مبدأ ولاية الفقيه الثابت التأسيسي للنظام الاجتماعي الديني الشيعي

Last Updated: 2024/04/26By

مبدأ ولاية الفقيه: الثابت التأسيسي للنظام الاجتماعي الديني الشيعي

د. علي المؤمن

مبدأ ولاية الفقيه ليست أُطروحة أو نظرية أو فكرة جاء بها شخص محدد أو عالم معين أو فقيه بعينه، بل هي القاعدة الحصـرية التي يقف عليها كيان المرجعية الدينية الشيعية والحوزة العلمية والنظام الديني الشيعي برمته، منذ نشوئه في عصر غيبة الإمام المهدي قبل 1200 عام تقريباً وحتى الآن، وبدون ولاية الفقيه لا يبقى أيّ أصل شرعي لمرجع وفتوى وفقيه وحوزة وتقليد واجتهاد. وقد تأسست المرجعية الدينية على مبدأ ولاية الفقيه حصـراً، أي أنّ المبنى الفقهي الذي يشرِّع للمرجعية الدينية هو مبدأ ولاية الفقيه، ولولا هذا المبدأ لما وجدت المرجعية الدينية الشيعية وكيانيتها وصلاحياتها. وبذلك؛ فإنّ مبدأ ولاية الفقيه هو محل إجماع فقهاء الشيعة، الماضين منهم والأحياء، دون استثناء.

وسنعرض هنا أهم مباني ولاية الفقيه وتطور موضوعاتها وتطبيقاتها، بمنهجية وصفية تحليلية، وأحيل القارئ إلى المدونات الفقهية الاستدلالية للفقهاء الشيعة، والتي سأذكر عناوين بعضها؛ للتعرف على استدلالاتهم التي تقود إلى ولاية الفقيه.

وكان النظام الديني الاجتماعي الشيعي في عصر الأئمة الاثني عشر، متجسّداً في نظام الإمامة الذي يقف الإمام المعصوم على رأسه. وفي عصر غيبة الإمام، دخلت مدرسة الإمامة مرحلة جديدة، تتطلب تحديد شكل النظام الشيعي ومضمونه وصاحب الحق الشرعي في قيادته. حينها لجأ المحدِّثون والفقهاء الشيعة إلى أحاديث الأئمة التي أناطت هذا المنصب بالفقهاء أو العلماء أو رواة الحديث، وهي تسميات لمعنى واحد.

ومن أبرز الأحاديث التي استدل بها فقهاء الشيعة في هذا المجال أحاديث: «العلماء حكّام على الناس»، «العلماء ورثة الأنبياء»، «العلماء أمناء الرسل»، والذي ورد أيضاً بصيغ أُخر: «العُلَماءُ أُمَناءُ اللهِ عَلى خَلقِهِ» و«العُلَماءُ أُمَناءُ أُمَّتي»، وأغلبها مروية عن الرسول الأعظم والإمام علي، وأحاديث الإمام جعفر الصادق، ومنها رواية عمر بن حنظلة: «من كان منكم ممن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً»، وهي المعروفة بـ «مقبولة» عمر بن حنظلة، ولكن عدّها المحقق السيد جعفر مرتضى «صحيحة». وحديث الإمام الحسن العسكري: «وأما من كان من الفقهاء صائناً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه»، وكذا الحديث المنسوب إلى الإمام المهدي: «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجتي عليكم وأنا حجة الله». فضلاً عن أحاديث داعمة أُخر، وهي في مجملها تدل على صلاحية الولاية الدينية والقيادة الاجتماعية الشاملة للفقيه كحد أدنى.

وفضلاً عن الأحاديث الخاصة المروية عن أئمة آل البيت؛ فإنّ مبدأ ولاية الفقيه أو مرجعية الفقيه تستند إلى قاعدة عامة عنوانها: «نيابة الفقيه للإمام المعصوم» في عصر غيبته، وهي نيابة عامة، أعقبت النيابة الخاصة التي اختص بها السفراء الأربعة للإمام المهدي خلال مرحلة الغيبة الصغرى. أي أنّ الفقيه يستمد صلاحيته الدينية من كونه وريثاً أو امتداداً موضوعياً للإمام المعصوم.

ويذهب الفقهاء إلى أن الدلالات الجوهرية لهذه الأحاديث تحدد خمسة وظائف أو صلاحيات حصرية للفقيه، وكل واحدة منها تمثّل ولاية فرعية من ولاية الفقيه:

1 ـ وظيفة فقهية، تتمثل في الإفتاء.

2 ـ وظيفة تحكيمية، تتمثل في القضاء.

3 ـ وظيفة مالية، تتعلق بشؤون الحقوق الشرعية.

4 ـ وظيفة حسبية، تتعلق بإدارة المجتمع الشيعي.

5 ـ وظيفة سياسية، تتعلق بإقامة الدولة الإسلامية وقيادتها.

ويجمع الفقهاء على الوظائف الأربعة الأُول، ولكنهم يختلفون على الوظيفة الخامسة المتمثلة في صلاحية إقامة الدولة الإسلامية وقيادتها، فمنهم من يرى أنّ أحاديث الأئمة ومقاصد الشريعة والنظام الإسلامي تدل بمجملها على حتمية هذه الوظيفة وبديهيتها، ومنهم من يرى أنّ الأحاديث لا تدل على هذه الوظيفة. أما الوظائف الأربعة الأُخر المذكورة المترشحة عن ولاية الفقيه، فلا خلاف عليها. أي أنّ الخلاف بين الفقهاء ينحصـر في مساحات ولاية الفقيه توسعةً وتضييقاً. أما الولاية نفسها؛ فيعدّون مبدأها جزءاً من عقائد الإمامية البديهية المجمع عليها، والتي لا تحتاج إلى عناء في الاستدلال عليها كما يقول الفقهاء، وأبرزهم المحقق الكركي في كتاب «صلاة الجمعة»، والشيخ محمد حسن النجفي في «جواهر الكلام»، والشيخ النراقي في «عوائد الأيام» وغيرهم، إذ احتجوا بالإجماع بشأن ثبوت الزعامة العامة للفقيه وشمول صلاحياته على الحكم.

وقد كانت هذه المخرجات كافية لفقهاء الشيعة ومحدثيهم وزعمائهم ليؤسسوا للنظام الاجتماعي الديني الشيعي الذي يترأسه الفقيه، ويحافظوا على وحدة النسيج الاجتماعي والسياسي لأتباع أهل البيت، ووحدة كيان مدرسة الإمامة ووحدة قيادتها، وما يترتب على ذلك من ترابط وثيق بين القاعدة والقيادة التي تجسدت في «ولاية الفقيه» أو «المرجعية الدينية». وقد كان هذا النظام نوعاً من الحكومة أو الدولة ناقصة السيادة، وبه كان يتلخص الفقه السياسي لمدرسة الإمامة حينها. ولم تكن الأحكام الخاصة بهذا الكيان مصنّفة في باب فقهي مستقل؛ لعدم شعور الفقهاء الشيعة بالحاجة إلى ذلك، أو للحيلولة دون تأليب الحكام الطائفيين عليهم. واستمر هذا الحال قروناً طويلة، كان فيها الفقهاء يقفون على رأس النظام الاجتماعي الديني الشيعي؛ بما يشكّل مزيجاً من القيادة الدينية والإدارة الاجتماعية.

ومن الموضوعات التي يتطرق إليها الفقهاء في تفاصيل ولاية الفقيه، موضوع علاقة الفتوى بالحكم الشرعي والفرق بينهما. فيقولون: بأنّ «الفتوى» كاشفة عن التشريع الفقهي في الأحكام الابتدائية المرتبطة بالموضوعات الفردية، كعموم العبادات والعقود والإيقاعات والأحكام، وهي مرتبطة بتقليد المكلف لمرجعه الديني، أي أنّها ملزمة لمقلدي المرجع صاحب الفتوى فقط دون غيرهم من الشيعة.

أمّا «الحكم» فهو ـ في الغالب ـ إنشاءٌ لحكم جديد في القضايا العامة، وفق رؤية الفقيه للمصلحة العليا للمجتمع، ويقع تحت عنوان الأحكام الثانوية العامة والأحكام الولائية المناطة بالمرجع الديني المتصدّي، بالاستناد إلى ولاية الفقيه على الحسبة والنظام العام، أو هي الأحكام المناطة بالفقيه الحاكم بالاستناد إلى ولاية الفقيه على الدولة. ولذلك فإنّ «الحكم» العام أعم من الفتوى في شموله لغير مقلدي الفقيه، ويسري على الفقهاء أيضاً، أي أنّه نافذ على غير مقلّدي هذا المرجع، وعلى الفقهاء أيضاً. وهناك «الحكم» الخاص المتعلق بموضوع فردي، ولا يشكل صدوره تزاحماً مع حكم المرجع المتصدّي للشأن العام.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment