علاقة المرجع الديني بالحركات الإسلامية السياسية

Last Updated: 2024/04/14By

علاقة المرجع الديني بالحركات الإسلامية السياسية

د. علي المؤمن

من الطبيعي أن يكون المرجع الديني الشيعي الأعلى أباً لكل مواطني بلده، وخاصة في البلدان التي يشكل فيها الشيعة أغلبية سكانية أو يتمتع فيها المرجع الشيعي بحرية الحركة ويتمتع بثقل اجتماعي ديني مميز، كما هو الحال مع ايران والعراق ولبنان، ولكن على مستوى الانتماء الديني والمذهبي؛ فإنّ المرجع الديني هو أب المؤمنين حصراً، بمن فيهم أبناء الحركات الإسلامية، التي هم من الملتزمين عادة بقضية تقليد المرجعية؛ إذ لا يمكن لمرجع الدين أن يكون مرجعاً للملحدين وأباً للشيوعيين والعلمانيين أيضاً، ذلك أنّه مرجع ديني إسلامي، هذا هو توصيفه الدقيق، وليس مرجعاً سياسياً وطنياً أو مرجعاً عشائرياً، بحيث تتسع أبوته لكل المنتمين للعشيرة، بصرف النظر عن انتماءاتهم الفكرية والعقدية؛ فهذا النوع من الأبوة يتناقض مع موقع المرجع الديني الإسلامي ووظيفته الشرعية، ولا يمثل مجرد تعارض أو خلاف في الرؤية بين المرجع الديني من جهة والشيوعيين والعلمانيين من جهة أخرى، وإلّا لما أعلنت المرجعية موقفها الشرعي من الشيوعية والعلمانية.

وبالتالي؛ فمن البديهي أن لا يكون تفاعل المرجع الأعلى مع التيارات الملحدة والعلمانية والليبرالية كتفاعله مع التيارات الإسلامية الشيعية السياسية، ولا يمكن أن يكون محايداً بين الطرفين في النظرية والغاية والهدف، أو ينظر اليهم نظرة واحدة متساوية، أو يكون على مسافة واحدة من الجميع، ذلك لأن المنظومة العقدية والفكرية والقيمية للحركات الإسلامية الشيعية تتطابق تماماً مع المنظومة العقدية والفكرية للمرجعية العليا، كما أن هذه الحركات هي جزء لا يتجزأ من النظام الاجتماعي الديني الشيعي الذي يقوده المرجع الأعلى، مع الإذعان بأن بعض أفراد هذه الحركات فاسد ومنحرف سلوكياً وفكرياً. في حين أن التعارض بين المنظومة الفكرية والعقدية للمرجعية والمنظومة الفكرية السياسية للتيارات غير الإسلامية، يرتبط بالأصول والقواعد والغايات الدنيوية والأخروية، وليس بسلوك الأفراد والجماعة وحسب.

ومن البديهي أيضاً أن يكون المرجع الديني إسلامياً بالمعنى العقدي والفكري، ولا يكون شيوعياً أو علمانياً أو ليبرالياً أو مدنياً؛ إذ أن علمه بحقائق الشريعة الإسلامية، تجعله يؤمن تلقائياً بأنّ الإسلام نظام كامل شامل لكل شؤون الحياة، وأنّ الإسلام عبادة ومعاملة وسياسة واقتصاد، وأنّ الإسلام دين ودولة، ودنيا وآخرة، وأنّ تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية وأبوابها لا يمكن أن يتجزأ. وهذه هي نفسها ايديولوجيا الإسلاميين وأفكارهم بتفاصيلها، والتي تجعلهم إسلاميين ويوصفون بالإسلاميين، مع فارق أن الإسلاميين يسلكون منهجاً حركياً تنظيمياً غالباً، ويمارسون العمل السياسي التفصيلي، بينما تسلك المرجعية سلوكاً عاماً.

كما أن وجود الإسلاميين الحركيين الشيعة هو وجود فرعي تنظيمي خاص، لا في طول المرجعية ولا في عرضها، بل هو كالرافد التابع الذي يصب في النهر الكبير التي هي منظومة المرجعية. ويمثل هذا الواقع حقيقة التبعية الشرعية أو التبعية الاجتماعية الدينية للمرجع الأعلى، والذي لا تؤمن به التيارات غير الإسلامية، وترفضه عملياً، بينما تتمسك به الحركات الإسلامية الشيعية، طوعاً أو رغماً عنها، لأن تنصلها عنه يجعلها منبوذة وخارج الخط الشيعي العام والنظام الاجتماعي الديني الشيعي.

ولا يقتصر التعارض مع فكر المرجعية والتزاماتها الشرعية، على التيارات السياسية والفكرية العلمانية، بل يشمل حتى (المعممين) العلمانيين والليبراليين الذين لا يؤمنون بكمال الإسلام وشمولية شريعته لكل نظم الحياة، وهم كثر، رغم شذوذ هذه الفئة دينياً؛ فالزي الديني العرفي، لا يعني الأصالة الدينية لمن يرتديه، ولا يعني أن من يرتديه من حقه أن يكون ناطقاً باسم الدين والحوزة، وممثلاً للمرجعية ومعبراً عن نهجها وأهدافها، وإن كان يعمل في أجوائها.

والغالب، أن ظروف الزمان والمكان تقتضي أن يتنزّل المرجع الأعلى عن العناوين الأولية في تطبيق نظم معينة، ومنها نظام السلطة الشرعية ونظام الاقتصاد الإسلامي وغيرهما، ويقبل ببدائل وأدوات وعناوين في إطار الأحكام الثانوية، بسبب عدم توافر الظروف الموضوعية، لكن؛ هذا لا يعني أنه لا يؤمن بأصل النظام الشرعي، سواء في الحكم أو الاقتصاد، أي أن غض المرجع نظره عن عدم تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في مجال الحكم، يشبه غض نظره عن تطبيق أحكام الشريعة في مجال الاقتصاد، أو غض نظره عن الأدوات التنفيذية لأحكامه القضائية، فهل هذا يعني أن المرجع الديني يمضي المعاملات الربوية في البنوك؟ أم أن غض النظر يعني عدم توافر الظروف الموضوعية لإلغاء الربا المصرفي؟ وبالتالي؛ فإن من يتصور بأن المرجعية تؤمن بالدولة المدنية والحكم المدني؛ فإنه لا يعي بديهيات القواعد الفقهية والأصولية، وهو كمن يتصور بأن المرجعية تؤمن بالبنوك الربوية، وقوانين الأحوال الشخصية غير الإسلامية، وعدم مباشرة واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجتمع والشارع.

ويفكر الإسلاميون الحركيون بالطريقة نفسها، لأنه منهج تفكير واحد، وقبولهم بالأمر الواقع الضاغط لا يعني التنازل عن الأصول الشرعية التي تأسست الحركات الإسلامية من أجل تطبيقها، وهو مؤشر آخر على أن منهج المرجعية هي بوصلة الإسلاميين؛ فهم أبناء المرجع الأعلى العقديون، وإن كان بعضهم عاقاً ومتمرداً على توجيهاته، وما يأمر به من تطبيق معايير النزاهة والتدين والإخلاص والخدمة للناس والنجاح في العمل وتوحيد الصفوف، وهذا ما يجعله يغضب على أبنائه أحياناً ويقاطعهم أخرى، حتى يبح صوته، لكنه لن يتخلى عن أبوته لهم إطلاقاً، ولا يأخذهم جميعاً بجريرة بعضهم. وإذا كان المرجع يغلق بابه بوجوههم يوماً؛ إعلاناً عن عدم رضاه على أداء أكثرهم، وتحذيراً للآخرين بأن لا يرتكبوا الأخطاء والانحرافات نفسها؛ فإنه لن يتركهم بدون تصويب وتوجيه ودعاء.

لقد تأسست الحركات الإسلامية الشيعية في وسط النظام الاجتماعي الديني الشيعي ولا تزال تعمل في إطاره؛ فهي جزء منه، وتخضع لمعادلاته. وكان عدم التفات بعض الحركات الإسلامية الشيعية إلى بعض هذه المعادلات أو تصور القدرة على تغيير بعضها الآخر؛ يتسبب في حدوث توترات بينها، وبين منظومة المرجعية الدينية، بصفتها رأس هرم النظام الديني الاجتماعي الشيعي. وعليه؛ فإن النظرة إلى المرجعية الدينية تتجاوز القناعات الفكرية والاجتماعية والسياسية؛ لتندك بالواقع ومتطلباته. وأهم فرضيات هذا الواقع:

1 – أن المرجعية الدينية العليا ليست مرجعية علمية فقهية وحسب، بل هي منظومة دينية اجتماعية، تقف على رأس النظام الديني الاجتماعي للطائفة الشيعية الإمامية في العالم. ولهذه المنظومة معادلات ثابتة وسياقات عمل ونظم فرعية وتقاليد؛ أقلها أهمية هو الموضوع العلمي المرتبط بالدراسة والفتوى، وأكثرها أهمية هو أسلوب إدارتها للشأن العام. وعمر هذه المنظومة أكثر من أحد عشر قرناً. أي أن المرجعية وحوزتها هو الوجود الأصيل والثابت الوحيد في النظام الديني الاجتماعي الشيعي.

أما الحركات الإسلامية الشيعية السياسية؛ فهو وجود عارض متغير يعمل في إطار النظام الديني الاجتماعي الشيعي، ولا يتجاوز أكثرها سبعة عقود. وبالتالي؛ فالحركات الإسلامية والمرجعية الدينية ليسا متساويين في الشأنية الدينية الاجتماعية (الاجتماع الديني الشيعي) ولا مساحات العمل والتصدي، ولا التأثيرات المعنوية، ولا هما متشابهان في الوظيفة والماهية. ولذلك؛ لا يمكن القول بوجود علاقة متكافئة، أو علاقة ندية، أو إمكانية تبادل مواقع إدارة النظام الاجتماعي الديني الشيعي؛ بل هي علاقة المتغير بالثابت، والفرع بالأصل، والتابع بالمتبوع.

2 – بصرف النظر عن الأسانيد الروائية والعقلية لمبدأ المرجعية وولاية الفقيه، وتطبيقاته وتحولاته وتطور منظومته؛ فإنه ـــ قبل كل ذلك ــ يمثل أمراً واقعاً قائماً ضاغطاً، ولا تملك الحركات الإسلامية الشيعية خياراً غير التعامل مع هذا المبدأ تعاملاً واقعياً لا تعاملاً معيارياً؛ أي التعامل مع منظومة المرجعية العليا كما هي كائنة، لا كما ينبغي أن تكون من وجهة نظر الحركات الإسلامية، وألّا يتعارض عمل هذه الحركات مع سياقات ونظم منظومة المرجعية العليا، سواء قبلت بتفاصيل هذه المنظومة أو لم تقبل.

صحيح أن المدرسة التغييرية النهضوية في الحوزة العلمية، والتي أسسها الإمام الخميني والسيد محمد باقر الصدر، هي مدرسة ذات منهجية معيارية نقدية، ولكن؛ ليس من شأن الحركات الإسلامية الشيعية ووظيفتها الحديث عن إصلاح منظومة المرجعية وسلوكياتها؛ لأن إصلاحها شأن داخلي خاص بالمنظومة نفسها، ويمكن لعلماء الدين المنتمين الى الحركات الإسلامية من الصف الأول (المجتهدون والفضلاء) المساهمة في عملية الإصلاح والتقويم، والاستفادة من آراء المتخصصين الإسلاميين (أكاديميين وباحثين) ودراساتهم ونقودهم وتقويماتهم الداخلية الخاصة، إلّا أنّ من البديهي أن تكون مساهمة هؤلاء العلماء الحركيين في مجال الإصلاح والتجديد، بصفتهم الحوزوية وليست الحركية. ولكن في المقابل؛ فإنّ المرجعية العليا ومنظومتها تمتلك الحق في الحديث عن إصلاح الحركات الإسلامية وتقويم فكرها وسلوكها؛ بل إن هذا جزء من وظيفتها الدينية الاجتماعية.

3 – من أجل أن يكون تعامل الحركات الإسلامية مع المرجعية العليا تعاملاً واقعياً ومنتجاً ومثمراً؛ من البديهي أن يفهم الإسلاميون منظومة المرجعية وسياقات عملها وحركتها ونظمها الفرعية وتقاليدها، فهماً توصيفياً دقيقاً، بدءاً بمدخلية البيوتات، وأساليب تدوير الحقوق الشرعية، ودور الأصهار والأولاد، وأساليب اختيار المرجعية العليا، وطرق الاعتراف العرفية بمرجعية ما، وطبيعة وجود أبناء القوميات المختلفة في الحوزة أو على رأس منظومة المرجعية، وانتهاءً بالفرق بين المعمم و(الآخوندي)، ولهجة التخاطب والتدريس في الحوزة. وينبغي القبول بها جميعاً والتعامل معها كما هي.

4 – أن منظومة المرجعية الدينية بطبيعتها هي منظومة تقليدية في بناها وأساليب عملها وحركتها. أما المحاولات الإصلاحية في الحوزة فلا تلامس ثوابت هذه المنظومة عادة، بل تلامس التفاصيل والمتغيرات. وما حركات المراجع المصلحين المعاصرين في الحوزة؛ إلّا موجات وتيارات تأتي وتؤسس، ثم يبقى منها ما يتوافق مع ثوابت المنظومة المرجعية التقليدية. وحتى منظومة ولاية الفقيه المتمثلة بالإمام الخميني ثم السيد علي الخامنئي؛ بالرغم من قوتها المعنوية والمادية، وكونها أكبر مرجعية دينية في إيران، ومشاريعها لإصلاح الحوزة القمية؛ فإنّ تدخلها ظل يقتصر على التنظيم ومأسسة النظم الفرعية، ولا تتدخل في الثوابت التقليدية لمنظومة المرجعية؛ فبقيت المنظومة تقليدية في ثوابتها، ومنظمة ومؤسَسِية في متغيراتها، بل أنّ تدخل الولي الفقيه في هذا المجال، لا يتم بصفته سلطة الدولة، ولكن بصفته المرجعية، وكونه رأس هرم النظام الديني الاجتماعي الشيعي، وهي الصفة التي تجد قبولاً غالباً لدى الحوزة العلمية ومنظومة المرجعية.

5 – إنّ المرجعية تمثل دائما الأبوّة لكل الجماعات الثقافية والسياسية والاجتماعية الشيعية؛ وإن كان بعضها ناقداً للمرجعية أو متمرداً على جزء من ثوابتها ومتغيراتها، أو كانت المرجعية لا تتوافق منهجياً مع هذه الجماعات والمؤسسات والتيارات المتغيرة العارضة. فالحركات الإسلامية الشيعية الكبيرة، بوصفها كيانات حركية تغييرية ناقدة؛ تمتلك منهجيات في العمل قد لا تتطابق مع منهجية المرجعيات التقليدية، لكنها بقيت تحظى بحماية المدارس الإصلاحية والتقليدية الرئيسة في الحوزة العلمية، وهو ما يؤكد طبيعة موقع المرجعية العليا بوصفها (أم الولَد) التي تستوعب أبناءها وتحتضنهم وتخشى عليهم الضرر؛ وإن أخطأوا بحقها أو بحق الواقع الشيعي.

6 – أن الحركات الإسلامية الشيعية غير معنية بترجيح مرجع ديني على آخر في جانب التقليد، ولا ترجيح مبدأ فقهي على آخر ترجيحاً فقهياً، لأن هذه الحركات، وإن ضمّت علماء دين مرموقين، ليست مدارس فقهية أو مرجعيات علمية أو جهات خبروية، لكي ترجح – – قاعدة فقهية على أخرى ومبدأ فقهي على آخر، كترجيح ــ مثلاً ـــ مبدأ ولاية الفقيه العامة على مبدأ ولاية الفقيه الخاصة، أو العكس. قد يكون هذا الترجيح طبيعياً من قبل الفقهاء وعلماء الدين المنضمين الى الحركات الإسلامية بصفتهم العلمية الدينية كخبراء، وليس بصفتهم الحركية. أما اختيار هذه الحركات غطاءً شرعياً مرجعياً يتفق ومتبنياتها الفكرية، مفهوماً ومصداقاً؛ فهو أمر ضروري، من أجل ترشيد موقفها الشرعية وإخراجها من حالة الإحراج في الالتزام بجميع الآراء الفقهية ومصاديقها، وللتخلص من التجاذبات الداخلية والنقاش المستمر بين أعضاء الحركة الواحدة.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment