((ما ننطيها)) في العقل الشيعي العراقي

Last Updated: 2024/03/23By

(ما ننطيها) في العقل الشيعي العراقي

د. علي المؤمن

أزعم أنني أعرف السيد نوري المالكي معرفة فكرية قريبة، لذلك؛ ربما كان تحليلي هنا هو الأقرب الى نواياه ومشروعه، دون أن أتوقف عند تفسيراته ومبرراته، هو وفريقه، ولا بتفسيرات الآخرين، حيال العبارات الجدلية التي يطلقها بين الحين والآخر، بل أنطلق من فهمي لما يقول، لأنني أعرف جيداً كيف يفكر وماذا يريد.

لا تزال عبارة (ما ننطيها) التي قالها المالكي في العام 2007، عالقة في ذاكرتي، وتقودني الى التأمل في الواقع الشيعي العراقي، وفي مخرجات أداء الأحزاب والقيادات الشيعية المشاركة في الحكم، وانعكاس ذلك على الثقافة الشيعية السياسية المجتمعية. وقد بقيت أقرن جملة (ما ننطيها) بعبارات سابقة أُخر سمعتها منه في جلسات خاصة؛ فمثلاً أتذكّر في العام 2004، كان المالكي والشيخ عبد الحليم الزهيري في مكتبي في بيروت، نتحدث عن أهمية تحويل ثقافة السلطة ومفصليتها في مصير الشيعة ومستقبلهم، الى ثقافة سياسية مجتمعية شيعية، والى هاجس نفسي مجتمعي؛ فكان من ضمن ما قاله المالكي: ((والله لَنتعارك على موقع شرطي)). وفهمت حينها، دون عناء تفكير، بأنه لا يقصد أن حزبه هو الذي (يتعارك)، إنّما الذي (يتعارك) هو المكون الشيعي، أي أنهم كمكون شيعي ينبغي أن ينتزعوا استحقاقهم بالقوة.

وهكذا عبارة (ما ننطيها) أيضاً، لم أشك أن المالكي لم يكن يقصد بها شخصه أو حزبه، إنّما يقصد أنّهم كمكون شيعي لن يتنازلوا عن السلطة، لأنها استحقاقهم، ولن يسمحوا بعودة نظام التهميش والقمع الطائفي، بأية صيغة كانت، بعثية أو قومية أو تكفيرية أو علمانية. وعندما سألتُ المالكي حينها عن صحة تصوراتي هذه؛ أَقسمَ بالله أنه لا يقصد شخصه وحزبه، بل يقصد المشروع الشيعي. والحقيقة؛ لم يكن هدفي أن أسمع قَسَم المالكي أو تفسيره لعبارته، بل لأتأكد من أنني أفهم المالكي ومنهج تفكيره فعلاً، لكي أكون موضوعياً ومنصفاً وأنا أطرح هذه الجدليات في كتابي «سنوات الحصاد»، الذي سيرى النور خلال العامين القادمين.

وربما يعتقد بعضهم أن إعلان المالكي بأنهم (ما ينطوها)، كانت زلة لسان، لكنني أرى أنها استراتيجيا شيعية يؤمن بها المالكي إيماناً عميقاً، وكان ينتظر الفرصة المناسبة للإشارة إليها، وإيصال رسالة شيعية للجميع؛ فزلة اللسان من مخرجات العقل الباطن للإنسان، في حين أن (الشيعة بعد ما ينطوها) هي عقيدة المالكي وإفراز لعقله الظاهر؛ فالمالكي ينظر الى استحقاقات الشيعة في الدولة والسلطة وثقافة الدولة والتشريعات، نظرة واقعية، وظل يعمل على تفعيلها منذ العام 2003، بقدر ما تسمح به المصلحة الوطنية العامة، وخاصة بعد تسنمه منصب رئيس الوزراء؛ فحصول الشيعة على استحقاقاتهم هو أمر طبيعي وضروري لاستقرار العراق، ولا يتعارض مع حقوق السنة الكرد والعرب والتركمان، بل أن فيه مصلحة السنة أنفسهم على المدى البعيد، كما يرى المالكي.

وفي موضوع متصل؛ أعتقد أن من أطلق لقب (المختار) على المالكي بعد العام 2007، وربط بينه وبين شخصية القائد الشيعي التاريخي المؤسس (المختار الثقفي)، كان ذكياً، وقارئاً جيداً للتاريخ، وواعياً بمشروع المالكي، ولأنني أعرف الشخص الذي أطلق اللقب المذكور وأعرف عقله أيضاً؛ فإنه لم يكن بوارد الدعاية لشخص المالكي، بل كان يوجِّه رسالة؛ بأنّ هذا الحاكم (الشيعي) هدفه تأسيس دولة تؤمن باستحقاق الشيعة الحقيقي، والعمل على تطبيق مبدأ إنصاف المظلومين المهمشين، والاقتصاص ممن أوغلوا بدمائهم، كما فعل المختار الثقفي قبل (1370) سنة، ولم يقصد الكاتب أن المختار والمالكي كان هدفهما الانتقام، أو إنصاف الشيعة على حساب السنة، أو أن المستهدفين هم السنة كمكون، بل كان يقصد السلطة الطائفية التي قمعت الشيعة وهمّشتهم، سواء قبل (1400) عاماً، أو في التاريخ المعاصر.

والشخص نفسه (الذي أطلق صفة المختار على المالكي)، كتب مقالاً عنوانه: ((المختار مستبداً؛ فليكن)) خلال العام 2009، فسّر فيها طبيعة استجابة نوري المالكي المتماهية مع استجابة المختار الثقفي لمتطلبات الواقع العراقي الذي يغلي، والظرف السياسي المتشاكس، وهي الاستجابة التي وصفها المنافسون بالاستبداد. وربط الكاتب في مقاله بين اتهامات الأُمويين والزبيريين للمختار بأنه مستبد ودموي واجتثاثي، وبين الاتهامات التي طالت المالكي بأنه مستبد ودموي وطائفي، لأنّ الأول اقتصّ من قتلة الإمام الحسين، واجتثّ الحزب الأُموي في العراق، وأسس دولةً مثّلت استحقاق الأكثرية الشيعية الكوفية والعراقية، وكان حازماً في قراراته، ويرفض الجدال والنقاشات النظرية والمساومات التي تعيق اتخاذ القرارات وسرعة تنفيذها. فيما وصف المراقبون المالكي بأنه كان حازماً في فرض الأمن والقانون، وأعدم آخر حاكم أموي (صدام)، وكان جاداً في الحصول على استحقاقات الشيعة، الى جانب صيانة حقوق السنة العرب والكرد.. وزيادة، في إطار مشروع وطني شامل.

وكنت قد التقيتُ في العام 2009 أحد القادة الشيعة من منافسي المالكي الأساسيين، ممن أحترمهم، وسألته: ((هل حقاً تتصور أن المالكي بعبارة (ما ننطيها)، يقصد نفسه وحزبه؟))؛ فأجاب: ((للإنصاف.. أرى أنّ الرجل يقصد الشيعة)). قلت له: ((لماذا ــ إذاً ــ كانت إشارات منافسيه في الإعلام والتصريحات عكس ذلك؟))؛ فقال: ((نحن نؤمن بأن الشيعة ينبغي أن (ما ينطوها)، لكن ليس بالضرورة الحديث عن ذلك بهذه العلانية)). قلت له: ((ألا ترى بأنّ تحويل عبارة (ما ننطيها) الى ثقافة مجتمعية شيعية، وتكريس مفهومها في العقل الشيعي العراقي، بحاجة الى (صدمة) فاقعة في علانيتها، يقودها زعيم شيعي، لكي تكون مسموعة على أوسع نطاق؟، وإلّا ما الفائدة من إبقاء المفهوم خاصاً بالنخبة السياسية الشيعية القيادية، وعدم تثقيف الجمهور عليه؟، ولذلك؛ ربما يأتي يومٌ يفقد فيه الجمهور الشيعي إحساسه بأهمية السلطة بالنسبة للمكون، بعد أي مؤشرِ فشلٍ في أداء الحاكم الشيعي والأحزاب الشيعية المشاركة في الحكم، لأن الجمهور سوف لن يفرِّق بين فشل أداء أصحاب السلطة الفعليين، وبين أصل السلطة، وسيبقى مأخوذاً بمفهوم البعث للقومية والوطنية، دون أن يعي حقيقته، الأمر الذي يجعله يعيش اللحظة وانفعالاتها، وفاقداً للنظرة التاريخية الاستراتيجية)). وهو ما ظل يحصل بالفعل في محطات كثيرة، وخاصة بعد العام 2010.

وقد بقيت أتمنى أن يردد جميع قادة الجماعات الشيعية العراقية المشاركة في السلطة، وقبلهم علماء الدين والمثقفين الشيعة، وبصوت يلعلع، عبارة (ما ننطيها)، ويتجاوزوا عقبة التحسس منها بسبب التحسس من صاحب براءة اختراعها، لأنها عبارة تختصر أهداف (1400) عاماً من الانتظار والمواجهة والمعارضة، ولكي تتحول الى ثقافة مجتمعية شيعية، ولكي يعي المواطن الشيعي بأن هؤلاء القادة لا يقصدون أنفسهم وأحزابهم، بل يقصدون المكون الشيعي، وبأن مصلحة المكون هي فوق مصالحهم، بل أنّ وجوداتهم ومصالحهم تتلاشى أمام مصلحة المكون.

    ولذلك؛ فإن عبارة (ما ننطيها) لا تكفي لوحدها، رغم أهميتها، وضرورة عدم التوقف عند عقدة من قالها، إنّما يجب أن تكون مقرونة بالإمساك بكل قوة وأمانة بالدولة التي (ما ننطيها)، وكذلك مقرونة بالاستقامة والثبات والنجاح، وتحقيق أهداف الــ (1400) سنة من الانتظار، لكي تتجسد أمام الجمهور أهمية مفهوم (ما ننطيها) كواقع تطبيقي.

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment