فرح المعرفة وفرح الجمادات

Last Updated: 2024/04/22By

فرح المعرفة وفرح الجمادات

د. علي المؤمن

يستغرب بعض أصدقائي السياسيين ورجال الأعمال حجم فرحتي عندما يصدر كتابٌ جديد لي، أو عندما يُنشر مقالٌ لكاتب وباحث عن أحد كتبي أو عن أفكاري، أو حين أقدم محاضرة فيها جديد، أو حين يقام حفل توقيع وتكريم لي، أو عندما أحضر مناقشة رسالة أحد طلابي، كما يستهجن بعضهم أن أصرف أغلب مردودي المادي البسيط على مشاريع بحثية وثقافية وخيرية، ولا أفكر ـــ مثلاً ــ بشراء بيت أو سيارة، ويمتعضون حين نستغرق مع بعض الأصدقاء المتشابهين في الاهتمامات، في النقاشات الفكرية والثقافية، ويعدونها ترفاً ذهنياً و(بطر). أما استغراقهم هم في أحاديث السياسية اليومية والمناصب والمشاريع الاقتصادية والاستثمارات؛ فيعدونه صلب الواقعية والاندكاك بالحقائق وبمتطلبات الحياة.

وفي المقابل؛ أستغرب حجم فرحتهم حين يتحدثون عن شراء بيت جديد بمئات الملايين، أو مواصفات سيارة دفع رباعي فخمة جديدة، أو مشروع استثماري جنوا منه كذا مليون دولار، أو منصب رفيع، أو حسابات مصرفية عامرة باسم أولادهم؛ لأنني أعتقد أن هذه الأمور المادية العابرة الزائلة لا تشكل أية ميزة ولا أية مدعاة للتفاخر والفرح الحقيقي، مقابل إنجاز فكري وثقافي، ومشروع معرفي، وعمل خيري، بل لا أجد أية ميزة لبيوتهم وقصورهم على بيتي المستأجر، ولا لسياراتهم الفخمة على التكسي الذي أركبه، ولا يشغل هذا الموضوع أي حيز من تفكيري، إلّا بمقدار ما يشكل لي مادة للدراسة والتأمل.

وأجد غيرتهم تُثار أحياناً من الصديق الفلاني، لأنه اشترى فيلا في الدولة الفلانية أكثر فخامة، أو أن الصديق الآخر أضاف سيارة جديدة بمواصفات متميزة لأسطوله، وأن الصديق العلاني ربح الصفقة الكذائية أو حصل على هذا المنصب وذاك.

بينما لا يتسرب الى نفسي أي إحساس بأن هذه الجمادات والمواقع يمكن أن تفرحني إذا حصلت عليها، ليس لأنني لم أجربها؛ بل لأنني لا أمتلك خاصية الشعور بالفرح والتفاخر في الجمادات، التي هي مجرد وسائل للعيش الطبيعي، لا أكثر، ولا يأخذون منها الى قبورهم ولا بحجم رأس إبرة، بل يتحملون وزرها، حتى بعد أن يورثونها للأبناء والأصهار، بينما سآخذ معي الى قبري أعمالي المعرفية المنذورة، وهي باقيات صالحات وزكاة دائمة وصدقة جارية، تنفع البلاد والعباد، ولن أتحمل وزر ما سأورثه لأولادي؛ بل سيرثون ما يزيدهم فخراً وعزاً.

ولست هنا في وارد نقد أحد أو نقد ظاهرة، أو تسجيل فضيلة لأهل المعرفة، أو إلقاء درس في الزهد والعمل للآخرة، إطلاقاً؛ فلست زاهداً ولا صوفياً ولا منعزلاً للعبادة عن فتن الدنيا، بل هدفي هو الحديث عن إشكالية نفسية إنسانية تكوينية، لا دخل للإنسان ـــ غالباً ـــ في التأسيس لها داخله أو صناعتها في جيناته وعقله وقلبه؛ فلكل إنسان عشقه وهواه وهواياته وميوله ورغباته ومزاجه؛ فإذا كان عشق بعض الناس وهواهم يتلخص في الجمادات والمناصب والأموال؛ فأنا عشقي يتلخص في القلم والورقة والكتاب والمعرفة، وكلانا من حقه أن يعيش عشقه وهواه، ولا يمكن أن نُلام على ما نعشق، لطالما كان عشقاً حلالاً من ناحيتي القانون والشرع، ولا يؤثر سلباً على الآخرين ولا يتجاوز على حقوقهم وحرياتهم.

ولكن؛ في الوقت نفسه، ينبغي لإنسان الجمادات كبح جماح نفسه، والتوفيق بين أهوائه وهواياته الحسية وعشقه للمال والمناصب والجاه المادي و(الفخفخة) الاجتماعية، وبين العمل الصالح والمعنوي والخيري، والثقافة والمطالعة وكسب العلم والمعرفة، أو على أقل تقدير دعم وتشجيع من أوقف حياته لهذا الدور.

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment