في المطعم الأذربيجاني في موسكو

Last Updated: 2024/04/22By

الانفلات المظهري لا يدل على الانفلات من الاجتماع الديني

د. علي المؤمن

(موسكو، 29/ ٧/ ٢٠١٩)

في المطعم الآذربيجاني في موسكو، والذي يقدم الطعام الحلال، تعرفت بالصدفة على عائلة روسية، وقد اتضح لي فيما بعد، أنهم من كبار الأثرياء ورجال الأعمال في موسكو.

كان كبارهم يتكلمون اللغة الآذربيجانية، التي أعرف بعض مفرداتها، أما الشباب والصغار فلا يعرفون غير الروسية.

كل شيء فيهم يلفت النظر بالنسبة لغريب مثلي.. سلوكهم.. ضحكاتهم العالية.. لغاتهم المتنوعة.. بذخهم.

طاولتي كانت ملاصقة لطاولتهم الكبيرة العامرة.

وحین كنت أتكلم باللغة العربية مع مترجمي، سألني رجل منهم بالروسية وهو يبتسم ابتسامة عريضة:

  • هل أنت عربي؟
  • نعم عربي من العراق

فجأة اختفت ابتسامته؛ فعاجلني بالسؤال:

  • من أين من العراق؟
  • من النجف الأشرف.. هل تعرفها؟.

هنا تغيّر لونه. بينما التفت نحوي رجل ثمانيني وسيم وأنيق جداً، كان يتصدّر طاولتهم، وهو كبيرهم، وأعاد عليّ السؤال وكأنّه يبكي:

  • أنت من النجف؟ من مدينة المولى علي؟
  • نعم من مدينة المولى.

حينها أخذ يتحدث مع عائلته باللغة الآذربيجانية بشغف وروحانية، بلحن يشبه الندب، وكأنّه يعبِّر عن ولائه لأمير المؤمنين. وكانوا يتفاعلون مع كلامه ويتبادلون الحديث، بمن فيهم النساء والشباب الغارقين في العصرية؛ فقد كان واضحاً من ملابس نسائهم وسلوكهم أنهم غير ملتزمين دينياً.

لم أستغرب من هذه المفارقة أو الإزدواجية بين السلوك والعواطف، لأنني أعيشها يومياً في لبنان.

ولم يدهشني كثيراً أيضاً أن الرجل الذي كان يجلس الى جانبي تقريباً، أخذ يقبِّل كتفي، وانحنى على يدي يريد تقبيلها، بعد أن عرّفني مترجمي لهم، بأنني سيد من أحفاد الإمام علي بن أبي طالب.

وبدأت المفارقات تنهمر كالغيث في شدته..

أخذ أحدهم يتحدث عن عدم سماح مسؤولي المسجد المركزي الحكومي في موسكو للشيعة بممارسة عباداتهم وشعائرهم فيه، واحتكار السنة للمسجد، بالرغم من أن الرئيس بوتين أكد في افتتاح المسجد بأنه للجميع وليس لطائفة دون أخرى.

وتحدث آخر عن بذل السعوديين ملايين الدولارات لنشر المذهب الوهابي في روسيا.
قلت لهم مبتسماً: وما علاقتكم أنتم بكل ذلك؟ هل أنتم ترتادون المساجد مثلاّ وتمارسون العبادات؟

فهموا رسالتي على الفور؛ فبادر أحدهم وقد بدى عليه الإنفعال:

  • يا أخي نحن نحتفل بالأعياد ونحتفل بالغدير، ونقيم مجالس الإمام الحسين ونبكي ونلطم، ونوزع الطعام لآلاف الناس في يوم عاشوراء. نحن شيعة يا أخي، ويهمنا أن نحس أن دولتنا روسيا تمنحنا كل حقوقنا الدينية.
  • إذن.. هل تحسون بالإنتماء أكثر الى جمهورية أذربيجان أم الى روسيا؟

هنا كانت المفاجأة المذهلة، حين أجاب كبيرهم:

  • بل نحن ننتمي إلى أئمتنا في العراق وإيران والحجاز.

وقال آخر:

  • أنا وأبي هذا وأختي الكبيرة هذه، ذهبنا مرتين الى العراق للمشاركة في أربعينية الإمام الحسين، ومشينا كل الطريق بين النجف وكربلاء. وكنا هناك نتنفس هواءنا الحقيقي، ونختلط بأهلنا وقومنا.

وكانت أخته تجلس الى الطاولة بكامل زينتها وملابسها غير المحتشمة، وهي تصغي بجدية الى حديث أخيها وقد اغرورقت عيناها بالدموع. وأشارت الى أحد الصبيان وهي تقول بفخر:

  • هذا إبني داوود، عمره الآن تسع سنوات، وهو يلطم سنوياً على الحسين منذ كان عمره أربع سنوات.

وهنا كدتُ أنفجر بالبكاء، وقلتُ في نفسي: كم هو عميق هذا الحجم النوعي الهائل من الانتماء العاطفي الوجداني الذي يختزنه الشيعي في قلبه وعقله، والذي لا يزال يحافظ على وحدة النظام الاجتماعي الديني الشيعي العالمي منذ مئات السنين؛ فهذه العائلة الروسية الشيعية، برغم بُعدها عن مظاهر الالتزام الديني، وربما العقدي، إلّا أنها مندكة بصميم واقعها المذهبي ونظامها الاجتماعي الديني.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment