عصور الشيعة الستة
عصور الشيعة الستة في التاريخ
د. علي المؤمن
مرّ النظام الاجتماعي الديني الشيعي، منذ نشوئه في العام الحادي عشـر الهجري (632 م)، بمراحل تاريخية كثيرة ومتنوعة في عناوينها ومضامينها، شهدت صعوداً ونزولاً، وانفراجات وانكماشات. ويمكن حصر هذه المراحل بستة عصور أساسية، لكل منها مؤسس وقائد تاريخي، مثّل ظهوره بداية عصر جديد من الصعود والانتشار والتألق العلمي والاجتماعي والثقافي والسياسي، ويعقبه أُفول تدريجي، وصولاً إلى حالة الانكفاء والتهميش المعتادة، حتى يظهر قائد جديد بعد فترة زمنية ليؤسس عصراً شيعياً جديداً. وقد بدأ تاريخ النظام الاجتماعي الديني الشيعي بعصر الإمام علي، وهو العصـر الأول الذي شهد وضع حجر الأساس، ويعيش اليوم عصر الإمام الخميني، وهو العصـر الشيعي السادس.
وما يعنينا في هذه العصور هو البعد الواقعي الحسـي، وليس المعنوي والروحي، وليس شخصيات المؤسسين ومستويات قدسيتهم ومقاماتهم الدينية والعلمية، بل أدوارهم الواقعية التي مثلت بداية عصر جديد، وشکّلت منعطفاً تاريخياً. أي أنّ هذه العصور ليست عصوراً علمية أو فقهية أو سياسية، بل هي عصور شاملة لصعود النظام الاجتماعي الديني الشيعي واستحكام دعائمه وقوته الميدانية:
1ـ العصر الأول: عصر الإمام علي بن أبي طالب في المدينة والكوفة:
وهو العصر الذي أسسه وقاده الإمام علي، ومثّلت شخصيته قاعدة نشوء النظام الاجتماعي الديني الشيعي. وكما ذكرنا سابقاً فإنّ الحدث المفصلي الذي أدى تلقائياً إلى ولادة هذا العصر هو إبعاد الإمام علي عن استحقاقه الشـرعي في رئاسة الدولة الإسلامية وإمامة الأُمّة عملياً. واستمر هذا العصـر (112) عاماً، أي منذ يوم السقيفة في العام 11 للهجرة (632 م)، وحتى تبلور حراك الإمام جعفر الصادق إثر تأسيس الدولة العباسية في سنة (132 هـ /750 م).
لقد أفرزت أحداث يوم «السقيفة» تأسيس ثلاثة نظم سياسية واجتماعية في واقع المسلمين:
الأول: النظام السياسي الذي يقف على رأسه الخليفة، وهو النظام الذي يمثل شكل الدولة ومضمانيها وسلطاتها، وكان المسلمون جميعاً ينتمون إليه، بصرف النظر عن مشاربهم العقدية والفقهية، بوصفه نظام الأمر الواقع، ولا يزال قائماً حتى الآن بشكل وآخر.
الثاني: المجتمع السياسي الديني الذي ينتمي الى نظام الدولة، وهو مجتمع سنة الخلفاء، أي المجتمع الملتزم بسنة الخلفاء، واصطلح عليه فيما بعد بـ «السنة»، أي سنة الخلفاء.
الثالث: المجتمع الديني الذي ينتمي الى الإمام علي، بوصفه وصي رسول الله، والذي أخذ شكل النظام الاجتماعي الشيعي المتمايز عن نظام الدولة وعن المجتمع السياسي المنتمي اليه، واصطلح عليه فيما بعد بـ «الشيعة»، أي شيعة علي.
أي أن أحداث ما بعد السقيفة أفرزت نظاماً سياسياً يقوده الخليفة ومجتمعاً يرتبط به، ونظاماً اجتماعياً دينياً موازياً يقوده الإمام علي. وقد بقي «الخليفة» يقود الاجتماع السياسي الرسمي أو الاجتماع السياسي للدولة، فيما ظل «الإمام» يقود «النظام الاجتماعي الديني الشيعي المعارض.
تجدر الإشارة الى ثنائية المجتمع السياسي الديني المنتمي الى الخلفاء والمجتمع الديني المنتمي الى الإمام علي؛ ظل مستمراً خلال سنوات خلافة الإمام على بن أبي طالب وخلافة ولده الإمام الحسن. ففي هذه الفترة التحق أغلب الصحابة والتابعين بالإمام علي، بوصفه الخليفة الرابع وليس بوصفه الوصي المنصّب من الرسول وفق ما يرى الشيعة؛ فهناك قادة عسكريون ورجال دولة وإدارة، من الصحابة والتابعين، كانوا جزءاً من جهاز الدولة في عصر أبي بكر وعمر وعثمان؛ التحقوا بالامام علي، بصفتهم جزء من جهاز الدولة أو بصفتهم مسلمين يرون الشرعية في الخليفة حصراً، أيا كان، بغض النظر عن الخلافات العقدية والاصطفافات السياسية بين المسلمين، ولم يكن التحاقهم بالامام علي بصفته إماماً مفروض الطاعة موصي به من الرسول؛ إذ كان الإمام علي بالنسبة لهم الخليفة الرابع فقط، وقد استشهد كثير منهم في البصرة وصفين والنهروان. وكان هؤلاء ضمن الاجتماع السياسي للدولة وليسوا ضمن الاجتماع الديني الشيعي، أي أنهم كانوا على سنّة الخلفاء وليسوا من شيعة علي، وعلاقتهم بالإمام علي لم تكن عقدية، بل سياسية، أي علاقة المواطن والموظف برئيسه في العمل أو برئيس الدولة، سواء عدّوه رئيساً شرعياً أو رئيس الأمر الواقع، وهي نظرة الصحابة والتابعين من شيعة علي نفسها حين كانوا يتعاملون مع نظام الخلافة، ويخدمون في جيشه، ويتولون المناصب فيه.
وقد توسّع النظام الاجتماعي الديني الشيعي أفقياً وعمودياً في عهد الخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان، وخاصةً في عهد الخليفة الثالث، وأصبح له حضور في بلدان المسلمين وفي الأحداث، من مصر وحتى ايران. وحين استلم الإمام علي زمام الخلافة ورئاسة الدولة؛ كان لديه جيش من العقائديين المعتقدين بإمامته ووصايته، ولذلك؛ كان هناك فرق بين العقائديين المؤمنين أساساً بإمامة علي، وبين جهاز الدولة الذي انتقل للإمام على بعد مقتل الخليفة عثمان. وقد أصبح هؤلاء العقائديون جيشاً كبيراً صمد مع الإمام علي ثم مع ابنه الإمام الحسن. وبعد أن حصول التقارب المؤقت بين النظام السياسي للدولة والنظام الاجتماعي الشيعي في عهد خلافة الإمام علي؛ فإنّ الانفصال بينهما عاد الى سابق عهده بعد سقوط دولة الإمام الحسن واختطاف الأُمويين للدولة؛ فكان انفصالاً حازماً وحاداً بين النظامين، ولايزال مستمراً حتى الآن.
وشهد هذا العصر نشوء الظواهر الأُولى للنظام الاجتماعي الديني الشيعي تدريجياً خلال حكومات الخلفاء الراشدين الثلاث، وصعود بني أمية، ثم رئاسة الإمام علي للدولة الإسلامية وخروج معاوية وآل أمية عليه، ورئاسة الإمام الحسن بن علي للدولة الإسلامية، وإسقاطها من قبل آل أمية، وتأسيسهم عقيدة دينية سياسية جديدة، ثم إمامة الحسين بن علي واستخلاف يزيد لأبيه معاوية من جهة أخرى، وهو ما أدى الى رفض الإمام الحسين لبيعته، وتصاعد نهضته، وصولاً الى استشهاده، ثم إمامة علي بن الحسين السجاد، وثورة المختار الثقفي، وإمامة محمد الباقر والمرحلة الأُولى من إمامة جعفر الصادق وثورة زيد بن علي وحراكات العلويين الأُخر ضد السلطة الأُموية.
ورغم أن حراك الإمام الحسين يتميز بأنه نهضة شاملة، لكنه يبقى جزءاً من حراك الإمام علي، وامتداداً لا ينفصل عن حلقاته. وما أفرزته نهضة الإمام الحسين من حراكات سياسية وجهادية واجتماعية في كل العالم؛ لها مدخلية مباشرة جداً في مظهرية أو في نشوء مظاهر جديدة للنظام الاجتماعي الديني الشيعي؛ إذ عملت على بلورة ظواهر الاجتماع الشيعي وأنساقه التنظيمية وشدّها ببعض، وتنشيط عناصر استقلاله عن مجتمع الدولة واجتماع السياسي الرسمي. كما ساهمت حركتان كبيرتان أفرزتهما نهضة الإمام الحسين في هذا المسعى، هما ثورة التوابين وثورة المختار الثقفي ودولته في الكوفة، ورغم أن هذه الحراكات كانت خاسرة بالمعنى العسكري، إلّا أنها حققت إضافة نوعية غير مسبوقة للنظام الاجتماعي الديني الشيعي وهيكليته.
2ـ العصر الثاني: عصر الإمام جعفر الصادق في المدينة والكوفة:
بدأ العصر الثاني على يد مؤسسه الإمام جعفر بن محمد الصادق، في العام (132 ه /750 م)، إثر سقوط مدينة الكوفة بيد الحركة العباسية، وبدايات انهيار السلطة الأُموية، وهي المرحلة الثانية من فترة إمامة الصادق. وقد شهد هذا العصر تبلور المدرسة الفقهية الشيعية في ظل الحرية الفكرية والسياسية والاجتماعية التي تمتع بها الشيعة، والتي ساعدت على تحكيم قوة نظامهم الاجتماعي الديني بصورة كبيرة. كما شهدت ظهور الفرق الكلامية والمذاهب السنية الفقهية التي تخلّصت إلى حد كبير من سطوة الدين الأُموي واجتماعه السياسي الموروث، وبدت قريبة من المذهب الشيعي وإمامة الصادق ([1])، وغير متضادة معهما.
ولم يؤسس الإمام جعفر الصادق مدرسة عقدية فقهية جديدة؛ فهذه المدرسة كانت موجودة قبله، وقد تدرج تأسيسها منذ عهد رسول الله والإمام علي، وكان التدرج يسير وفق الوقائع وتراكم الحاجات، لكنها برزت وظهرت في عهد الامام جعفر الصادق وتبلورت، على اعتبار طول عمر الإمام جعفر الصادق الذي بلغ سبعين سنة، إضافة إلى حصول مرحلة انتقالية بين العصر الأُموي والعصر العباسي، وخاصة بعد سقوط الدولة الأُموية في الكوفة، وحصول فراغ سياسي وأمني، الأمر الذي منح الإمام الصادق فرصة استثنائية كبيرة لإظهار المدرسة الشيعية، التي كانت مُقصية ومحاربة في عهد السلطة الأموية، وكذلك فرصة لتأسيس واقع شيعي جديد، دون خوف من تشريد الشيعة وقتلهم واعتقالهم، وهو واقع جديد سمح بحرية الحركة العلمية والاجتماعية، وسمح بالتواصل مع الشيعة بعلانية وسهولة، وبتقوية شبكة الوكلاء، وبإمكانية تنقل تلاميذ الإمام الصادق ومعتمديه في كل البلاد الإسلامية، وقيامهم بالتبليغ والتعليم، وكذلك قيام الشيعة بإنشاء مجتمعات شيعية منظمة ومتماسكة. ولذلك؛ فإن الذي حصل في عهد الامام الصادق لم يكن إظهاراً للمدرسة العقدية والفقهية الشيعية الاثني عشرية وحسب، وانّما حصل تكريس للهوية الشيعية، وتعميق لظواهر النظام الاجتماعي الشيعي، وتماسكه وامتداداته، من الجزائر وحتى الهند.
لكن ما لبث أن عاد الواقع الشيعي إلى عصر التراجع، بعد تشديد السلطة العباسية قبضتها على الشيعة. وشهد هذا العصر إمامة موسى الكاظم وعلي الرضا ومحمد الجواد وعلي الهادي والحسن العسكري ومحمد المهدي المنتظر، وانتهى بغيبة الإمام المهدي وظهور زعامة نائبه الخاص الأول الشيخ عثمان بن سعيد العمري في العام (260هـ /874م)، أي أنّ العصر الثاني استمر (128) عاماً تقريباً. ورغم أن مدرسة أهل البيت وأتباعها الشيعة ونظامهم الاجتماعي الديني قد تعرضوا الى حروب اجتثاث طائفي كبرى خلال العصرين الأول والثاني، تخللتها (80) مجزرة وحرباً طائفية ضد الشيعة خلال القرن الأول الهجري وحده؛ إلّا أنهم تمكنوا من الصمود والبقاء، بل التوسع والنمو أفقياً وعمودياً، حتى أن القرون الهجرية الثاني والثالث والرابع شهدت تأسيس عدداً من الدول والإمارات الشيعية التي ساهمت في حماية الشيعة ودعم النظام الاجتماعي الديني الشيعي، كما سيأتي.
3ـ العصر الثالث: عصر الشيخ عثمان بن سعيد العمري في بغداد:
مؤسس هذا العصر وقائده هو الزعيم الشيعي عثمان العمري الأسدي، المعروف بالسفير الأول والنائب الخاص الأول للإمام محمد بن الحسن المهدي، وهو الذي أسس لواقع النيابة الخاصة للإمام المعصوم بتشـريع من الإمام نفسه([2])، بعد بدء غيبته في العام (260هـ /874م). وإذا كان الإمام علي بن أبي طالب هو مؤسس «النظام الاجتماعي الديني الشيعي» في عصـر الإمامة؛ فإنّ الشيخ العمري هو مؤسس «النظام الاجتماعي الديني الشيعي» في عصـر الغيبة. ولهذا التأسيس أصل تشريعي يرتبط ارتباطاً مباشراً بالإمام محمد بن الحسن المهدي وغيبته؛ فبعد وفاة الإمام الحسن العسكري، لم يتصد ولده وخليفته الإمام محمد المهدي لشؤون الإمامة وقيادة الشيعة علانية، بسبب ظروف القمع ومحاولات قتله؛ فأناب عنه أحد مقربيه وثقاة أبيه بمهمة قيادة الشيعة، وهو الشيخ عثمان بن سعيد العمري الأسدي، الذي سميّ بالنائب الأول أو السفير الأول. وفي النتيجة؛ فإن الذي أسس الاجتماع الديني الشيعي و«النظام الاجتماعي الديني الشيعي» في عصر الغيبة تأسيساً تأصيلياً نظرياً، هو الإمام المهدي الغائب، بمعنى أنّه، من خلال تكليف الشيخ عثمان العمري بإقامة هذا النظام، وبأن يكون وكيلاً وسفيراً ونائباً من بعده؛ فانّه أسس تأسيساً نظرياً شرعياً، وبما أنني أتحدّث في إطار علم الاجتماع الديني الذي يدرس الظواهر العملية القائمة على الأرض؛ فلابدّ أن أقول بأنّ الشيخ عثمان هو الذي أسّس على الأرض هذا النظام، ولم يؤسس نظرياً.
وبناء عليه؛ فإن الشيخ عثمان لم يؤسس النظام الاجتماعي الديني الشيعي في عصر الغيبة، بناءً على رغبته ومزاجه أو بناءً على رؤيته واستحسانه، وإنما بناء على تكليف مباشر من الإمام المهدي، أي بناءً على أصل تشريعي. ثم كان لِحُسن إدارة الشيخ عثمان وعبقريته؛ الفضل في المحافظة على الشيعة وكيانهم العقدي والفقهي ونظامهم الاجتماعي، لأنّ وفاة الامام العسكري تسببت في حصول بعض الفتن والتصدعات والشكوك في المجتمعات الشيعية، لكن التكليف الذي منحه الإمام المهدي الى الشيخ عثمان العمري الاسدي، وحسن إدارة الشيخ وتدبيره وقوته وأمانته؛ جعلته يمسك بالمجتمعات الشيعية بقوة في كل البلدان الإسلامية، من شرق آسيا والقوقاز وحتى بلاد الشام والحجاز وشمال أفريقيا، ويحوّلها إلى نظام اجتماعي ديني. وعليه؛ فإن الفضل في استمرار النظام الاجتماعي الديني الشيعي، بقيادته المفوّضة، وبتماسكه وسياقاته؛ يعود الى مفهوم نيابة الإمام المهدي بشكل خاص، ونيابة الإمام المعصوم بشكل عام.
لقد كان عثمان العمري مديراً مدبراً عبقرياً، وقوياً أميناً، وتفوق عظمة إنجازه في تأسيس النظام الاجتماعي الديني الشيعي العالمي في عصر الغيبة، أغلب ما أنجزه المحدثون والفقهاء الشيعة من عصر الغيبة الصغري وحتى الآن؛ فلو لا إدارة السفير الاول عثمان العمري لما استطعنا أن نشاهد نظاماً اجتماعياً دينياً بهذه السعة الجغرافية وبهذا الترابط الإداري وبهذا الامتداد التاريخي، ولذلك؛ فإن السفراء (الثلاثة) الذي جاءوا من بعده هم عيال عليه وامتداد له. وكان القاعدة التي استند عليها الشيخ العمري نصّ الإمام المهدي عليه كونه سفيره ووكيله ونائبه، والنصوص التوثيقية الأُخرى من الإمامين الهادي والعسكري، والتي جعلت كل ما يصدر عنه خلال فترة نيابته عن الإمام، من أوامر وإرشادات؛ مسموعة ومطاعة من قبل الشيعة، بمن فيهم المحدثين والفقهاء، بوصفة ثقة الأئمة الثلاثة؛ فقد قال الإمام علي الهادي بحقه: ((العمري ثقتي، فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي، وما قال لك عنّي فعنّي يقول، فاسمع له وأطع، فإنه الثقة المأمون))(1)، وكذلك قول الإمام الحسن العسكري: ((اشهدوا على أنّ عثمان بن سعيد العَمري وكيلي، وأنّ ابنه محمّداً وكيل ابني مهديّكم))(1)، وقوله: ((العَمري وابنه ثقتان، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يُؤدّيان، وما قالا لك فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما، فإنّهم الثقتان المأمونان))(1)، ثم قول الإمام محمد المهدي عنه: ((وأمّا محمّد بن عثمان العمري رضي الله عنه، وعن أبيه من قبل، فإنّه ثقتي، وكتابه كتابي))(1).
وأعتقد أن تصوّر حياة الإمام المهدي في الغيبة الصغرى ليس تصوراً غيبياً وصعباً، بل هو أمر طبيعي حتى في التصور المادي؛ فهو إنسان مهم وقائد الاجتماع الديني المقابل للاجتماع السياسي للسلطة العباسية، وقد ولد ونشأ في ظروف سرية، نتيجة حرص أبيه الإمام الحسن العسكري على عدم وقوعه بيد السلطة، خاصة وأن الخليفة المعتمد العباسي ظل يبحث عنه من أجل. وبعد وفاة أبيه، تكفله صاحب أبيه الشيخ عثمان بن سعيد العمري، ونقله من سامراء التي كانت عاصمة السلطة، الى بغداد، حيث الكثافة السكانية الشيعية، ليكون في مأمن أكبر، وهكذا أصبح الشيخ العمري كفيلاً للإمام المهدي في صباه والرابط بينه وبين عموم الشيعة، أي بمثابة وكيله الخاص، وبصورة سرية للغاية. وحين بلغ الإمام المهدي سن العاشرة، أي في سنة 265 ه، توفي كافله ووكيله الخاص الشيخ العمري؛ فتكفله من بعده ابن الشيخ محمد بن عثمان العمري، وعاش معه في البيت نفسه كما كان يعيش مع السفير الأول، وهو التصور الطبيعي، وأصبح العمري الإبن وكيله الخاص الثاني، مع مواصلة السرية المشددة أيضا، خوفاً على حياة الإمام، واستمر الأمر على النحو نفسه بعد وفاة الوكيل الثاني في سنة 305 ه، حين اختار الإمام نائباً ثالثاً له هو الشيخ الحسين بن روح النوبختي، وكان الإمام المهدي قد بلغ (50) عاماً. ومن الطبيعي أن يكون الإمام خلال نيابة الشيخ محمد بن عثمان قد استقل في بيت خاص به في بغداد ملاصق لبيت نائبه، وفق ما تقتضيه لوازم التواصل المباشر والحراسة المشددة، وتزوج وربما أنجب.
ثم بعد وفاته النوبختي في سنة 326 ه اختار الإمام المهدي الشيخ علي بن محمد السمري وكيلاً رابعاً، والذي توفي في سنة 329 ه كان عمر الإمام قد ناهز الـ (74) عاماً هجرياً من عمره. ولا يوجد حتى هذه السنة أي شيء غيبي أو غريب في حياة الإمام المهدي، باستثناء السرية المشددة، واللقاءات المحدودة جداً ببعض زعماء الشيعة. وبالتالي؛ فإن القدر المتيقن لحياة الإمام المهدي في بغداد هي (69) سنة، أي منذ انتقاله من سامراء وهو بعمر خمس سنين وحتى وفاة وكيله الخاص، أي ان الإمام المهدي هو سامرائي الولادة، بغدادي النشأة، وكانت إمامته بغدادية المكان خلال حياته السرية الأولى، وهو ما يعرف بالغيبة الصغرى.
ولعل التقسيم الى غيبة صغرى وغيبة كبرى هو تقسيم مجازي، لأن الغيبة هي غيبة واحدة ليس فيها صغرى وكبرىـ وليس بينهما فاصل، والشيء الوحيد الذي حدث هو تخلي الإمام المهدي عن وجود وكيل خاص له بعد وفاة وكيله الرابع، وهي ليست بداية غيبة جديدة، بل مرحلة جديدة من تاريخ الغيبة. بل أنّ مصطلح الغيبة هو مصطلح مجازي أيضاً، لأن الإمام المهدي في المرحلة الأولى من غيبته، والمعروفة بالغيبة الصغرى، لم يغب عن الأنظار، بل عاش حياة سرية، وكان يلتقي فيها بوكلائه الخاصين وبعض زعماء الشيعة. أما الغياب عن الأنظار فتحقق بعد وفاة وكيله الرابع.
وعند وفاة النائب الرابع للإمام المهدي، وبدء ما عرف بعصر الغيبة الكبري، كانت هيكلية «النظام الاجتماعي الديني الشيعي» وسياقاته وقواعده، قد تبلورت الى حد كبير، وهو ما سهّل على الفقهاء الذي كانوا يعيشون في فترة الغيبة الصغرى، كالشيخ الكليني والشيخ ابن فروخ الصفار والشيخ ابن بابويه القمي والشيخ ابن عقيل العماني والشيخ ابن الجنيد والشيخ ابن قولويه، ثم الأربعة المؤسسين الكبار: الشيخ الصدوق والشيخ المفيد والسيد المرتضي والشيخ الطوسي؛ قيادة المجتمع الشيعي وإدارة النظام؛ إذ كانت تدعمهم الشبكات التي أوجدها السفراء الأربعة نفسها، وحركة المال الشيعي نفسها، والتواصل بين الوكلاء نفسه، كان كل شي يسير وفق ما رسمه الشيخ عثمان العمر الاسدي، رغم مرور عدة عقود على وفاته. وكان السفراء الأربعة والفقهاء الأربعة يعيشون في بغداد، وقادوا الواقع الشيعي من بغداد وتوفوا في بغداد، عدا الشيخ الطوسي الذي عاش آخر أربعة عشر عاماً من حياته في النجف ودفن فيه، أي أنّ المرجعية الشيعية ومركزية النظام الاجتماعي الديني الشيعي العالمي، عندما انتقلت إلى النجف الأشرف، كان هذا النظام قد قام وتبلور نسبياً، وكانت له شبكة من الوكلاء وهيكلية أيضاً.
وقد شهد هذا العصر بداية الغيبة الكبرى، وتأسيس الحوزة العلمية في قم، وظهور الدولة البويهية الشيعية التي شكلت الحماية السياسية للنظام الاجتماعي الديني الشيعي في العراق وإيران، رغم انتمائها الى المذهب الشيعي الزيدي وليس المذهب الشيعي الاثني عشري، ولكنها كانت ترى في الشيعة الاثني عشرية الأقرب عقدياً ونفسياً، وكذلك مرحلة قوة الدولة الإدريسية الشيعية في المغرب والجزائر وتونس، والدولة الحمدانية الشيعية الإثني عشرية في شمال العراق وأغلب بلاد الشام، والدولة الفاطمية الشيعية الاسماعيلية في مصـر، والدولة العلوية الشيعية الزيدية في طبرستان إيران. واستمر هذا العصر (188) عاماً، أي أنّه استمر حتى تأسيس الحوزة العلمية في النجف الأشرف في العام (448هـ /1056م)، وهو يمثل أحد العصور الذهبية للشيعة؛ إذ تخلله سيطرة الحكومات الشيعية على أغلب العالم الإسلامي([3])، لكنه انهار انهياراً مدوياً على يد صلاح الدين الأيوبي، وطغرل السلجوقي، وبقايا الأُمويين في شمال إفريقيا([4]).
4ـ العصر الرابع: عصر الشيخ محمد بن الحسن الطوسي في النجف:
بدأ هذا العصر مع هجرة زعيم الشيعة ومرجعهم الديني الشيخ الطوسي من بغداد إلى النجف الأشرف وتأسيس حوزته العلمية في العام (448هـ /1056م). وتميز بالتألق العلمي الكبير للمذهب الشيعي، واستحكام الدعائم الفكرية والعملية للنظام الاجتماعي الديني الشيعي وهيكليته وامتداداته في الجوار الإقليمي([5]). ويمكن القول إنّ الشيخ الطوسي أول من أسس للمركزية في النظام الاجتماعي الديني الشيعي، كما كان في عصر الأئمة الاثني عشـر، حيث بات الزعيم الديني للشيعة يشرف على الواقع الشيعي في أغلب البلدان بشكل مركزي، انطلاقاً من النجف. وبالتالي، فالنجف لم تكن مجرد حوزة علمية أو حاضرة دينية ([6])، بل تحولت ولأول مرة إلى عاصمة مركزية للنظام الاجتماعي الديني الشيعي، كونها مدينة شيعية خالصة، وهو ما لم يكن متحققاً في بغداد، العاصمة السياسية للدولة، والمدينة المختلطة. ولم يشهد هذا العصر ظهور دول شيعية قوية، بل کانت بعض الإمارات الصغيرة في العراق وإيران وتركيا ولبنان واليمن والبحرين وغيرها، والتي ظلت تعاني من موجات الغزو الطائفي من السلطات المركزية العباسية ثم العثمانية أو الإمارات السنية المجاورة.
ومن أبرز العوامل التي ميّزت المرحلة الأُولى من عصر الشيخ الطوسي وساعدته في النهوض النوعي والكمي بالواقع الشيعي، هو عامل الانفراج السياسي؛ فمن الطبيعي أن يزدهر المجتمع الشيعي في حالات الانفراج السياسي، وهو ما حصل في عهد الدولة البويهية الشيعية، التي أحكمت سيطرتها على العراق وإيران في ظل الدولة العباسية؛ ففي هذه المرحلة التي تزامنت مع بدايات الغيبة الكبرى للإمام المهدي، وظهور الشيخ الصدوق في ايران والعراق، ثم زعامة الشيخ المفيد للشيعة وبعده السيد المرتضى، وحتى المرحلة الأولى من زعامة الشيخ الطوسي؛ حصلت انفراجة مهمة لشيعة العراق، وتخلّصوا من أعمال القمع والتشريد والتضييق التي كانت تطالهم قبل سيطرة البويهيين، وأصبح شيخ الطائفة أو سيد الطائفة أو زعيم الطائفة الشيعية يتحرك بحرّية نسبية. وقد كان هذا المفصل مهماً في عملية إنضاج العملية التأسيسية للنظام الاجتماعي الديني الشيعي التي جرت فصولها في بغداد. ولذلك؛ فإنّ تأسيس «النظام الاجتماعي الديني الشيعي» في عصر الغيبة، كانت تأسيساً بغدادياً عراقياً، بما في ذلك امتداداته الجغرافية التي حملت النكهة العراقية البغدادية أيضاً.
وقد عاش الشيخ الطوسي المرحلة الأُولى من زعامته في نهايات حكم البويهيين في بغداد، وفي هذه الفترة هجم السلاجقة الأتراك على بغداد واحتلّوها، وهم محاربون متعصبون للمذهب السني؛ فانتقلت بغداد من الاحتلال الشيعي الفارسي إلى الاحتلال التركي السني، وحينها عاد الوضع الشيعي إلى ما كان عليه من التضييق والقتل والتشريد، وألقيت أغلب كتب الشيعة في نهر دجلة، وعادت المذابح في صفوف الشيعة كما كانت عليه سابقاً. ولذلك؛ هاجر شيخ الطائفة الطوسي الى النجف الأشرف مع أغلب تلاميذه، حيث مرقد الإمام علي، والحوزة العلمية الفرعية؛ فأعاد الطوسي بناءها، وحوّلها الى الحوزة العلمية الشيعية المركزية، وعاصمةً للنظام الاجتماعي الديني الشيعي.
وحينها أصبح النجف، الحاضرة الشيعية المغلقة الوحيدة الشيعة؛ فبغداد التي مثلت سابقاً مركزية «النظام الاجتماعي الديني الشيعي» هي مدينة متنوعة مذهبياً، بمعنى أن فيها السلفية وفيها الشيعة وفيها السنة وفيها من مختلف المذاهب، وحتى فيها النصارى واليهود والصابئة؛ في حين أن النجف عندما انتقل إليه الطوسي، كانت حاضرة وبلدة شيعية محضة، وحتى محيطها، أي البلدات المجاورة لها، كان محيطاً شيعياً. هذا الأمر، إضافة إلى بُعد النجف جغرافياً عن بغداد، مركز القرار السياسي، أعطى الاجتماع الديني الشيعي دفعاً نوعياً وكمياً قوياً، واستقلالية كاملة، بمعنى أن وجود مركزية النظام الاجتماعي الديني الشيعي في بغداد سابقاً كان يؤثر نسبياً على استقلاليته؛ إذ كان القرار الشيعي يتأثّر بشكل وآخر بالقرار السياسي للدولة، ويتأثّر بالأحداث، ويتأثر بطبيعة الجماعة القومية أو الطائفية التي تحتل العاصمة بغداد. ولكن هذا الأمر انتهي عندما انتقلت مركزية «النظام الاجتماعي الديني الشيعي» وقيادته المرجعية إلى النجف.
والحقيقة أنّ الشيخ الطوسي لم ينقل المرجعية الشيعية والحوزة العلمية من بغداد إلى النجف وحسب، إنّما نقل مركزية «النظام الاجتماعي الديني الشيعي» الى النجف، وحوّل النجف، لأول مرة في تاريخ الشيعة، الى عاصمة دينية وعلمية واجتماعية شيعية خالصة، وهو ما لم يكن يحظ به الشيعة سابقاً، لا في الكوفة ولا في المدينة المنورة ولا في بغداد، وحينها بات الطوسي المرجع الديني والقائد المطلق للنظام الاجتماعي الديني الشيعي، بكل مكوناته وعناصره الدينية والدنيوية. وأصبح للشيخ الطوسي الحرية الكاملة في إرسال الوكلاء الى كل بلدان الوجود الشيعي، وفي استقبال الأموال وفي توزيعها، وفي استقبال الاستفتاءات وإرسال الفتاوى، وفي إدارة شؤون الشيعة في كل هذه البلدان.
هذه المركزية والاستقلالية والحرية للنظام الاجتماعي الديني الشيعي، هي القواعد (الطوسية) الثلاثة التي ظل الشيعة يتوارثونها عبر الأجيال، ولم يكن للشيعة أن يحصلوا عليها في ظل وجود التعسّف الذي تمارس السلطة العباسية، عندما كانت مركزية النظام الشيعي في بغداد. وهذا أيضاً هو الفرق المؤسساتي الكبير بين ما قبل النجف وما بعد النجف، وإلّا فطبيعة عمل المرجعية الشيعية وصلاحياتها، سواء في عهد الطوسي أو في عهد الذين سبقوه، كالشيخ الصدوق والشيخ المفيد والسيد المرتضى، هي واحدة من ناحية التأصيل التشريعي ومن ناحية صلاحيات المرجع. فقد استثمر الشيخ الطوسي وجود بلدة شيعية خالصة، بعيدة عن القرار السياسي الضاغط طائفياً، وله حرية التحرّك فيه، وكانت فيها بالأساس حوزة علمية قبل أن ينتقل إليها، ووجود مرقد الإمام على بن ابي طالب، الأمر الذي أتاح للشيخ الطوسي تحويل النجف من بلدة دينية فيها مرقد الإمام علي وحاضرة علمية صغيرة، إلى عاصمة للنظام الاجتماعي الديني الشيعي، ومركز عالمي دائم للعلوم الدينية الشيعية، لايزال قائماً حتى الآن، بمركزيته وعنوانه وصفته الذي أسس له الشيخ الطوسي قبل (1000) عام.
وبناءً عليه؛ فإن العناصر الأربعة الرئيسة التي ميّزت حوزة النجف الطوسية، وعبرت عن اختيار عبقري للشيخ الطوسي، تتمثل بما يلي:
العنصر الأولى: إنّ النجف أول حوزة تنشأ في بيئة شيعية خالصة؛ إذ أن الحوزات العلمية السابقة، في الكوفة والمدينة ومكة وبغداد، سواء في عهد الأئمة وما بعد الغيبة، كانت تعمل في بيئات متنوعة مذهبياً، وحتى متنوعة على مستوى الأديان، فضلاً أن النجف كانت يحظى بحماية العشائر العربية الشيعية المحيطة بالنجف، في الكوفة والحيرة وغيرهما من المناطق المحيطة بالنجف
العنصر الثاني: إن النجف أول حوزة علمية شيعية تعيش أجواء مستقلة سياسياً، بعيداً عن أي تأثير من السلطة السياسية. أي أن النجف كان محمياً من أية تأثيرات سياسية سلبية معارضة.
العنصر الثالث: إن الشيخ الطوسي جاء الى النجف ليجعله مركزاً نهائياً للحوزة والمرجعية والنظام؛ فهو لم ينتقل إلى النجف ليبق بضع سنوات، بنية الرجوع إلى بغداد أو الذهاب الى كربلاء أو قم أو مشهد، إنّما ليعيد تأسيس الحوزة والمرجعية والنظام، على قواعد محكمة، تستمر لآلاف السنين من بعده.
العنصر الرابع: إنّ الشيخ الطوسي قام بعملية مأسسة نوعية وكمية، وذلك عندما بنى هيكلية جديدة للنظام الاجتماعي الديني الشيعي في النجف، كما أسس لسياقات وقواعد وأعراف متجددة ثابتة؛ فهو لم يؤسس لهيكلية موقتة أو هيكلية ظرفية، لتسيير أمور الطائفة لسنوات، وفق ما تسمح به الظروف، كما كان الحاصل في بغداد، إنّما أسس لهيكلية تدوم طويلاً، أي أنه تحرك بعقلية ستراتيجية وأسس لهيكلية ستراتيجية.
وحيال كل ذلك؛ تتبين ما كان يتمتع الشيخ الطوسي من قابليات إدارية كبيرة وقدرة قيادية عالية المستوى، وليس مجرد تميّز فقهي وعلمي، ولعل وجود النظام المرجعي والحوزوي القائم في النجف حتى الآن هو جزء من العبقرية التنظيمية والإدارية والقيادية للشيخ أبي جعفر الطوسي. وربما لو كان هناك مرجع آخر غير الطوسي، توافرت لديه الظروف نفسها، ولكن ليس لديه القابلية على التدبير والإدارة والقيادة، وليست لديه الوعي بالشأن العام، الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وليس لديه النظرة الستراتيجية والتفكير العميق؛ لما تأسس النظام الاجتماعي الديني الشيعي في النجف، بهذه البنية والشكل المتماسكين العالميين، ولبقي هشّاً، حتى يقيّض له شخص آخر ليقوم بهذا الدور. وهنا تأتي أهمية الكفاءة لدى المرجع، أي الكفاءة الإدارية والتدبيرية والسياسية والاجتماعية والقيادية، والتي بإمكانها نقل الواقع الشيعي الى ظروف أفضل على كل الصعد.
وقد استمر عصر الشيخ الطوسي ما يقرب من (459) سنة، أي حتى ظهور الدولة الصفوية في العام (907هـ /1501م) على يد الشاه إسماعيل الصفوي.
5ـ العصر الخامس: عصر السيد إسماعيل الصفوي الموسوي في تبريز وإصفهان:
بدأ هذا العصر على يد السيد إسماعيل بن حيدر الصفوي، وهو عميد السادة الصفويين في زمانه، وهي أُسرة علوية مهاجرة من أُصول عراقية ينتهي نسبها إلى الإمام موسى الكاظم. واتخذ السيد إسماعيل الصفوي لقب الشاه إسماعيل بعد أن أسس الدولة الشيعية الصفوية انطلاقاً من مدينة تبريز في العام (907هـ /1501م)، ثم انتقلت عاصمتها إلى مدينة إصفهان في عصـر حفيده الشاه عباس الأول في العام (1006هـ /1598م). وهي أول دولة شيعية إقليمية منذ انهيار الدولة الفاطمية قبل ذلك التاريخ بثلاثة قرون ونصف، وهي القرون التي كان خلالها الشيعة يعيشون أوضاعاً صعبة من القمع والاضطهاد، فجاءت الدولة الصفوية لتقلب المعادلة الطائفية في المنطقة الإسلامية رأساً على عقب، وتنهي احتكار الدولة العثمانية السنية لحكم العالم الإسلامي([7]). وكان البناء المذهبي للدولة الصفوية يقوم على جهود الفقهاء العرب (العراقيين واللبنانيين والبحرانيين)، الذين كانوا أئمة الدولة وقضاتها ومبلغيها. ولذلك فإنّ المنظومة العقدية والفقهية التي حكمت الدولة الصفوية؛ أنتجها علماء دين عرب ([8])، وليسوا فرساً أو أذربيجانيين.
وقد شهد هذا العصر تطوراً شاملاً في الواقع الشيعي المحلي والدولي، وبات الشيعة يحكمون أغلب مناطق غرب آسيا وشرقها، بدءاً بإيران وأفغانستان وأجزاء من شبه القارة الهندية وانتهاء بالعراق وأجزاء من القوقاز والمناطق الخليجية. وشكلت الدولة الصفوية حماية أساسية للشيعة العرب بوجه المجازر التي كانوا يتعرضون لها على يد العثمانيين. وبات هناك تداخل كبير بين النظام السياسي للدولة والنظام الاجتماعي الديني الشيعي. كما شهد هذا العصر نهضة علمية وفقهية كبيرة جرت أغلب فصولها في النجف وإصفهان. واستمر الصعود الشيعي السياسي والثقافي والاجتماعي هذا مدة (262) سنة، أي حتى انهيار الدولة الصفوية في العام 1763م. وأعقب سقوطها انهيارات متوالية في الواقع الشيعي، وتعرض النظام الاجتماعي الديني الشيعي إلى ضربات منظمة قاسية من الدولة التركية العثمانية، وكان أبشعها المجازر التي ظل يتعرض لها شيعة لبنان والعراق.
وكان موقف الفقهاء الشيعة من الدولة الصفوية حينها إفرازاً لوعيهم الستراتيجي الواقعي، سواء الفاعلين في إطار الدولة الصفوية، أو المقيمين في أراضيها أو التابعين لغيرها؛ فقد كانوا ــ من جهة ــ يمارسون واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حيال ما يتلمسونه من سلوكيات متعارضة مع الشريعة لدى السلطة الصفوية، ويقومون بالتوجيه والإرشاد المطلوب، ومن جهة أخرى؛ فإنهم لم يتخلوا يوماً عن دعم الدولة الصفوية، ولم يسلبوا الشرعية يوماً من الشاه الصفوي، رغم قدرتهم على ذلك، لإدراكهم أهمية السلطة في حماية المذهب وأتباعه، في ظل حملات الاجتثاث التي كان الشيعة يتعرضون لها في كل العالم الإسلامي، وهم بذلك يستندون الى قواعد شرعية معروفة، سواء بالعنوان الأولي أو بالعنوان الثانوي، وتحديداً القواعد التي تندرج ضمن فقه الأولويات والتزاحم والمصلحة العامة ودفع الضرر ودرء المفسدة.
والأكثر من ذلك؛ فإن فقهاء الشيعة كانوا يكرسون حضورهم المعنوي والميداني في مفاصل الدولة الصفوية، بهدف التحكم بتوجهاتها الدينية المذهبية، سواء في موقع المرجعية ورئاسة الإفتاء أو في القضاء والتبليغ، وحتى في السلطة التنفيذية، وكان بعضهم يرافقون الجيش الصفوي ويمارسون في داخله مهام التوجيه الديني ومراقبة سلوك العسكر خلال الحروب. ولم يقتصر هذا الدعم على الفقهاء العرب الممسكين بالشؤون الدينية في الدولة الصفوية، بل الفقهاء الشيعة في البلدان الأخرى، ولاسيما فقهاء العراق، إضافة الى فقهاء البحرين ولبنان والأحساء، ولم يُعرف عن فقهاء الشيعة في ذلك العصر معارضة تذكر للدولة الصفوية.
ورغم علم هؤلاء الفقهاء بوجود طموحات شخصية وأُسرية لدى أغلب الشاهات الصفويين، وتلمّسهم بعض السلوكيات غير الشرعية لدى سلطات الدولة؛ فإنهم كانوا يجدون أنفسهم وسط خيارات متزاحمة صعبة، وأصعبها الخيار الذي يؤدي الى ضعف الدولة الصفوية أو انهيارها، وهو ما يقود إلزاماً الى فقدان الواقع الشيعي برمته الخيمة الأبوية المتمثلة بالدولة الفاعلة المستقرة، وقوة الحماية والاندفاع والصعود الوحيدة التي يمتلكها. وقد كانوا يتلمّسون عمق إنجازات الدولة الصفوية في الجانب الديني المذهبي، والقائم على استراتيجية تكريس حضور التشيع في مفاصل بلاد فارس، وتحويله الى مذهب رسمي وشعبي فيها، وحماية شيعة العراق ولبنان وسوريا والبحرين من القمع العثماني والطائفي، وكذلك حماية شيعة القوقاز وأفغانستان وما وراء النهر، ونشر التشيع في شبه القارة الهندية وشرق آسيا، وخاصة تايلند وإندونيسيا وماليزيا، وصولاً الى تأسيس الدول والممالك الشيعية في شبه القارة الهندية، ودعمها عسكرياً ومالياً ومذهبياً.
كما كان فقهاء الشيعة يتلمّسون حجم التآمر والغزو الطائفي ضد الدولة الصفوية من قبل الدول والإمارات والقبائل السنية المحيطة بأراضي الدولة الصفوية، وخاصة الدولة العثمانية من الغرب وشمال الغرب، والقبائل التركمانية والأوزبكية والغزنوية والبلوشية من الشرق، فضلاً عن فتاوى التكفير ووجوب الجهاد ضد الشيعة عموماً، والدولة الصفوية خصوصاً، وهو ما كان يدفع الفقهاء الشيعة الى تبادل الحماية والدفاع مع الدولة الصفوية، ومشاركتها في جهودها الدينية والسياسية، والعسكرية أيضاً وكانوا يدركون أنّ التآمر على الشيعة، وأعمال القمع التي تمارس ضدهم، لا علاقة لها بالصراع الصفوي العثماني، أو الصفوي الأفغاني أو الصفوي التركماني، بل إن هذا القمع أصل ثابت في سياسات الدول والكيانات الطائفية، سواء كانت الدولة الصفوية قائمة أو غير قائمة، وهو ما صار واضحاً بعد سقوطها. وبالتالي؛ فإن جهود فقهاء الشيعة في شرعنة وجود الدولة الصفوية، وجهودهم في حمايتها ومنع إضعافها، كانت تهدف الى إحباط ذلك التآمر ومواجهة التقاليد الطائفية في قمع الشيعة.
وكان فقهاء ذلك العصر متأكدين من أن ضعف الدولة الصفوية وانهيارها؛ سيؤدي الى كوارث كبرى، ليس على مستوى المذهب في بعده الديني والعقدي وحسب، بل على مستوى الشيعة كمجتمعات، وخاصة المجتمعات الشيعية العربية، وهو ما حصل بالفعل، واستمر قمع الشيعة عقوداً طويلة، حتى ظهور نادر شاه الأفشاري، ثم تأسيس الدولة القاجارية، الأمر الذي أعاد للوجود الشيعي جزءاً من عافيته. وقد استمرت التدهور في الواقع الشيعي بعد سقوط الدولة الصفوية، مدة (216) عاماً([9])، أي حتى ظهور دولة الإمام الخميني في إيران في العام 1979م.
6ـ العصر السادس: عصر السيد روح الله الموسوي الخميني في قم وطهران:
تخلل القرن الميلادي العشرين صحوات محدودة وثورات محلية ومشاريع ستراتيجية شيعية في العراق ولبنان وإيران وباكستان وغيرها([10])، بدأت منذ العام 1905؛ إلّا أنّها لم ترق إلى التأسيس لعصـر شيعي جديد. بينما شكّل نجاح ثورة الإمام روح الله بن مصطفى الموسوي الخميني وتأسيس الدولة الإسلامية الشيعية في إيران في العام 1979م؛ بداية عصـر جديد للنظام الاجتماعي الديني الشيعي. وهو ثاني مرجع ديني في التاريخ يؤسس لعصـر شيعي بعد الشيخ الطوسي. وتختلف الدولة التي أسسها الإمام الخميني اختلافاً جذرياً عن الدول الشيعية التاريخية التي سبقتها؛ لأنّ جميع تلك الدول كانت دولاً سلطانية وراثية متشبهة بالدول السلطانية السنية، ولم يتأسس نظامها السياسي على نظرية فقهية. أي أنّ الجمهورية الإسلامية في إيران هي أول دولة شيعية عقدية في عصر الغيبة تستند إلى مبدأ فقهي تأصيلي هو مبدأ ولاية الفقيه، وأول حكومة إسلامية عقدية إمامية بعد حكومة الإمام الحسن بن علي.
وترافقت مسيرة الدولة الإسلامية الشيعية في إيران مع نهوض شيعي شامل، ديني وعلمي وسياسي واجتماعي ودولي، منح للنظام الاجتماعي الديني الشيعي حمايةً وقوة وتمدداً غير مسبوق، منذ انهيار الدولة الصفوية، ليس على مستوى إيران وحسب؛ بل على مستوى جميع الدول التي تضم امتدادات للنظام الاجتماعي الديني الشيعي، ولا سيما العراق ولبنان وآذربيجان وأفغانستان واليمن ولبنان وسورية، وهي البلدان التي شهدت التحولات الشيعية الأبرز خلال العقود الأربعة من عمر العصـر الشيعي السادس، وهي التحولات التي صنعتها أو مهّدت لها أو احتضنتها دولة الإمام الخميني. وقد قلبت هذه التحولات الطاولة على النظم الطائفية التي ظلت تمارس أقسى ألوان التمييز والاضطهاد والقمع ضد الشيعة. ولذلك لم تتعرض أي دولة شيعية للغزو الطائفي بهذه الشدة والشمولية والكثافة كما تعرضت له جمهورية الإمام الخميني، في إطـار محـاولات نوعية إقليميـة ودولية لإسقـاط العصر الشيعي السادس ([11]).
ويمكن القول؛ إن كل ما حققته النهضة الشيعية العالمية خلال العقود الخمسة الأخيرة، وكل ما يحصده الشيعة اليوم من صعود تاريخي كمي ونوعي، هو نتاج ما زرعه المؤسس الإمام الخميني، وقد وصفت هذا الصعود الكبير بـ «العصر الذهبي» و«قيامة الشيعة» في الكتاب الذي يحمل العنوان نفسه. وقد ترك الإمام الخميني إرثاً ضخماً نوعياً وكمياً من الفكر النهضوي الجديد، ومن القادة والأنصار، الذين ساهموا في النهضة أيضاّ، وتركوا ولايزالون بصماتهم فيها.
([1]) أُنظر: علي المؤمن، «من المذهبية إلى الطائفية: المسألة الطائفية في الواقع الإسلامي»، ص14 ـ 27. أسد حيدر، «الإمام الصادق والمذاهب الأربعة»، ج2.
([2]) أُنظر: ترجمة السفير الأول ودوره وكذلك السفراء الأربعة: الشيخ الطوسي، «الغيبة». و«رجال النجاشي»، ص343. السيد محمد الصدر، «تاريخ الغيبة الصغرى».
([3]) أهم الدول الشيعية التي تأسست في الفترة (172 ـ 567ه = 789 ـ 1172م) هي: الدولة الإدريسية في المغرب (172 ـ 305ه )، والدولة العلوية في إيران (205 ـ 304ه )، والدولة الأُخيضـرية في جنوب الجزيرة العربية (اليمامة) (252هـ = 866م) (قيل: إنّ دولتهم انتهت في آخر معركة لهم مع القرامطة سنة (317هـ = 929م) . وقيل: بل دام ملكهم إلى نحو سنة (486هـ = 1093م)، والدولة البويهية في إيران والعراق (321 ـ 447ه )، والدولة الحمدانية في العراق والشام (293 ـ 392ه)، والدولة الفاطمية في المغرب العربي ومصر (296 ـ 567ه).
انظر: محمدجواد مغنية، «الشيعة في الميزان»، ص127وما بعدها. سعيد رشيد زميزم، «دول الشيعة عبر التاريخ». الشيخ نجاح الطائي، «الدول الشيعية وعصرها الذهبي».
([4]) أُنظر حول ما قام به صلاح الدين الأيوبي من مجازر وانتهاكات ضد المسلمين الشيعة: حسن الأمين، «صلاح الدين الأيوبي بين العباسيين والفاطميين والصليبيين». المقريزي أحمد بن علي، «المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار» المعروف بـ «الخطط المقريزية»، ج2.
([5]) أُنظر ترجمة الشيخ الطوسي: الشيخ آقا بزرك الطهراني، مقدمة تفسير التبيان. الدكتور حسن عيسى الحكيم، «الشيخ الطوسي أبو جعفر محمد بن الحسن». العلامة الحلي الحسن بن يوسف، «خلاصة الأقوال في معرفة الرجال»، تحقيق: جواد القيومي. السيد محمد مهدي بحر العلوم، «الفوائد الرجالية»، تحقيق: محمد صادق بحر العلوم وحسين بحر العلوم. محمد رضا موسويان، «آفاق الفكر السياسي عند الشيخ الطوسي»، ترجمة وتحقيق: صفاء الدين الخزرجي.
([6]) حول تاريخ النجف قبل هجرة الشيخ الطوسي إليها وخلال ذلك وبعده أُنظر: جعفر الدجيلي، «موسوعة النجف الأشرف». الدكتور حسن عيسى الحكيم، «المفصل في تاريخ النجف الأشرف». جعفر محبوبة، «ماضي النجف وحاضره»، و«تاريخ الأُسر العلمية في مدينة النجف»، مجلة تراث النجف، العدد 1، السنة 1، ربيع الأول1430هـ. علي أحمد البهادلي، «الحوزة العلمية في النجف: معالمها وحركتها الإصلاحية»، محمد علي جعفر التميمي، «مشهد الإمام أو مدينة النجف». جعفر الخليلي، «موسوعة العتبات المقدسة» ـ قسم النجف، ط2. عبد الحسن الشافعي، «الأطراف الأربعة في النجف الأشرف». مجلة الولاية، النجف، العتبة العلوية، 4/5/2016. طالب علي الشرقي، «النجف الأشرف». السيد محمد الغروي، «مع علماء النجف».
([7]) حول دور الدولة الصفوية في قلب المعادلة الطائفية في العالم الإسلامي، أُنظر: كولن تيرنر، «التشيع والتحول في العصر الصفوي»، ترجمة: حسين علي. حسن كريم الجاف، «موسوعة تاريخ إيران السياسي». كمال السيد، «نشوء وسقوط الدولة الصفوية»، ط. باقيات ـ قم / 2005. الدكتور عباس إسماعيل صباغ وإقبال عباس، «تاريخ إيران بعد الإسلام»، ترجمة: محمد علاء الدين. الدكتور علي الوردي، «الدولة الصفوية والتشيع». محمد أمحزون، «الدولة الصفوية في إيران: التاريخ والمنهاج»، مجلة البيان، العدد 251، 6/ 4 /2010. محمد سهيل طقوش، «تاريخ الدولة الصفوية». السيد محسن الأمين، «أعيان الشيعة»، تراجم ملوك العصر الصفوي.
([8]) ومن هؤلاء: الشيخ علي بن عبد العالي الكركي، والشيخ درويش محمد بن الحسن العاملي، والشيخ علي بن هلال الكركي، والشيخ حسين بن عبد الصمد الجباعي، والشيخ بهاء الدين العاملي، والشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي.
أُنظر في هذا المجال: كولن تيرنر، «التشيع والتحول في العصر الصفوي»، مصدر سابق. الشيخ جعفر المهاجر، «الهجرة العالمية إلى إيران في العصر الصفوي». الدكتور علي الوردي، «الدولة الصفوية والتشيع». نصر الله فلسفي، «إيران وعلاقاتها الخارجية في العصر الصفوي»، ترجمة: محمد فتحي الريس. السيد محسن الأمين، «أعيان الشيعة»، تراجم مراجع وعلماء العصر الصفوي.
([9]) أُنظر: علي المؤمن، «سنوات الجمر: مسيرة الحركة الإسلامية في العراق»، (الفصل الأوّل).
([10]) أُنظر: علي المؤمن، «الغزو الطائفي في مواجهة المشروع الحضاري الإسلامي».
([11]) أُنظر: علي المؤمن، «الغزو الطائفي في مواجهة المشروع الحضاري الإسلامي».
latest video
news via inbox
Nulla turp dis cursus. Integer liberos euismod pretium faucibua