فشل الإسلام السياسي وحلم البديل العلماني

Last Updated: 2024/04/22By

فشل الإسلام السياسي وحلم البديل العلماني

د. علي المؤمن

أود هنا الإشارة إلى موضوع فرعي يتعلق برؤية الجماعات العلمانية للأحزاب الإسلامية الحاكمة وعلاقتها بفشل الدولة العراقية بعد العام 2003. هذه الجماعات التي تعبر عن نفسها غالباً بالحراك المدني؛ هي خليط من الشيوعيين والقوميين العرب والعلمانيين المستقلين وبقايا النظام السابق وبعض المرتبطين بالكتل العلمانية السياسية الطامحة إلى المشاركة في البرلمان والحكومة، ولكل منه خلفياته ودوافعه وأهدافه الفكرية والسياسية في اتهام الإسلاميين بالفشل في إدارة العملية السياسية والدولة والحكومة، وفي المطالبة باستبدالهم بالعلمانيين والمدنيين والتكنوقراط؛ لأن هؤلاء أقدر على إنهاء أزمات العراق، ويضعون لافتة عريضة لهذه المطاليب عنوانها: «فشل الإسلام السياسي»؛ بسبب الايديولوجية الدينية المغلقة للإسلاميين، وانعدام خبرتهم بالحكم وإدارة الدولة، وفسادهم المالي، وارتباطهم بإيران. ويقصدون بذلك فشل الحركات الإسلامية في الحكم من جهة، وفشل الشيعة في حكم العراق من جهة أخرى.

وأوضح بأن مصطلح «الإسلام السياسي» غير صحيح علمياً؛ إذ لا يوجد إسلام اقتصادي وإسلام ديني وإسلام إعلامي وإسلام سياسي. بل هناك حركات إسلامية سياسية وجماعات إسلامية دينية ومؤسسات إسلامية ثقافية. ومصطلح الإسلام السياسي هو ترجمة لـ (Political Islam) وقد نحته باحثون أمريكان؛ كما هو الحال مع مصطلح الأصولية (Fundamentalism)؛ لإيصال فكرة محددة عن الحركات الإسلامية إلى مخاطبيها الغربيين. وبالتالي فالمصطلح مفصل على مقاس العقل الغربي وحاجاته السياسية والإعلامية والبحثية. وليس مشكلة المصطلح في كونه صادراً عن منظومة العقل الغربي؛ بل لأنه يتعارض مع طبيعة الإسلام ونظمه.

أرى أن هناك تناقضاً بين مطالب التيار العلماني المذكورة وبين مزاعم انتماء مكوناته إلى الفكر الديمقراطي؛ فالعملية الديمقراطية تستند إلى نتائج صناديق الاقتراع، وليس إلى فعل العنف أو الاعتصامات أو التحريض على الاستبدال بالقوة. كما أن اتهام الإسلامي بالفشل، والعلماني أو التكنوقراط المستقل بحتمية النجاح لا يستند إلى أي معيار علمي. أما الفساد فلا علاقة له بالايديولوجيا؛ لأنه حالة إنسانية عامة لا تقتصر على جماعة دون أخرى؛ مهما كان نوع انتمائها. ولكن يبقى من حق العلماني أن يحكم؛ كما الإسلامي، وهذا يرتبط بثقة الشعب وأصواته؛ بصرف النظر عن دوافع هذه الثقة وخلفياتها. وقد جربت جميع الجماعات حظوظها في الانتخابات؛ فكانت النتيجة دائما فوزاً ساحقاً للإسلاميين الشيعة. فإذا أخذنا الانتخابات البرلمانية للعام 2014؛ سنجد أن ائتلافين إسلاميين شيعيين عمودهما الفقري حزب الدعوة الإسلامية والمجلس الأعلى الإسلامي والتيار الصدري وحزب الفضيلة الإسلامي وتيار الإصلاح؛ حصدا أكثر من (170) مقعداً في البرلمان. بينما لم يحصد العلمانيون الشيعة من المنتمين إلى عشرات التحالفات والائتلافات والكتل ذات الأسماء الكبيرة؛ أكثر من عشرة مقاعد. فما هو الإجراء في هذه الحالة لنستبعد الإسلاميين عن الدولة والحكومة والوزارات ودوائر الدولة، ونستبدلهم بالعلمانيين أو التكنوقراط المستقلين؟! هناك أربعة خيارات:

1 – خيار استبدال الشعب العراقي:

ويعني استبدال الشعب العراقي المسلم، بأكثريته الشيعية المحافظة؛ المجيء بشعب آخر مكانه، يكون علماني التوجهات، من أجل أن ينتخب العلمانيين أو من يطلقوا على أنفسهم المدنيين. وهذا خيار مستحيل بكل المعايير.

2 – خيار تغيير معادلات الاجتماع الديني والثقافي والسياسي:

ويتم هذا الخيار بالطرق السلمية لصالح التيارات العلمانية؛ فيتبعه تغيير تلقائي في توجهات الشعب العراقي. وهذا الخيار ممكن؛ لكنه يحتاج من العلمانيين إلى عقود طويلة من العمل الشاق، بالتزامن مع توقف الإسلاميين عن أي فعل ثقافي واجتماعي وسياسي. وبالتالي فهو خيار بطيء وصعب التحقق وغير مضمون النجاح.

3 – خيار تحالف العلمانيين مع جماعة إسلامية شيعية:

ويفترض بهذه القوة الشيعية أن تكون كبيرة، سواء أحد الحزبين الكبيرين: حزب الدعوة الإسلامية والتيار الصدري، أو إحدى المنظمتين المقاومتين الكبيرتين: منظمة بدر وعصائب أهل الحق؛ تحت شعار الإصلاح والقضاء على الفساد ورفض المحاصصة وحكومة التكنوقراط. وبعد نجاح هذا التحالف في اكتساح الساحة السياسية بقوة الشارع وفرض الأمر الواقع؛ وصولاً إلى استلام السلطة؛ تقوم الجبهة العلمانية بما تمتلكه من خبرة تراكمية ورثتها من العهد الجمهوري؛ بالانقلاب على الحليف الإسلامي واجتثاثه أسوة بالأحزاب الإسلامية الأخرى المجتثة سلفاً. وهذا الخيار ممكن أيضاً؛ ولكن تحققه في غاية الصعوبة؛ لأن الحركات الإسلامية لا يمكن أن تُستغفل أو تدخل في تحالفات تخسر من خلالها كل شيء، كما لا يمكنها الخروج – طوعاً أو كرهاً – عن خيمة المرجعية العليا وولاية الفقيه. وقد جرب العلمانيون حظوظهم في التحالف الميداني مع التيار الصدري في تظاهرات واعتصامات الأشهر الستة الأولى من العام 2016، واستطاعوا جر بعض جماهير التيار الصدري إلى سلوكيات غير مقبولة قانونياً وسياسياً واجتماعياً؛ إلّا أن العلمانيين اكتشفوا أنهم أقلية في العدد والعدة وسط أكثرية ساحقة من أنصار التيار الصدري؛ الذين يمثلون أكثرية مذهبية بالفطرة؛ لأن انقيادهم للسيد مقتدى الصدر هو بدوافع مذهبية. كما اكتشف العلمانيون أن تأثيرهم ينتهي في الميدان ولا يرقى إلى قطف الثمار سياسياً، وأن ركوب موجة التيار الصدري؛ ثم الانقلاب عليه بعد تحقيق أهداف الإطاحة بالإسلاميين والعملية السياسية برمتها أمر مستحيل؛ بل العكس هو الصحيح؛ إذ كانت نتائج التظاهرات والاعتصامات يحصدها التيار الصدري حصراً؛ إن كانت هناك نتائج.

4 – خيار القوة والعنف:

ويتمثل خيار القوة والعنف بحالتين:

أ – الانقلاب العسكري: بمعنى العودة إلى عهود انقلابات العلمانيين في الأعوام 1958 و1963 و1964 و1968، وخلال ذلك يقوم الانقلابيون العلمانيون بمنع جميع الإسلاميين من ممارسة العمل السياسي، واعتقال كثير منهم، وإعدام عدد مهم من رموزهم، وإغلاق باب المرجعية الدينية النجفية ومنعها من أي تدخل في الشأن العام؛ وصولاً إلى إعادة العمل بالقرار 449 للعام 1980 الموقّع من صدام حسين، والقاضي بإعدام كل من ينتمي إلى حزب الدعوة ويروج أفكاره ويعمل على تحقيق أهدافه، وبمعني آخر «اجتثاث الإسلاميين» وحاضنتهم الدينية.

ب – الاحتلال العسكري الأجنبي: وهو يعني العودة إلى العام 1921، حين استورد الإنجليز أميراً علمانياً سنياً غير عراقي ليحكم العراق ذا الأغلبية الشيعية المتدينة بدستور علماني؛ رداً على ثورة الشعب العراقي الوطنية الإسلامية في العام 1920 ومطالبتهم بحكم وطني إسلامي، ثم جاءت الحكومات العلمانية الطائفية الواحدة تلو الأخرى وهي تطبق تعاليم الإنجليز بالصيغ العلمانية الطائفية التي تكشف عنها قوانين وسلوكيات ياسين الهاشمي وساطع الحصري وغيرهما..

وأرى أن الخيار الأخير؛ أي خيار العنف؛ بحالتيه الانقلابية والاحتلالية هو الخيار الممكن الوحيد، لأن الأحزاب والجماعات العلمانية؛ سواء الليبرالية أو الماركسية أو القومية؛ لا تزدهر ولا تنمو ولا تستطيع فرض سيطرتها على الواقع السياسي والسلطة إلّا عبر سلطة القهر؛ سواء في ظل الاحتلال؛ كما حدث بعد العام 1917؛ حين هيمن العلمانيون الليبراليون (المحليون والمستوردون) على الحكم بالطائفية والتغريب والعمالة، أو في ظل الأنظمة العسكرية؛ كما حصل خلال الحكم العسكري القاسمي بعد العام 1958؛ حين هيمن العلمانيون الشيوعيون على الساحة السياسية بالعنف والترهيب وسحل الجثث، أو خلال الحكم العسكري العارفي حين هيمن العلمانيون القوميون الطائفيون على السلطة بالقمع والقتل وحروب الشوارع، أو خلال الحكم العسكري البعثي بعد العام 1968 حين تسلط العلمانيون البعثيون الطائفيون على مقدرات العراق بأبشع أساليب الإرهاب والإفساد والقتل الجماعي والتدمير الشامل للبلاد.

ولا يمتلك العلمانيون والمدنيون الحاليون سوى الركون إلى خياري الاحتلال والقهر المسلح الذين يمثلان إرث العلمانيين والمدنيين السلف؛ خلال مطالباتهم بإزاحة الإسلاميين عن الحكم، واستبدالهم بحكومة علمانية مدنية مستقلة. وإلّا فإن العملية الديمقراطية والانتخابات الحرة ستبقيان تدفعان الإسلاميين الشيعة إلى قيادة الدولة والحكومة؛ لأنهم ثمرة معادلة الاجتماع السياسي والثقافي والديني العراقي. فالحركات الإسلامية العراقية؛ كحزب الدعوة والمجلس الأعلى والتيار الصدري وحزب الفضيلة ومنظمة بدر وعصائب أهل الحق وكتائب حزب الله وغيرها؛ هي حركات لصيقة بالاجتماع الديني والسياسي والثقافي العراقي، وهي جزء أصيل منه، وليس طارئ؛ بصرف النظر عن أدائها وممارساتها وسلوكيات أعضائها. وهذا الأداء هو – في الحقيقة – إفراز للواقع الاجتماعي؛ بكل سلبياته وإيجابياته.

ومن هنا فإن وجود الحركات الإسلامية الشيعية والسنية، والحركات القومية العربية والكردية (في إطار المكون السني تحديداً)؛ هو تمظهر سياسي طبيعي للاجتماع العراقي، ولا علاقة لذلك بوجودها في السلطة أو عدمه، أو ما تقدمه للناس من خدمات وإنجازات. على العكس من الأحزاب الليبرالية والعلمانية غير الإسلامية وغير القومية؛ فهي طارئة على الاجتماع السياسي والثقافي العراقي، ومنفصلة عنها، ولا تهيمن إلّا في ظروف استثنائية؛ كالاحتلال والانقلاب العسكري. وإذا كان هناك تفكير في إيجاد بدائل لحزب الدعوة والمجلس الأعلى العراقي والتيار الصدري في الوسط الشيعي وغيرها؛ فلن تكون البدائل غير أحزاب من النوع نفسه والشكل نفسه والمضمون نفسه والممارسة نفسها، ولن يكون البديل ليبرالياً وعلمانياً.

وهكذا الأمر بالنسبة لحزب البعث والحزب الإسلامي في الوسط السني العربي، والحزب الديمقراطي والاتحاد الوطني في الوسط السني الكردي. ويمكن المقارنة في النفوذ السياسي لهذه الأحزاب في حواضنها الاجتماعية؛ من خلال نتائج الانتخابات المحلية والبرلمانية منذ العام 2003 وحتى الآن، وهو نفوذ طبيعي لا يرتبط بموضوعة السلطة واستغلال أدوات السلطة أو الدعم الإيراني. ربما يكون لاستثمار هذه الأدوات وهذا الدعم دور في رفع منسوب النفوذ؛ ولكنه ليس علة النفوذ أو سبباً له. وهذا ما تحدده توجهات الاجتماع السياسي والديني والثقافي العراقي بكل تفاصيله. فالناخب الشيعي العربي والكردي والتركماني والشبكي يحمل توجهات مذهبية في الغالب، ويدين بالطاعة إلى رمزيات دينية مذهبية؛ على رأسها المرجعية الدينية النجفية والحركات الإسلامية. ولا يمكن تغيير هذه الثقافة الأصيلة مطلقاً. والدليل أن اثنين وثمانين عاماً من ثقافة القهر التي مارسها الحكم الطائفي العنصري للدولة العراقية، وخمسة وثلاثين عاماً من ثقافة الاستحالة التي مارسها الحكم الشوفيني البعثي؛ سقطت كلها في لحظة واحدة من آذار/ مارس من العام 1991 (الانتفاضة الشعبانية)، ثم في نيسان/ أبريل من العام 2003 (سقوط نظام صدام)؛ لأن بنية الاجتماع السياسي الشيعي العراقي قائمة على ركيزة دينية ثقافية نفسية تاريخية؛ أي أنه ليس تمظهراً سياسياً صرفاً؛ لكي نتوقع مجيء بدائل ليبرالية وعلمانية؛ بل هو خليط من الاجتماع الديني والاجتماع الثقافي والاجتماع السياسي. وهو ما ينطبق على توجهات الناخب السني العربي؛ فهي توجهات قومية مذهبية مركبة؛ ولذا تتوزع خياراته غالباً بين الجماعات الإسلامية والجماعات القومية. أما الناخب السني الكردي؛ فتوجهاته قومية غالباً؛ فلا يمكن أن ينتخب غير الأحزاب القومية الكردية؛ بل حتى الأحزاب الإسلامية والماركسية الكردية يتوزع انتماؤها بين العقيدة والقومية. ومن هنا يمكن للحركات الايديولوجية القومية العلمانية أن تنجح بقوة في الوسط السني العربي والكردي والتركماني؛ ولكنها لن تنجح في الوسط الشيعي العربي والكردي والتركماني. وبالتالي فإن الحديث عن بدائل عابرة للاجتماع السياسي الشيعي أو الاجتماع السني العربي أو الاجتماع السني الكردي؛ هو حديث تمنيات ورغبات لا أكثر.

ولا تقتصر مظاهر الاجتماع السياسي الشيعي على العراق وحسب؛ بل هي قائمة في كل البلدان الأخرى؛ من الهند وباكستان وأفغانستان وحتى إيران والبحرين والكويت ولبنان. ولا يمكن أن يكون العراق استثناء؛ لاسيما وأنه يتصدر الاجتماع الديني الشيعي منذ أكثر من 1400 عاماً؛ وهو عمر الإسلام في العراق.

 

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment