض ثلاث شهادات لمتخصصين من داخل أميركا:

1 ـ “بول كندي”([1])، أستاذ التأريخ في جامعة بيل، في كتابه «صعود وأفول القوى العظمى» الذي صدر عام 1990 م يرسم سيناريو سقوط الإمبراطورية الأميركية في ضوء قوانين التاريخ. ومما ذكره في هذا الكتاب: «إن عدم التوازن بين سرعة التقدم الاقتصادي وسرعة التقدم التكنولوجي يؤدي إلى خلل خطير» ([2]).

2 ـ “روبرت تيوبالد”، متخصص في قضايا المستقبل، يقول: «لدينا نظام لا يعمل، وتعطله عن العمل أخطر مما نتصور. والدليل هو إنفاقنا مئتي بليون دولار لإنقاذ صناعة الادخار والقروض، الأمر الذي يقيم الدليل على فشل جهازنا التنظيمي وانهيار الاستقامة السياسية في نظامنا السياسي… وحتى ديمقراطيتنا القائمة على الانتخابات الحرة ـ والتي نعتز بها ـ فقدت فعاليتها لحل المشكلات… أما مشكلة البلاد الرأسمالية فتتمثل في الجنح وسوء الإدارة، حيث أصبح تكوين الثروة هو المعيار الأكبر في حياتنا» ([3]).

3 ـ “نورمن بيرن باوم”، أستاذ العلوم الاجتماعية في جامعة واشنطن، يقول في مجلة بروفيل (النمساوية): «إن الفساد السياسي، وحاكمية نظام اقتصاد السوق، والنظام الاجتماعي الأميركي اللاأخلاقي، ستغرق أميركا في وحل الزوال». ويذكر أيضاً نتيجة أخرى بقوله: «النظام السياسي لأميركا في طريقه إلى الزوال» ([4]).

فالتحديات التي تعجز أميركا (وستبقى عاجزة) عن التغلب عليها ومواجهتها بنجاح، تتمثل في ثلاث مجموعات من التحديات:

المجموعة الأولى: انهيارها الداخلي (اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً).

المجموعة الثانية: فشل سياستها الخارجية، واختفاء الكثير من المعادلات السياسية الدولية التي كانت تتعامل بها.

المجموعة الثالثة: صعود القوى الاقتصادية المنافسة (اليابان وأوروبا الموحدة).

أما القوة الأميركية الحالية المتمثلة في الجانبين العسكري والإعلامي، اللذين فرضا أميركا كقطب وحيد في هذه المرحلة، فإن ألوانهما ستكون باهتة مستقبلاً، بعد زوال المعادلة العسكرية (أو ضعفها التدريجي) واستشراء الانهيار الداخلي الأميركي. وقد تعرّضنا في الفقرات السابقة إلى المجموعة الثالثة من التحديات، أي صعود القوى المنافسة لأميركا. ونتطرق هنا إلى التحديات الأخرى:

1 ـ التحدي الاجتماعي:

الانهيار الاجتماعي في الولايات المتحدة بلغت أرقامه في السنوات الأخيرة معدلات رهيبة وقياسية على المستوى العالمي، وهي تسير بشكل تصاعدي، بشكل لا يمكن معه مقارنة هذه الأرقام حتى بأكثر الدول عراقة في هذا المجال. فحالات القتل، والانتحار، والاغتصاب، والسرقات، وحوادث العنف الأخرى تحدث بالآلاف يومياً. ويكفي أن نشير إلى أن عام 1992م شهد «19.000» حالة قتل، وهذا الرقم ـ بالنسبة إلى عدد سكان أميركا ـ يعادل خمسة أضعاف ما يحدث في أوربا الغربية. أضف إلى ذلك أحداث العنف الكبرى التي شهدتها أميركا في السنوات الأخيرة، كأحداث لوس أنجلس في عام 1992 ـ مثلاً ـ أما عدد السجناء فقد بلغ ـ طبق إحصاءات عام 1990 ـ حوالي مليون سجين، معظمهم من الأقليات العرقية والطبقات المسحوقة. علماً بأن نسبة الطبقات المسحوقة إلى عدد السكان هي نسبة مرتفعة جداً حيث تقول إحصاءات عام 1992 بأن 35 مليون أميركي يعيشون تحت مستوى خط الفقر.

2 ـ التحدي الاقتصادي:

يقول “ستانلي هوفمان”: إنَّ مستوى الادخار المنخفض، والاستثمار الضئيل في المجالات المهمة، والاهتمام بالأعمال التي تدر أرباحاً في مدة قصيرة، ونظام الثقافة التكنولوجية الفقير، ومقاومة المواطنين لسياسة الضرائب، كلها تعد من مؤشرات الانهيار الاقتصادي في أميركا.

وحين نحيل هذه الحقائق إلى لغة الأرقام، فإن الحصيلة ستكون على النحو التالي:

أ ـ انخفضت نسبة الناتج القومي الأميركي إلى إجمالي الناتج العالمي من 27% في عام 1950 إلى 18% عام 1984، ثم 10% عام 1990.

ب ـ تحولت أميركا من دولة دائنة إلى أكبر دولة مقروضة، ابتداءً من عام 1985، والجدول التالي يوضح معدلات ديون أميركا الخارجية والإجمالية:

السنة الديون الخارجية إجمالي الديون
  (مليار دولار) (مليار دولار)
1980 ـ 914
1985 263.3 1.290
1986 500 ـ
1988 ـ ـ
1990 ـ 8.400
1991 ـ 40.000
2000 ـ 130.000

 

وبالطبع فإن هذا الحجم الهائل من الديون تترتب عليه فوائد وأرباح سنوية، بلغت عام 1991 حوالي «3000» مليار دولار.

جـ ـ العجز التجاري مع شركاء أميركا التجاريين، والذي بلغ عام 1987 أكثر من «60» مليار دولار لصالح اليابان، وما يقرب من «20» مليار لصالح تايوان، و«17» مليار دولار لصالح المانيا الغربية.

وأرقام الفقرات الثلاث السابقة تؤكد حقيقة تحول الاقتصاد الأميركي إلى اقتصاد استهلاكي واستيرادي بالدرجة الأولى. وقد شجع ذلك المستثمرون الأجانب (وخاصة اليابانيين) على شراء الكثير من الشركات والبنوك الأميركية الكبرى، الأمر الذي رفع ـ من جانبه ت العجز في السيولة من «31» مليار دولار عام 1980 إلى «170» مليار دولار عام 1987.

د ـ ارتفاع أرقام العجز في الميزانية الأميركية، حيث قفزت من «60» مليار دولار عام 1980 إلى أكثر من «200» مليار عام 1985. ويرجع الخبراء أهم أسباب هذا العجز إلى الميزانية العسكرية الضخمة، التي بلغت عام 1992 أكثر من «300» مليار دولار. في حين لا تفكر إدارة البيت الأبيض في خفض ميزانيتها العسكرية، حتى عام 2000 ـ على أقل تقدير ـ، لأن التفوق العسكري هو العامل الوحيد الذي يمكنه ضمان قطبيتها. رغم أن الكثير من أصحاب الاقتصاد في أميركا يمارسون الضغط على البيت الأبيض لخفض إنفاقه العسكري، في محاولة لوقف الانهيار الاقتصادي وبناء اقتصاد قوي، في مواجهة الاقتصاديات المتفوقة المنافسة. إلا أن الاستراتيجيين الحكوميين الأميركيين يسعون للإفلات من هذه الضغوط، لأن المحافظة على النفوذ العسكري الأميركي في العالم هو الذي يشغلهم أكثر من أي أمر آخر.

3 ـ السياسة الخارجية:

يمكن تقسيم أهم محاور حركة السياسة الخارجية الأميركية خلال السنوات الأخيرة إلى ثلاثة محاور:

الأول: أوربا.

الثاني: الشرق الأوسط.

الثالث: أميركا اللاتينية.

على مستوى أوربا، تكاد الولايات المتحدة تصل إلى طريق مسدود، فمنذ نهاية الحرب العالمية الأولى وحتى انهيار الكتلة الاشتراكية، كانت أميركا تلوّح بورقة الانسحاب من أوربا الغربية، وتركها وحيدة في مواجهة «الوحش الشيوعي»([5])، بهدف تعميق ارتباط الأوروبيين بها وابتزازهم. وكان التهويل الأميركي لحجم هذا الوحش وشكله وقوته ضرورياً لإكمال مخطط الكارتلات الاقتصادية والسياسية التي تقف وراء إدارة البيت الأبيض. الأمر الذي يؤمّن مصالح أميركا الاقتصادية والسياسية في أوربا الغربية.

ولكن انهيار الاتحاد السوفيتي وكتلته الاشتراكية، أفقد أميركا هذه الورقة الرابحة. وفضلاً عن سقوط الرهان العسكري والثقافي الأميركي في أوربا، فإن الخطوات التي قامت بها أوربا الغربية على مستوى استقلالها الأمني ووحدتها الاقتصادية وتكامل مواقفها السياسية، سيجعل لأميركا ثانوية، بل وستتعامل معها كمنافس اقتصادي.

يقول الاقتصادي الأميركي جون غالبريت: «منذ أربعين سنة وأفكارنا وتصرفاتنا العامة تسودها مواقف الحرب الباردة: الشيوعية كتهديد عنيف للرأسمالية والديمقراطية الليبرالية، والاتحاد السوفيتي كتهديد عسكري مائل للولايات المتحدة، والتوسعية السوفيتية كحقيقة ملموسة في بقية العالم. كانت هذه هي تدليلات بيروقراطيتنا في القوات المسلحة وفي المخابرات وفي السلك الدبلوماسي. وكانت هذه هي مبررات المبالغ الهائلة التي توزع بسخاء على منشآت السلاح»([6]).

ولكن رغم خسارة أميركا الكثير من مواقعها العسكرية والسياسية والاقتصادية في أوربا، إلا أن مجرد انسحابها العسكري من أراضي أوربا الغربية سينعش جزءاً من اقتصادها. فواشنطن (حتى عام 1991) كانت تخصص ما يقرب من «150» مليار دولار سنوياً كميزانية للمساهمة في الدفاع عن أوربا. وخفض هذه الميزانية ـ وربما حذفها مستقبلاً ـ يساهم إلى حد ما في خفض التضخم الاقتصادي والعجز في الميزانية الأميركية.

وفي المقابل، ستعمد أميركا إلى التركيز على مواقعها في العالم الثالث، الذي سيكون ساحة الصراع الأساس في المستقبل، وضمان هيمنتها ومصالحها فيه، ولو بالقوة العسكرية، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط. حيث يقول الرئيس الأميركي السابق بوش في تقريره عن الأمن القومي الأميركي في آذار/ مارس 1990: «إن المتطلبات الأكبر ترجيحاً لاستخدام قواتنا المسلحة قد لا تشمل الاتحاد السوفيتي وقد تكون العالم الثالث»([7]). واستخدم القوة العسكرية هو دليل واضح على إخفاق السياسة الأميركية حيال العالم الثالث أيضاً. ففي المنطقة الإسلامية ـ مثلاً ـ استخدمت أميركا القوة بأوضح صورها خلال حرب استرجاع الكويت، وأثبتت ـ من خلال ذلك ـ سيادة القوة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط. ولكن هذه القوة التي ظهرت في حرب الكويت لن تغيّر شيئاً من حقيقة الانهيار الأميركي الاقتصادي، فضلاً عن أنها عمّقت الكراهية لدى شعوب المنطقة.

كما أن تلويح أميركا المستمر باستخدام القوة ضد إيران، وقيادة إيران للحملة المضادة للهيمنة الأميركية في المنطقة، وردودها الحاسمة على التصعيد الذي تمارسه أميركا ضدها على المستويين السياسي والإعلامي، هو مؤشر آخر على الاحباطات التي تعاني منها أميركا على مستوى سياستها في الشرق الأوسط، بالنظر لنفوذ إيران المعنوي (الديني) في المنطقة، وقابليتها على الحركة السياسية.

وعلى مستوى أميركا اللاتينية، ربما تكون الحالة شبيهة إلى حد ما، رغم عراقة الاستعمار الأميركي في هذه المنطقة، والقرابة الجغرافية التي سنحت لواشنطن بأن تعتبر منطقة أميركا اللاتينية حديقتها الخلفية. فتدخلات أميركا في شؤون دول المنطقة الداخلية كان يتم قبل عام 1990 بذريعة مواجهة الخطر الشيوعي. ولكن زوال هذا الخطر أعاق (وسيعيق) حركة أميركا، فتدخلها السافر في بنما ـ مثلاً ـ أحدث ضجة واسعة لدى الرأي العام العالمي، وأسخط حتى حلفاء أميركا.

والحقيقة أن إخفاق بوش في الانتخابات الأخيرة، بسبب تردّي الوضع الاقتصادي وإخفاق سياسته الخارجية، إنما يعبّر عن إخفاق السياسة الخارجية الأميركية برمتها، ووصولها إلى طرق مسدودة في الكثير من مناطق العالم الساخنة.

معادلات العلاقة بين الأقطاب

الأقطاب الثلاثة المتنافسة (أميركا، أوربا الموحدة، واليابان) تستحكم بعلاقاتها ـ حالياً ـ معادلات المستقبل، وكأنها تهيئ أنفسها للصراع الاقتصادي المستقبلي، فتحاول كل منها ضمان أفضل المواقع لها في النظام العالمي الجديد، الأمر الذي يفرض عليها التعامل بوجهين أو بأسلوبين يكمّل أحدهما الآخر، فتحتكم الحذر الشديد، وتظهر المودة والرغبة في التعاون.

ويعمل كل واحد من هذه الأقطاب باتجاه معين وضمن أساليب خاصة، رغم وجود نوع من التشابه في الاتجاهات، فاليابان وألمانيا تركّزان معظم جهودهما على الأبحاث العلمية والتطور التكنولوجي، حيث تكاد تصل نسبة ميزانية البحث العلمي والصناعي في اليابان إلى حوالي 95% من ميزانية الأبحاث، في حين تخصص أميركا 40% للبحث العلمي والصناعي وغيره و60% للأبحاث العسكرية. وهذا يعني أن اليابان تراهن في المستقبل على العامل الاقتصادي فقط، وترى أنه سيثبتها في موقعها الحقيقي في النظام العالمي، في حين لا تعير اهتماماً يذكر للعامل السياسي، ويصل اهتمامها بالعامل العسكري إلى درجة الصفر تقريباً. أما أميركا فستبقى تراهن على عامل القوة العسكرية لسنوات طويلة، مع اهتمام كبير بالعامل السياسي، ويأتي اهتمامها بالعامل الاقتصادي بالدرجة الثالثة. بينما تحاول أوربا الموحدة الموازنة بين العوامل الثلاثة، مع تركيز على الجانب الاقتصادي. وهذا الاتجاه المتوازن الذي تقوده ألمانيا، يرشح أوربا لتكون ـ مستقبلاً ـ القوة الأعظم بين منافسيها.

وعلى مستوى اتجاهات العلاقات الثنائية، فإن أوربا تحاول جر اليابان إلى لعب دور سياسي مؤثر، للموازنة بين دوريها السياسي والاقتصادي، ولتكون قوة توازن الولايات المتحدة، لكي تخفف الأخيرة من ضغوطها على أوربا.

من جانب آخر، لم تعد أوربا الغربية ـ كما كانت في السابق ـ سوقاً اقتصاديةً دولية لأميركا، لأن حالة التكامل الداخلي الأوربي وتحّول أميركا إلى تنمية علاقاتها الاقتصادية مع دول المحيط الهادئ وغيرها من دول العالم الثالث النامية، إلى مستوىً تجاوز حجم الاستثمار الأميركي في أوربا. أضف إلى ذلك أن الاتجاه الذي برز داخل الأجهزة الأميركية الحاكمة ابتداءً من عام 1988، ولا سيما في صفوف القوات المسلحة والسياسيين المحافظين، يسعى لنقل مركز التنافس إلى المناطق التي ما تزال فيها أميركا هي الأقوى عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، أي دول العالم الثالث النامية. وقد أعلن هذا الاتجاه عن نفسه من خلال التقرير الذي قدمه للرئيس الأمريكي في تلك السنة، وينص على الانسحاب الكامل أو الجزئي من أوربا. ويعتبر بريجنكسي وكيسنجر من أبرز مؤيدي هذا الاتجاه، رغم أنهما كانا ـ بالأمس ـ يؤكدان على الدور الأميركي في أوربا. والنتيجة فإن أميركا رغم خشيتها الكبيرة من العملاق الاقتصادي الآسيوي (اليابان)، إلا أنها تنظر إلى أوربا كمنافس أخطر في المستقبل، ومن هنا تعمل على عرقلة مسيرة الوحدة الكاملة بين دول أوربا.

أما العلاقة بين الولايات المتحدة واليابان، فإنها ربما تتحول إلى حرب اقتصادية باردة مع حلول القرن الحادي والعشرين. فأميركا منذ أواسط الثمانينات أخذت تنظر إلى اليابان كتهديد اقتصادي جاد، وربما ذهب بعض الأميركيين إلى الاعتقاد بأن التهديد الاقتصادي الياباني يوازي التهديد العسكري السوفيتي ـ قبل انهياره ـ، وطالب بحماية الاقتصاد الأميركي من الغزو الياباني. وقد تأكد هذا التهديد بعد ظهور بوادر الانهيار الاقتصادي في أميركا، فأصبح تألق القوة الاقتصادية اليابانية وكأنه يهدد الأمن القومي الأميركي ومستقبل أميركا بالقوة والفعل. وهو ما دعا البيت الأبيض إلى طمأنة الكارتلات الاقتصادية الأميركية ـ ولو بشكل مؤقت ـ حيال هذا التهديد، من خلال «الاتفاق التأريخي» الذي تم عقده بين البلدين في 6 نيسان/أبريل 1990، وينص على تقليص الفارق في حجم التبادل الاقتصادي بين البلدين، والذي يصل إلى «70» مليار دولار لصالح اليابان، أي إن صادرات اليابان إلى أميركا تزيد «70» مليار دولار على صادرات أميركا لليابان، وهو رقم هائل، وخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار التفوق السكاني والجغرافي الأميركي وعراقة التجارة الخارجية الأميركية. وفي مقابل موافقة اليابان على ذلك، فإنها أملت ـ من جانبها ـ شروطاً على أميركا، اعتبرها بعضهم تدخلاً يابانياً في الشؤون الداخلية لأميركا. ومن أبرز تلك الشروط، محافظة أميركا على العجز الضخم في ميزانيتها، وإصلاح النظام التعليمي، وتعميم الثقافة الاقتصادية اليابانية في المجتمع الأميركي.

بيد أن خطوط التنافس الاقتصادي بين أميركا واليابان لا تنتهي عند التبادل التجاري، فحجم الاستثمار ورؤوس الأموال والممتلكات اليابانية داخل أميركا بلغت أرقاماً فلكية، فاليابانيون اشتروا أسهم العديد من الشركات والمصانع والبنوك الأميركية الكبرى، فضلاً عن العقارات والأراضي. وهذا الحضور الاقتصادي الياباني في أميركا يقابله حضور عسكري أميركي في اليابان. ويقابل اليابانيون الحضور الأميركي هذا ببرود، رغم وجود تيارات سياسية تعارضه بعنف، طالما أنه لن يؤثر على أهدافهم الاقتصادية المحلية والعالمية. ولكن المستقبل قد يغيّر هذه المعادلة ويدعم التيار المتذمر من الهيمنة العسكرية الأميركية على اليابان، لكي لا تبقى اليابان ـ كما تقول المعارضة ـ «مجرد حاملة طائرات أميركية لا تغرق، وشريك في حماية مصالح الغرب في شرق آسيا»([8]).

وجميع الحقائق السابقة، وفي مقدمتها المعادلات الأساسية للعلاقة بين المتنافسين، تؤكد التقهقر الأميركي، مما يجعل الكثير من الاستراتيجيين الأميركيين ينظرون إلى المستقبل نظرة تشاؤم، ويفكرون في حلول مدمّرة لهم وللآخرين، من منطلق «على أعدائي». فأميركا تبدو كزعيم عصابة، لا ينافسه أحد على القوة، ولكن هناك من ينافسه في المال والتأثير الاجتماعي، فيحاول كسب هذا المنافس إليه من جهة، ويسعى من جهة أخرى لضرب عناصر القوة فيه للحيلولة دون هيمنته على المجتمع. بيد أن إخفاق أميركا في ضرب عناصر القوة في منافسيها، ربما يلجئها في اللحظة الأخيرة إلى انسحابها من حلبة القوى العظمى، إلى استعمال الخيار العسكري، لتدمير الاقتصاد العالمي بأجمعه، بالطريقة التي يهدد فيها الاقتصادي الأميركي ليسترثورو: «أميركا تملك القوة العسكرية التي تمكّنها من نسف النظام العالمي للقرن الحادي والعشرين»([9]). وهذه المسألة ـ بحد ذاتها ـ معادلة أخرى ستلعب دوراً أيضاً في تحديد شكل العلاقة بين الأقطاب. حيث ستذعن اليابان وأوربا الموحدة للتهديد، وتضطران لتقليص المسافات الاقتصادية مع أميركا، من خلال دعم اقتصادها المنهار ومنعه من السقوط النهائي، لتبقى شرطي العالم دون منافس. ويعبّر “لوران فابيوس” عن هذا الواقع المرير بقوله: «عندما ترفع أميركا العصا، فإن ذلك لا يكون إلا بالإعانات المالية للألمان واليابانيين والخليجيين»([10]).

الإحالات

([1]  ) يعتبره بعضهم خليفة المؤرخ الإنجليزي تويني، واعتبار دراساته في قوانين التأريخ أفضل ما كتب في هذا المجال خلال العقد الأخير.

([2]  ) مجلة الفرسان، العدد 702 (مصدر سابق).

([3]  ) صحيفة الهلال الدولي، 16 ـ 31 آب/أغسطس 1990.

([4]  ) مجلة بروفيل، شباط/ فبراير 1992.

([5]  ) مجمل الأرقام الاقتصادية الواردة في فقرة التحدي الاقتصادي، مستقاة من مصادر عربية وأجنبية، أبرزها: بول كنيدي، صعود وأفول القوى العظمى، نقلاً عن مجلة الفرسان، العدد 702 (مصدر سابق)، ورمزي كلارك، قيادة أميركا للمنظومة الرأسمالية العالمية، مجلة المستقبل العربي، العدد 138، آب/أغسطس 1990، ص 4 ـ 23، وصحيفة لوموند ديبلماتيك، آذار/مارس 1990.

([6]  ) لوموند ديبلماتيك (مصدر سابق).

([7]  ) صحيفة الأنباء (الكويتية)، 22 آذار/مارس 1990.

([8]  ) مجلة نيوزويك، 2 نيسان/إبريل 1990.

([9]  ) صحيفة الشعب (مصدر سابق).

([10]  ) مجلة الفرسان، العدد 703 (مصدر سابق).

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment