فقه المستقبل

Last Updated: 2024/04/22By

فقه المستقبل

د. علي المؤمن

ما يرد على علم الكلام وأهمية تجديده، يرد على علم الفقه أيضاً، من ناحية آفاقه ومنهجه في رؤية الواقع، وما ينطوي عليه هذا الواقع – الجديد أو الذي سيستجد – من موضوعات هائلة في حجمها وسرعة حركتها وتزايدها؛ الأمر الذي يستدعي إعادة الاكتشاف في الشريعة وأبعادها، بعيداً عن بعض زوايا النظر التي تحول دون استيعاب الفقه لكل قضايا الحياة وتعقيداتها؛ باعتباره قانون الحياة الذي ينظم علاقة الإنسان بنفسه وربه وبالطبيعة وبالإنسان الآخر. ومن هنا فإن هذا القانون يتسع لكل قضايا الفرد والمجتمع، وعلى صعد الحياة كافة، السياسية والاقتصادية والثقافية والإعلامية والأمنية والدفاعية والعلمية والتكنولوجية وغيرها. ولا شك أنّ ما يضمّه الإنتاج الفقهي (المورث والمعاصر) في هذه المجالات لا يمكن أن يعتد به قياساً بالأبواب التقليدية. فضلاً عن أن هذه المجالات لم يتم تأصيلها فقهياً بالشكل الذي تتحول فيه إلى نُظُم فقهية متكاملة ومستقلة، ربما باستثناء الفقه السياسي، والذي لا يزال – هو الآخر – بحاجة إلى المزيد من الجهد الفقهي الذي يستوعب النظم الأخرى للدولة الإسلامية، فضلاً عن حل الإشكاليات التي ظلت عالقة في مجال النظام السياسي، وازدادت تعقيداً بفعل ما يطرأ على الواقع الإسلامي والعالمي من موضوعات جديدة يصعب اللحاق بها.

وفهم الموضوعات المتحولة والمتغيرة التي كانت أحكاماً سابقة، وفهم خلفيات هذا التحول، وفهم موضوعات الحوادث الجديدة الواقعة أو التي ستقع، أي الواقعة بالفعل أو بالقوة، وفي مختلف المجالات، ومن ثم إصدار الأحكام الشرعية المناسبة لها، بصورة إجابات متناثرة أو منظومات فقهية، مع الأخذ بنظر الاعتبار مقاصد الشريعة وما يتطلبه ذلك من وعي فقهي شمولي واجتماعي بالواقع، يستدعي إضافات نوعية لآليات الوصول إلى الحكم الشرعي، وأبرزها آلية الاجتهاد، بهدف تحقيق مقولة «الاجتهاد الجديد»، ليس بمعنى استعارة مناهج جديدة غريبة عن بنية الفقه، وإنما بمعنى تطوير هذه الآلية فنياً ومنهجياً بما يتلاءم وحركة الحياة المتجددة. ويمكن في هذا المجال استعراض أهم الأفكار التي يرددها بعض الفقهاء والمفكرين، باعتبارها عينات مطروحة على طاولة البحث والحوار بين أصحاب الاختصاص:

1 – تفعيل دور الزمان والمكان في تغيير موضوعات الأحكام، وفهم هذه الموضوعات وفهم الفقيه للدليل، ووعي مقصد الشريعة حيال الموضوعات الجديدة. ويتدخل هذا الدور في وعي الفقيه، من خلال الانفتاح على علوم العصر وثقافاته وحقائقه ومتغيراته؛ ليكون فهمه لموضوعات الأحكام فهماً واقعياً وميدانياً وحسّياً، ووعيه أكثر التصاقاً بالحقيقة الدينية وبمقصد الشريعة. ولعل الإمام الخميني في مقولته: ((المعرفة الدقيقة في العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية تحوّل الموضوع الأول – الذي لم يتغيّر في الظاهر – إلى موضوع يستلزم حكماً جديداً بالضرورة)) يعبّر بوضوح عن هذا الاتجاه. كما أنه – في مقولة أخرى – يستشرف ضغط عامل الزمان والمكان في بروز الحاجات الجديدة، ويؤكد على ضرورة استعداد الفقه للتعاطي المباشر مع هذا العامل: ((سيتغيّر الكثير من الطرق السائدة في إدارة أمور الناس في السنوات القادمة، وستحتاج المجتمعات الإنسانية إلى المسائل الإسلامية الجديدة لحل مشاكلها، ويجب على علماء الإسلام التفكير بهذا الموضوع من الآن)).

وبذلك فإن عدم معالجة الفقهاء لدور عامل الزمان والمكان في إعادة تشكيل وعي المجتمعات الإسلامية وحاجاتها سيؤدي إلى تطفّل غير المتخصصين، بدعوى ملء هذا الفراغ، ليس بإصدار الفتاوى والأحكام وإنما للمطالبة بآليات ومناهج جديدة للتفقه ولقراءة الشريعة!، ومحاولة العبور على ثوابت الشريعة. ولعل من أخطر هذه المناهج منهج «القراءة التاريخية للنص الديني»، أو «تاريخانية الدين»، والذي يدعو إلى حصر دلالة النص في زمنه.

2 – الانفتاح الفقهي بين المذاهب الإسلامية، والوقوف على إمكانية الاستفادة من بعض آليات الاجتهاد وقواعده وأدلته لديها، بهدف تكييف المعضلات التي يجد الفقيه نفسه مُحرجاً أمامها، ولا سيما المعضلات المستحدثة. ويستدعي هذا عودة أخرى للأصول المقدسة ومحاولة إعادة اكتشاف الأدوات والقواعد والأمارات الفقهية والأصولية، فضلاً عن التأصيل المذهبي لبعض الأدوات التي تستخدمها المذاهب الأخرى.

3 – الاجتهاد الجماعي أو ما يسميه بعض الفقهاء بالاجتهاد المجمعي، وهو الاجتهاد الذي يمارسه مجموعة من الفقهاء بصوت عالٍ وهم مجتمعون حول طاولة واحدة، سواء بهدف الخروج بحكم شرعي أو التأسيس لمنظومة فقهية في أحد المجالات. وهذا اللون من الاجتهاد ضروري جداً في الموضوعات التي تستدعي إحاطة واسعة ومعمقة بها وبالأدلة الشرعية وقواعدها، ولا تكتفي بالحكم بل بالمعالجة الموسعة التي قد ينتج عنها باب فقهي جديد، وهي موضوعات تتوالد بشكل يومي. وتتمثل آليته في البحوث التي يطرحها الفقهاء، والتي يكمل بعضها الآخر موضوعياً ومنهجياً، ثم مناقشتها مناقشة وافية من خلال الحوار المباشر، ثم تدوين المحصلة أو النتائج التي يخرجون بها، سواء اتفقوا على نتائج موحّدة أو متقاربة، أو نتائج مختلفة تمثل عدداً من الاحتمالات (الاجتهادات). وقد يستدعي الحوار الفقهي الجماعي هذا حضور متخصصين بالموضوع من غير الفقهاء، كالأطباء وعلماء الفيزياء والكيمياء وغيرهم، أو المفكرين والمثقفين الدينيين، من المحيطين بأبعاد الموضوع ومصاديقه وخلفياته وآفاقه.

وفي الاتجاه نفسه تبرز ضرورة التخصص الفقهي الموضوعي، فتشعب العلوم وتراكم الموضوعات يتطلب فقهاء متخصصين في مجال أو باب محدّدين، مع استيعاب عام – بالطبع – للمسائل الفقهية الأخرى. هذا التخصص سيخلق عمقاً في فهم الموضوع والدليل والمنهج ومقصد الشريعة، ووعياً كافياً بالواقع ومقتضياته. وإذا وضعنا آلية الاجتهاد الجماعي أو البحث الفقهي المجمعي وأسلوب الاستعانة بالمتخصصين إلى جانب آلية التخصص الفقهي الموضوعي فستكون النتائج منسجمة مع نوعية الموضوعات الجديدة وحجمها.

4 – اكتشاف مساحات الفراغ التشريعي أو التفويض التشريعي القائمة أو التي ستطرأ، في إطار ما يقدمه السيد محمد باقر الصدر من تفسير متكامل لاستراتيجيا الشريعة في استيعاب تطورات العصر، إذ يقول: ((الإسلام لا يقدم مبادئه التشريعية… بوصفها علاجاً مؤقتاً، وإنما يقدمها باعتبارها الصورة النظرية الصالحة لجميع العصور. فكان لابد لإعطاء الصورة هنا العموم والاستيعاب أن ينعكس تصور العصور فيها، ضمن عنصر متحرك يمد الصورة بالقدرة على التكيّف وفقاً لظروف مختلفة. ولا تدل منطقة الفراغ على نقص في الصورة التشريعية، بل تعبّر عن استيعاب الصورة، وقدرة الشريعة على مواكبة العصور المختلفة)).

لا يعني ذلك قدرة الشريعة على تكييف تلك المساحات بالصورة التي تستوعب التطور في الواقع وحسب، بل تعني أيضاً إعطاء الإنسان، في أي زمن أو مكان عاش، الفرصة لتكييف واقعه الجديد وفقاً للعناصر المتحركة في الشريعة، وهو ما يمكن أن يُطلق عليه «التفويض التشريعي». ولا شك أن كلا التكييفين لا يخرجان عن إطار آلية الاجتهاد الشرعي، وفي حدود الموضوعات الجديدة التي ليس فيها نص أو قاعدة فقهية أو أصولية، وكذلك الموضوعات المتغيّرة التي تستدعي حكماً جديداً، أو الموضوعات التي تتسبب الظروف الطارئة في إصدار أحكام ثانوية لها. وهي لا شك مساحات تتسع باطراد، ويتطلب اكتشافها وملؤها جهوداً فقهية استثنائية.

والحقيقة أن سماح الشريعة بوجود هذه المساحات يعدّ أهم عنصر من عناصر المرونة في الشريعة، بل الدليل العقلي الأبرز على خلودها. وتمتد المرونة في الشريعة إلى المساحات التي فيها نص أيضاً، ولكن في إطار القواعد الفقهية التي تنظر إلى «العناوين الثانوية»، وهي عناوين طارئة تؤثر على الأحكام الأولية، أو في إطار المصلحة (الشرعية) التي تستوجب أحكاماً ولائية تتجاوز – في الحالات الضرورية والطارئة – الأحكام الأولية أيضاً. والمهم أن عناصر المرونة هذه، إذا ما أحسن استثمارها، هي الرهان الأساس الذي يحفز الفقه على الاستجابة لكل التطورات الزمكانية ولكل المؤشرات على ظهور واقع جديد.

5 – الفكر الفقهي الاجتماعي يمنح الرؤية الفقهية بعداً شمولياً يستوعب الواقع الاجتماعي والفردي المتشابك، وينفتح على المدلول الاجتماعي للنص والدليل الشرعي، بينما تحجز الرؤية التجزيئية نفسها في زاوية النظرة اللفظية للنص والفهم ذي البعد الواحد للدليل الشرعي، وتؤكد على معالجة واقع الفرد، وتنظر إلى حاجاته وكأنها منفصلة عن مجمل حركة المجتمع الإسلامي، أي أنها لا تنظر إلى الأبعاد الأخرى للموضوع وتأثيراته وشبكة العلاقات التي تربطه بالموضوعات الأخرى، وهو ما اعتاد فقه الأفراد على ممارسته في عملية الاجتهاد. ولا شك أن مشكلة الفرد لا يمكن معالجتها بمعزل عن حل المشكلة الاجتماعية برمّتها، الأمر الذي يستدعي طرح المشكلة الاجتماعية بكل أبعادها على طاولة البحث الفقهي؛ للخروج بمنظومة فقهية اجتماعية تستوعب حاجات الفرد أيضاً، إذ أن معظم الأحكام الفردية – ومن بينها العبادات بالمعنى الأخص – لا يمكن تجريدها من بعدها الاجتماعي.

واستخدام هذه الرؤية الاجتماعية الشمولية يتطلب وعياً تكاملياً لدى الفقهاء يشد كل مجالات الحياة ببعضها كالسياسة والاقتصاد والثقافة وغيرها، وهو ما يعبّر عنه الإمام الصدر بالفهم الاجتماعي للدليل الشرعي. وتضاف إليه ضرورة أخرى تتمثل بتجسير العلاقة بين علم الكلام وعلم الفقه، أو العلاقة بين الشريعة والرؤية الكونية الإسلامية بأبعادها الفلسفية والكلامية والايديولوجية، أو بين أصول العقيدة والأحكام الفقهية، وبالتالي توحيد الرؤية العقيدية والرؤية الفقهية، وهو ما يؤكد عليه – بشكل وآخر – فقه المقاصد ومنهج فلسفة الفقه. فالفكر الفقهي الاجتماعي – إذن – يتحرّك أفقياً من خلال شد عناصر الحياة ببعضها، ويتحرك عمودياً من خلال توحيد الرؤية الكونية الإسلامية والرؤية الفقهية.

6 – يمكن لفقه المقاصد أو مقاصد الشريعة، إذا تم تطويره من الطابع الخطابي وتحويله إلى حقل علمي متكامل ثم توظيفه في القضايا الفقهية، أن يقدم فهماً أشمل للشريعة، ويتجاوز النظرة التجزيئية والفهم الحرفي لها، من خلال تعمقه في معرفة مراد الشارع وقصد الشارع من الحكم أو الدليل، إضافة إلى شد الأحكام ببعضها لاستقراء كليات الشريعة ومقاصدها العامة، في إطار منهج يمزج بين العقل والنقل. ومن ثم يتم عرض كل دليل أو حكم على هذه المقاصد للوقوف على حقيقة تطابقها مع حكمة الشارع ومراده. وهناك مقاصد عامة لكل الشريعة ومقاصد خاصة لكل باب فقهي ومقاصد جزئية لكل حكم، والمقاصد الخاصة والجزئية تلتقي مع بعضها في إطار المقاصد العامة لكل الشريعة.

وقد لاحظ الشيخ إبراهيم الشاطبي، وهو الذي بلور الخطوط العامة لهذا الحقل من خلال استقرائه للشريعة، أنها وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس: الدين، النفس، النسل، المال والعقل، وأن كل الأحكام الفقهية لابد أن تراعي هذه الضروريات، وهو ما قرره الفاضل المقداد السيوري أيضاً (وهو معاصر للشاطبي). وذلك يعني وحدة الموقف بين العقيدة والفقه، وتوقف الحكم الفقهي على استيعاب أصول العقيدة وفلسفتها، وبكلمة أخرى: إرجاع الفروع إلى الأصول، وفهم الأدلة الجزئية وغاياتها على أساس الكليات التشريعية. ولا شك أن مقاصد الشريعة لا تقتصر على الضروريات التي استنبطتها تجربة الشاطبي أو تجربة المقداد، بل تتسع لضروريات أخرى، كما قرر ذلك الفقهاء والأصوليون الذين جاءوا بعدهما، ولا سيما المعاصرين منهم، وأبرزهم الطاهر بن عاشور، الذي ذكر بأن المقاصد العامة للشريعة تتمثل في: حفظ النظام، جلب المصالح، درء المفاسد، إقامة المساواة بين الناس، جعل الشريعة مهابة مطاعة نافذة، جعل الأمة قوية مرهوبة الجانب مطمئنة البال وغيرها. أما المقاصد الخاصة للشريعة فتتمثل في: تحقيق مقاصد الناس النافعة وحفظ مصالحهم العامة في تصرفاتهم الخاصة.

وتطرح اليوم مناهج أخرى مكمّلة لفقه المقاصد أو تهدف إلى تطوير فقهي مواكب للتطور الهائل الذي يشهده الواقع، مثل فقه الأولويات وفلسفة الفقه، ففقه الأولويات يعنى بفهم الواقع وتكييفه مع مراد الشارع، أي أنه يجمع بين مقاصد الشريعة وأولويات الواقع عبر فهم وظيفة التديّن وفلسفته، والتفريق بين الدين والتدين. ومنهج فقه الأولويات منهج مركب، أي أنه يجمع بين استثمار بعض القواعد والأمارات الفقهية والأصولية ذات العلاقة (التعارض، التزاحم، التيسير، الضرورات، المصلحة وغيرها) واستثمار العقل ومستقلاته والعرف والخبرة والتجربة العلمية الإنسانية. وتنقسم الأولويات إلى أولويات الفرد وأولويات المجتمع وأولويات الأمة وأولويات الدولة وأولويات البشرية، وهي أولويات واقعية يحددها منهج فقه الأولويات عبر عرضها على فقه المقاصد ليتعرف على رأي الشريعة، وعندها تتم الإجابة في وقت واحد على سؤال: ماذا يريد الواقع وماذا تريد الشريعة؟

أما فلسفة الفقه فهي أحدث فكرة تطرح على صعيد تطوير آليات الاجتهاد والنظام الفقهي إنتاجاً ومنهجاً وأصولاً وأُفقاً، ولا تزال في طور التشكل الذي تتخلله تجاذبات وآراء تنقله من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وبالعكس. ولكن عموماً يمكن لهذا الحقل، بعد تبلوره وتحوّله إلى حقل علمي متكامل، من اكتشاف غايات الفقه ومقاصده ومساحة حركته وعلاقته بتطور الخبرة الإنسانية والعلوم البشرية، وأساليب فهم النص واستظهار الدليل الشرعي، وتأثير الرؤية الكونية والقبليات العقيدية والفلسفية والفكرية والثقافية على هذا الفهم والاستظهار. أي أن فلسفة الفقه تتحرك على ثلاثة محاور: غايات «الفقه» ومصادره ومساحاته، وعي «الفقيه» وثقافته وقبلياته، وتأثير «الواقع» وحاجاته. وهو بذلك يشترك مع فقه المقاصد وفقه الأولويات والفكر الفقهي الاجتماعي في معظم المساحات، ولكنه يعتمد منهجاً آخر يقترب من فلسفة الدين.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment