كيف تأسست أمريكا على جماجم السكان الأصليين؟

Last Updated: 2024/04/22By

كيف تأسست أمريكا على جماجم السكان الأصليين؟

د. علي المؤمن

كلما أطالع أكثر عن تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، وتأسيسها خلال القرن السادس عشر الميلادي على جماجم (30) مليوناً من السكان الأصليين (الهنود الحمر)، ثم حروبها ضد أغلب سكان الكرة الأرضية خلال خمسة قرون، وخاصة منذ القرن التاسع عشر وحتى الآن؛ تزداد قناعتي بأن مصطلح (الشيطان الأكبر) ليس مصطلحاً ايديولوجياً أو دينياً أو سياسياً، ولا هو مصطلح معاد لأمريكا، بل توصيف حقيقي واقعي لهذه المنظومة المتجبِّرة، قياساً بكل الشياطين الصغار من جبابرة الأرض، منذ عهد آدم وحتى الآن، وهو ما يقرّ به النظام السياسي الأمريكي نفسه، حين يعتبر نفسه نظام الله المختار الذي يحق له أن يفعل ما يشاء، بناءً على المبدأ التوراتي العنصري الذي حمله المهاجرون الإنجليز البروتسانت معهم، وأسسوا عليه الولايات المتحدة الأمريكية، ولعل قول الرئيس الأمريكي “بايدن” في 7 كانون الثاني 2023 الماضي: ((إن جميع شعوب العالم لاتساوي ذيل بنطال أمريكي واحد))، هو تمثيل لهذه العقيدة الاستكبارية التمييزية العنصرية، ولذلك؛ فإن من يعتقد أن كلام “بايدن” المذكورة هو هفوة؛ فهو مخطئ ولايعي الجذور الايديولوجية للعبارة.

ولعل الحديث عن جرائم الإبادة الجماعية التي قامت بها الولايات المتحدة الأمريكية للهنود الحمر سكان أمريكا الأصليين وأصحاب الأرض الأصليين، يكفي لبيان الوجه الحقيقي لهذا الشيطان وممارساته؛ إذ لم تكن هذه الجرائم مجرد قرارات سياسية أو ممارسات عسكرية أو مخططات استعمارية، بل هي جرائم تستند الى قوانين وتشريعات، ومنها القوانين التي أصدرها الكونغرس من بدايات تشكيله، وأبرزها قانون إبادة الهنود الحمر الذي صدر تحت عنوان ((إزالة الهنود)) الذي إصدره الكونغرس الأمريكي في العام 1779، وهو الأكثر صراحة ووحشية؛ ففي ضوئه أصدر الرئيس الأمريكي “جورج واشنطن” أمره الى الجنرال “سوليفان” بتدمير شعب “الإيراكوي” الهندي الأحمر، والذي نص على ما يلي: (( إن الحملة التي عُيّنتَ لقيادتها يجب أن تكون موجهة ضد قبائل أمم الهنود الست المعادية، مع شركائهم وأتباعهم. إن الأهداف المباشرة هي التدمير الكامل والدمار لمستوطناتهم، واعتقال أكبر عدد ممكن من السجناء من جميع الأعمار ومن كلا الجنسين. من الضروري تدمير محاصيلهم المزروعة في الأرض ومنعهم من زراعة المزيد)).

فهل هناك تصريح بالإبادة البشرية الجماعية أكثر جرماً من رئيس دولة تتشدق بأنها تأسست على مبادئ الديمقراطية والليبرالية والتعددية وحقوق الإنسان؟

ولعل من المناسب هنا التوقف عن تقرير لقناة الجزيرة تحت عنوان ((ديمقراطية الدماء: كيف تأسست امريكا على أشلاء السكان الأصليين))، والذي يصف رؤية الأوروبيين المحتلين لأمريكا بأنها تتفق على تصوير الهنود الحمر بوصفهم كائنات منحطة بالوراثة، وأقل منزلة من الإنجليز والإسبان وعموم الأوروبيين. هذه النظرة الدونية يمكن اعتبارها الشرط التمهيدي لتجريد السكان الأصليين للأميركتين من إنسانيتهم وارتكاب المجازر الوحشية ضدهم. وكانت أوصاف الأوروبيين للهنود الحمر تصل إلى درجة أساطير (الزومبي) ومصاصي الدماء، ومثالا لذلك، أن أول كتاب إنجليزي عن الهنود الحمر نُشر في عام 1511م ((وصف الهنود بالوحوش التي لا تعقل ولا تفكر وتأكل بعضها، بل إنهم كانوا يأكلون زوجاتهم وأبناءهم)).

ويقول التقرير: ((بعد اكتشاف الأوروبيين للقارة الأميركية وبدء حركة الهجرة والاستيطان، اقترنت إبادة الهنود الحمر برؤية توراتية وعلمانية مزدوجة، فسمى المتدينون البيوريتان (إحدى طوائف البروتستانت) أنفسهم عبرانيين، وظنوا أنهم في مهمة مقدسة لتطهير أرض الميعاد من الكنعانيين.. ولم يختلف الأمر كثيرا لدى العلمانيين الذين قدموا لإزاحة “الهمج” عن طريق العقلانية والتنوير)). و((تعتبر قصة الإنجليز الذين أسسوا أول مستعمرة فيما صار يُعرف اليوم في الولايات المتحدة بإنجلترا الجديدة، الأصل الأسطوري لكل التاريخ الأميركي… كل تصورات العبرانيين القدامى ومفاهيمهم عن السماء والأرض والحياة والتاريخ زرعها هؤلاء المستعمرون الإنجليز في أميركا التي أطلقوا عليها اسم “أرض الميعاد” و”صهيون” و”إسرائيل الله الجديدة” وغير ذلك من التسميات التي أطلقها العبرانيون القدامى على أرض فلسطين. وقد استمد هؤلاء الإنجليز كل أخلاق إبادة الهنود (وغير الهنود أيضا) من هذا التقمص التاريخي لاجتياح العبرانيين لأرض كنعان. كانوا يقتلون الهنود وهم على قناعة بأنهم عبرانيون فضّلهم الله على العالمين وأعطاهم تفويضا بقتل الكنعانيين، وكانت تلك الإبادة للهنود، وهي الإبادة الأكبر والأطول في التاريخ الإنساني، الخطوة الأولى على الطريق إلى هيروشيما وفيتنام)).

ويسرد التقرير منحني جرائم إبادة سكان أمريكا الأصليين منذ حط “كريستوفر كولومبس” قدميه على أراضي القارة الأميركية عام 1492م؛ فقد استمرت حروب المحتلين الأوروبيين ضد السكان الأصليين للبلاد، ولم تتوقف عجلة الدماء حتى بدايات القرن العشرين. وتشير بعض الدراسات إلى أن أعداد السكان الأصليين للأميركتين كانت تتراوح بين (10) ملايين إلى (100) مليون في العام 1500م، ويرى الكثير من المتخصصين أنها كانت نحو (50) مليوناً، منهم نحو (15) مليوناً من شعوب الهنود الحمر في أميركا الشمالية وحدها. ثم بدأت أعداد الهنود الحمر تتناقص بسرعة خيالية بسبب الحروب والمجازر الجماعية والمجاعات والأوبئة، حتى وصلت إلى أقل من 238,000 هندي أحمر فقط مع انتهاء الحرب الأميركية الهندية في القرن التاسع عشر، مما يعني أن القوات الأوروبية ذبحت نسبة أكثر من 95% من السكان الأصليين على الأقل لما يُعرف بالولايات المتحدة الأميركية اليوم، رغم أن بعض الباحثين يرون أن مجموع أرقام القتلى الحقيقية في الأميركتين قد يصل إلى 300 مليون قتيل.

هذه الإبادة الكبرى للهنود الحمر، لم تكن عملاً عشوائياً أو حرباً عسكرية ضد خصم محارِب، وإنما كانت عملية إبادة عنصرية مقصودة ضد شعب مسالم مستقر في أرضه منذ آلاف السنين. وحول هذه الحقيقة يقول “كلاوس كونور”، الأستاذ بجامعة برينستون، بأن ((الإنجليز هم أكثر القوى الاستعمارية الأوروبية ممارسة للإبادات الجماعية؛ فهدفهم في العالم الجديد كأستراليا ونيوزيلاندا وكثير من المناطق التي يجتاحونها هو إفراغ الأرض من أهلها وتملّكها ووضع اليد على ثرواتها)).

والمفارقة ـــ كما يقول التقرير ـــ بأن لفظ “الإبادات الجماعية” عندما يُذكر في المناهج الدراسية الأميركية؛ فإن ذهن الأميركيين ينصرف إلى محرقة الهولوكست النازية ضد اليهود في ألمانيا، أو إلى مذابح الأرمن في تركيا، أو مجازر السوفيت في جمهويات الإتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية وأفغانستان، أو مجازر الصرب في البوسنة والهرسك، لكن الأمريكيين لايفكرون إطلاقاً بمذابحهم الكبرى في أمريكا نفسها، أو غيرها من عشرات البلدان على مستوى الكرة الأرضية أجمع. ولعل طمس التاريخ الأمريكي لهذه المذابح والجرائم التي ارتكبتها الولايات المتحدة الأميركية، هي جريمة أكبر وأكثر بشاعة؛ فعندما قرر مجلس الجامعة الأمريكية في عام 2012م أن يضيف موضوع مذابح الأميركيين بحق الهنود الحمر في مادة التاريخ الأميركي لطلاب الثانوي، قوبل ذلك باعتراض واسع في جميع أنحاء الدولة وسلطاتها ومؤسساتها وأحزابها، وزاد عليها الكونغرس الأمريكي بإصدار قرار إدانة ضد المقترح، قال فيه: إن ((مصير أميركا الإلهي في التوسع وحروبها الاستثنائية له مبرراته))؛ فهل هناك شيطانية تسوغ للجريمة أكثر من هذا التبرير؟!.

ولم يتوقف الاحتلال الأمريكي عند احتلال أراضي الغير واحتلال التاريخ وحسب، بل طال احتلال الثقافة أيضاً؛ فحتى هذه اللحظة يصوِّر الغرب الهنود الحمر في صورة همجية لا تختلف عن صورتهم التي رسمها الأوروبيون لهم منذ خمسة قرون مضت، ليتم التغاضي عن مذابح الهنود في المناهج والإعلام الأمريكي، في مقابل استمرار نزع إنسانية الهنود الحمر عند الجماهير الغربية؛ فيقول التقرير: ((رغم أنهم أبادوا عشرات الملايين من السكان الأصليين؛ فقد استمرت سياسة تنميطهم في الإعلام الأميركي حتى التسعينيات من القرن العشرين، بل حملت عشرات الأفلام الكرتونية الموجهة إلى الأطفال رسائل الإساءة والتنميط التي يبدو فيها السكان الأصليون على هيئتهم البدائية نفسها التي كانوا عليها قبل أربعة قرون)).

وهكذا تتبيّن أكذوبة بناء الولايات المتحدة الأميركية على قيم الحرية والعدالة والمساواة؛ فالحقيقة أن الدولة الأمريكية بدأت أولى خطواتها بأقسى أنواع الإرهاب وأبادت الملايين من السكان الأصليين للبلاد وارتكبت بحقهم أبشع المجازر وأذاقتهم صنوف التعذيب والمعاناة، ثم بعد ذلك كله كتموا المذابح وأخفوا الحقيقة التاريخية عن الجماهير، لتبقى صورة الهنود الحمر هي ذاك الرجل البدائي الذي لا يفقه شيئا من الحياة، ليستمر الإجرام الأميركي بحق هؤلاء الناس حتى اليوم (انتهى الاقتباس بتصرف من تقرير قناة الجزيرة).

لذلك؛ فليس من المستغرب أن تدعم حكومة الولايات المتحدة الأميركية الأنظمة والكيانات المحتلة والمجرمة، بدءاً بالكيان الصهيوني وليس انتهاءً بالكيان السعودي؛ فالمسوغات التي تقدمها هذه الكيانات، هي نفسها التي استخدمها الأوربيون المحتلون في أمريكا نفسها، وفي البلدان العربية والإسلامية والآسيوية والأفريقية، ولايزالون يستخدمونها في كثير من دول العالم المستضعفة.

ولعل هناك من يعتقد بأن هذا التاريخ قديم، وأن سكان أمريكا الأصليين يعيشون اليوم كأي أمريكي آخر، في بحبوحة الحريات والحقوق والحريات الإنسانية، ولكن مجموعة تقارير استقصائية أمريكية موثقة، أعادت نشرها موسوعة ويكيبيديا باللغة االانجليزية، وكذلك تقرير نشرته مجلة هاي الأمريكية في ايار/ مايو 2004، ترد على هذا الاعتقاد، بما يعزز القناعة بحقيقة الواقع المأساوي الذي لايزال يعيشه (4.1) مليون نسمة، هو مجموع ما بقي من سكان أمريكا الأصليين، في حين ينبغي أن يكون عددهم الأن ما يقرب من (400) مليون نسمة، بناء على تقدير اعدادهم خلال القرن السادس عشر، و مراحل تأسيس الولايات المتحدة الأمريكية، والنمو السكاني الذي حصل لهم خلال ستة قرون.

تقول مجلة هاي الأمريكية بأن من بين كل أربع قبائل من الهنود الحمر، تعيش اليوم قبيلة واحدة بأكملها في فقر، ويعيش أكثر من نصف مليون منهم في (محميات مستقلة)، وهي التسمية التي تطلق على أماكن تجميع الحيوانات، وهي ((عبارة عن مساحات من الأرض أَرْغَمت حكومة الولايات المتحدة هذه القبائل على الانتقال والعيش فيها قبل أكثر من قرن من الزمان…وتنتشر البطالة وإدمان الكحول في هذه المحميات، كما أن الانتحار والأمراض منتشرة على نطاق واسع أيضاً)). هذه المحميات ـــ حسب وصف الصحفي الأمريكي “هونِك كولاكاوسكي” أسوأ من كثير من المناطق الفقيرة في العالم.. كلاب ضالة.. ورش صغيرة تنفث الدخان.. سيارات قديمة خرابات لاستنشاق المخدرات. أم نسبة الحاصلين على شهادات جامعية بين السكان الأصليين؛ فتبلغ 11%، وأن 50% منهم لا يتمتعون ببرامج الحكومة. كما تقول “جنيفر تاريولي” (من السكان الأصليين): ((إن 80% من السكان لا يجدون عملاً على الإطلاق)). كما أن لهم إدارة خدمات طبية خاصة، اسمها هيئة الخدمات الصحية للسكان الأصليين، وكأن امراضهم تختلف عن أمراض البشر الأمريكيين. وهي عقوبة مركبة لمن يتحدث بلغته الأصلية، ويرتدي زيه القومي، ويمارس طقوسه القومية والدينية.

وحيال هذه السياسة التمييزية العنصرية تقول “كارين بيرد” الأستاذة في جامعة كاليفورنيا: ((إنه أمر مروّع.. إنه استعمار.. نحن ببساطة ضحايا الاستعمار الداخلي؛ فالناس ينسون جذورهم، ويخامرهم الشعور بالعار إزاء هويتهم الحقيقية. لدينا أعلى معدل للانتحار بين الشباب بسبب أزمة الهوية)).

فإذا كان الاستكبار الأمريكي يتعامل اليوم بهذه الأساليب مع الشعوب الأصلية التي احتل أراضيها وأبادها، وأقام مشاريع الإعمار والبناء، ودولة الحقوق والحريات على جماجمها؛ فكيف سيتعامل مع باقي الشعوب؟!

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment