عوامل عدم الاستقرار في العراق

Last Updated: 2024/04/22By

عوامل عدم الاستقرار في العراق

د. علي المؤمن

العنف الذي يستمر في تجفيف منابع الحياة في العراق اليوم، يتمحور معظمه حول معادلة تاريخية عنوانها: عدم الاستقرار في العراق؛ فهناك من يقاتل من أجل اجتثاث جذور عدم الاستقرار في العراق بعوامله التي تعود الى مئات السنين، وهناك من يقاتل من أجل الإبقاء عليها.

والحقيقة أن العراق لم يشهد منذ قرون طويلة أي استقرار سياسي واجتماعي، بسبب العوامل الضاغطة التي ظلت تحافظ على خصوبة ارض العراق لنمو كل ألوان القلق. وإذا تجاوزنا الحقب التاريخية التي تعود الى الأموية والعباسية والاحتلال المغولي والصراع الصفوي – العثماني، وركزنا على العقود الأخيرة من القرن الثامن عشر والتاسع عشر الميلادي، أي مرحلة استتاب السيطرة التركية العثمانية على العراق، سنجد أن شجرة عدم الاستقرار التي زرعها العثمانيون بقيت تثمر حتى بعد رحيل الأتراك عن العراق , فالحكم العثماني كان متناقضا قوميا ومذهبياً (أتراك – سنُة) مع أكثرية الشعب العراقي (عرب – شيعة) برغم الشعارات الإسلامية التي كان يرفعها العثمانيون، وهي شعارات لم تمنعهم من ممارسة سياسة تمييز شاملة ضد شيعة العراق و تبدأ بالإفقار والتجهيل والإهمال في المجال الصحي والتنمية الإنسانية، ولا تنتهي باستباحة المدن والقتل وفتاوى التكفير والاستبعاد عن أي منصب حكومي. ومن رحم هذا التمييز ولد الحكم المطلق للنخبة التي تنتمي الى الأقلية في العراق.

وحين احتل الإنجليز بغداد عمدوا الى تكريس عوامل عدم الاستقرار في العراق، يدفعهم الى ذلك أسباب عديدة، أبرزها ضمان إبقاء الوضع قلقاً متحركاً وصاخباً، لضمان سيطرتهم على العراق واستمرار حاجة الدولة العراقية إليهم.

وتتمثل هذه العوامل في جملة من المشكلات المستعصية في الواقع العراقي ماضياً وحاضراً، أهمها:

    1- مشكلة الدولة: وهي دولة النخبة السياسية التي تنتمي الى الأقلية المذهبية القومية (العربية السنية)، برغم تغير الحكومات وايديولوجياتها، وهذه الدولة هي سلطة أكثر من كونها دولة بالمعنى الدستوري الحديث.

     2- مشكلة الحكم: والحكم هو ــ الآخر ــ ظل حكرا على النخبة التي تنتمي الى الأقلية نفسها، مع بعض الاختراقات الاستثنائية من رجالات ينتمون الى الأقليات القومية المذهبية الأُخر (الكردية السنية والتركية السنية) أو ينتمون الى الأكثرية المذهبية (العربية الشيعية). كما أن الطبيعة الاستبدادية والدكتاتورية للأنظمة ظلت تمسك بالواقع العراقي بقوة، الأمر الذي جعل الحكم العراقي منفصلاً في ممارسته وتوجهاته عن الشعب العراقي وتطلعاته، ويكون بين الطرفين بحر من الكراهية وعدم الثقة.

    3- مشكلة التبعية للخارج: ظل العامل الخارجي فاعلاً مهماً وأساساً في رسم المشهد السياسي في العراق؛ فبعد الأتراك الذين حكموا العراق حكماً مباشرة حتى عام 1917؛ بقي الإنجليز يتحكمون بالدولة تحكماً مباشراً حتى عام 1958، ثم اصبح العامل الخارجي مستتراً خلال العهد الجمهوري، ولكنه نشط مع انقلاب حزب البعث عام 1968. ومع الاحتلال الأميركي عام 2003 بات العراق محكوماً بمشروع خارجي شامل.

هذه المشكلات أو عوامل عدم الاستقرار، تسببت في ظواهر سياسية واجتماعية ونفسية طبعت النظام السياسي والشعب العراقي بطابعها وعملت على تشكيل شخصية:

1- الانقلابات العسكرية الدموية: منذ تأسيس ما عرف بالدولة العراقية الحديثة، حدثت في العراق ثماني انقلابات عسكرية ناجحة (من 1936 وحتى 1968) وعشرات الانقلابات الفاشلة.

2- التدخل الخارجي: وقد بدأ إنجليزياً استمراراً للاحتلال الذي اكتمل عام 1917، وانتهى أمريكيّاً. وبين الاحتلالين كانت هناك موجات من التدخل، عملت على تغيير الخارطة السياسية في العراق أكثر من مرة. وما يزيد من تعقيد هذه الظاهرة شعور الشعب العراقي بان أي تغيير في العراق يقف وراءه تدخلاً خارجياً، وان الحكومات العراقية أما تأتي بقطار أجنبي أو على دبابة أجنبية.

    3- الصراعات الدموية بين الأنظمة الحاكمة والشعب: نتج عن هذه الصراعات مقتل مئات الآلاف من العراقيين، أغلبيتهم الساحقة من السنة الأكراد والشيعة. والأرقام في هذا المجال ربما يندر مثيلاً لها على مستوى دول العالم.

    4- شعور الأكثرية السكانية بعدم الانتماء للدولة: برغم اعتزاز شيعة العراق بعراقيتهم ووطنيتهم، لأنهم مواطنون عراقيون بالمعنى القانوني والسياسي البسيط، إلّا أن شعورهم بالانتماء للدولة ناقص ومبتور وأحياناً معدوم حتى العام 2003. وليس المقصود بالدولة هنا الوطن، وإنما الدولة وما تمثله تحديداً، لأن هذه الدولة تمثل حكم نخبة الأقلية السكانية، وأنها تمارس تمييزاً شاملاً ضدهم، وأنها تضطهدهم ولا تحميهم ولا تمثلهم، بالنظر لصعوبة التفريق بين الدولة والنظام السياسي والحكومة، على اعتبار أنها جميعا تتلخص في حكم النخبة، التي هي الدولة وهي الحكومة وهي النظام السياسي، ولا فصل حقيقياً بينها.

هذا الشعور لدى الأكثرية جعلها في خصام دائم مع كثير مما تمثله الدولة، ولا سيما نظامها السياسي وكثير من قوانينها وسلطاتها، كما دفع هذا الشعور الشيعة الى اللجوء الى الكيانات الاجتماعية الأُخرى، واعتبروها دولتهم التي تمثلهم وتحميهم، وأبرز هذه الكيانات: المرجعية الدينية والعشيرة، بصرف النظر عن البعد الديني للمرجعية والبعد الإنساني للعشيرة؛ لأن المراد هنا البعد السياسي ـــ الاجتماعي الذي يجب تختص به الدولة. ولطالما عبر الشيعي العراقي في الظروف الضاغطة عن انتماءاته هذه؛ فعدّ العشيرة دولته والمرجع الديني قائده والنجف الأشرف عاصمته؛ إذ كان شعار الجماهير العراقية الشيعية في تظاهراتها في العام 1967: ((سيد محسن [الحكيم] قائدنا والنجف عاصمتنا))، وهو شعار عميق في معناه التاريخي والسياسي.

ولا شك أن الدولة العراقية لن تستقر فيما لو بقيت هذه العوامل قائمة، وسيبقى الخصام والصراع بين الدولة والشعب سيد الموقف، كما سيبقى نزيف الدم يصبغ الواقع العراقي بلونه … والى الأبد.

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment