عاشوراء وموسم اختطاف التشيع،

Last Updated: 2024/04/14By

عاشوراء: موسم لاختطاف التشيع

د. علي المؤمن

بعض من يرتقي منبر أهل البيت أو يضع العمامة الشيعية على رأسه أو يمتلك قناة تلفزيونية تتكلم باسم التشيع؛ يستغل مواسم عاشوراء في كل سنة؛ ليعرض أحاديث وسلوكيات تشوه نقاء مذهب آل البيت وأصالته وعقلانيته، وتصب في مصلحة مذاهب التكفير المعادية لأهل البيت؛ لأن هذه الممارسات والأقوال المنسوبة الى التشيع تتعارض ومقاصد الإصلاح والوعي في نهضة الإمام الحسين، وتتعارض أيضاً مع فتاوى المرجعية العليا وتوجيهاتها التي تصدرها الى لأمة عموماً، والى خطباء المنبر والقائمين على الشعائر الحسينية خصوصاً، كما أنها تنفر الآخر الديني والمذهبي من التشيع، ومن ذلك ما يقوم به هؤلاء التحريفيون من المجاهرة بالخرافة والبدع قولاً وسلوكاً، والغلو بأئمة أهل البيت، وسب رموز المدرسة السنية، وكلها قراءات لاعلاقة لها بمدرسة آل البيت.

وقد ظهر خلال العقود الثلاثة الأخيرة بعض الخطباء و(الرواديد) الذين لايراعون أدنى مصلحة للتشيع، ولايحترمون عقول مستمعيهم. وسواء أحسنّا الظن بهم، وحملناهم على محمل الغفلة والجهل والعناد والغرور، أو محمل الانتساب الى مدارس الانحراف والخرافة، أو حملهم آخرون على محمل الارتباط بأجندات تخريبية معادية للمذهب؛ فإنهم ـــ في كل الحالات ـــ يستبيحون منبر أهل البيت ويحولونه الى منبر للضلال والغلو والانحراف وتشويه صورة مذهب أهل البيت، أو يحولونه الى منبر للتحليل السياسي وفرض المواقف السياسية على المستمعين. وبالنتيجة يظهر بعض الخطباء وكأنه متخصص في كل الشؤون والعلوم. والحال أن كثيراً منهم لم ينه سطوح العلوم الحوزوية ولم يتخرج من الثانوية.

والخطير في الأمر، أن مدارس التحريف والغلو الجديدة، تجاهر بأنها تمثل التشيع حصراً، وأن خصومها هم المنحرفون والضالون؛ برغم ضآلة عدد أتباعها وافتقارها الى الكفاءات النوعية، وعدم قبول أفكارها وسلوكياتها من الخط العام للمرجعية الدينية ومن مجمل النظام الاجتماعي الديني الشيعي. وهي في الحقيقة مصداق الـ ((شَين)) على أهل البيت، كما يصف الإمام الصادق بعض الشيعة بخطابه: ((كونوا زيناً لنا ولاتكونوا شيناً علينا))؛ لأن أتباع هذه المدارس يرتكبون ــ في آن واحد ــ جريمتين بحق التشيع والشيعة:

الجريمة الأولى: أنهم يقدمون أدلة مجانية مبتدعة تدعم مزاعم المذهب الوهابي التكفيري، وتساهم في توسيع مساحات تأثيره على أتباع المذاهب السنية الأخرى. هذه الأدلة الملموسة تقود كثيراً من عوام السنة الى الإرتماء في أحضان العقيدة الوهابية التكفيرية وتصديق مزاعمها ضد الشيعة. ولذلك لانستغرب حين لايرف جفن أغلب السنة وهم يشاهدون المجازر التي يتعرض اليها الشيعة في كل مكان؛ لأن المسوغات التي يستدل بها الوهابيون التكفيريون؛ تتناغم وعواطف كثير من أهل السنة؛ برغم أنها مسوغات متهافتةابتدعتها فئات قليلة معزولة من الشيعة.

الجريمة الثانية: تشويه عقيدة آل البيت وتلويث طهرها، وتضليل الشيعة وحرف مسار حركتهم الفكرية والميدانية، وضرب عناصر القوة في النظام الاجتماعي الديني الشيعي، عبر طرح أفكار وسلوكيات تحت عنوان “العقيدة” و”الشعائر” و”المعاجز” و”الكرامات”، ولكنها ـــ في الحقيقة ـــ تتعارض مع تعاليم آل البيت ونهضة الإمام الحسين. وهذه الأفكار والسلوكيات هي في حقيقتها مسعى خطيراً يقوم به المغالون والخرافيون لانتاج عقيدةٍ وسلوكٍ يخطفان عنوان التشيع بمرور الزمن. ولعل من أبرز المؤشرات التمهيدية لمساعي الإختطاف هذه هو أن مدارس التجهيل والتخريف تعمل على أن تكون الأكثر امتلاكاً لوسائل التعبير؛ بدءاً بالمؤسسات والجمعيات، والمدارس والمنابر، والقنوات التلفزيونية، وانتهاءً بالجماعات السياسية ومجموعات الضغط الاجتماعية والأموال الطائلة. ولذلك؛ يمكن القول إنها تمكنت من اختطاف مساحات مهمة من الشارع الشيعي، عبر تسخير كل ألوان الجذب التي تستقطب عواطف الناس وأسماعهم وأبصارهم.

وعند هاتين الجريمتين يكمن التناقض العحيب بين شعارات التحريفيين الخرافيين المنادية بالولاء لأهل البيت ومواساتهم والتأسي بهم من جهة، وبين أفكارهم وسلوكياتهم المتعارضة مع تعاليم أهل البيت ونهضة الإمام الحسين من جهة أخرى؛ إذ أن تعاليم أهل البيت تلخص عقيدة الإسلام وفقهه وأخلاقه وحكمته وعقلانيته ورشده وتحضره، وتتعارض كلياً مع الغلو والخرافة والجهل والبدع.

صحيح أن عناصر المناعة القوية تبقى تحول دون تمكن المبتدعين والمغالين الجدد من اختطاف التشيع، لكن إصرارهم على بدعهم وضلالهم، وإضرارهم بمصالح الواقع الشيعي، سيؤدي بهم الى تأسيس فرق ضالة جديدة بعيدة عن مدرسة آل البيت، كما حصل مع العلي اللهية ومدارس الغلو تاريخياً، أو ماحصل في القرون الأخيرة مع العبيدية والدراويش والبابية والبهائية والسلوكية وغيرهم.

وكما هو واضح من تكرار مفردة بعض في المقال، فأنا اتحدث عن بعض أصحاب المقاتل والكتّاب والخطباء والشعراء والرواديد، وعن بعض المظاهر والطقوس والسلوكيات، وهذا البعض خطير جداً في تشويه صورة نهضة سيد الشهداء وطهرها. والذين يتقولون على آل البيت ويمارسون السلوكيات الانحرافية هم أقلية ذات صوت عال ووسائل تعبير هائلة، لكنهم ـــ كما ذكرنا في المقال ـــ لم ولن يستطيعوا اختطاف التشيع ونهضته؛ بل سيتحولون بمرور الزمن الى فرق ضالة إذا أصروا على تنفيذ أجنداتهم التخريبية، حالهم حال الشخصيات والفرق التي سبق أن انحرفت عن التشيع. مع التأكيد على أن المحرفين والمغالين ليس من الضروري أن يكونوا مرتبطين بمخططات أجنبية معادية للمذهب، مع وجود أمثال هؤلاء المرتبطين دون شك؛ بل أن أغلبية التحريفيين تنساق وراء المناهج المتطرفة والمتحجرة والسطحية للفهم الديني والتاريخي، أو التعصب والعواطف والعناد والعقل الجمعي.

إن التحريف والتخريف المقصود في مقالي المذكور يشتمل على ثلاثة اقسام:

  • التحريف في الوقائع التاريخية لنهضة الإمام الحسين عبر الروايات الموضوعة أو الأقوال المختلقة.
  • التحريف والتخريف في بعض الطقوس التي تحول التشيع الى فُرجة مقززة لايرضى بها الله ورسوله وآل بيته.
  • التحريف في أهداف نهضة الإمام الحسين، وتجزأتها وتفكيكها، وتحويلها من نهضة إصلاحية دينية مفصلية في مسار الإسلام، هدفها إعادة العقيدة الى واقع الأمة وإقامة حكم الإسلام وتطبيق شريعة رسول الله، الى مشهديات طقسية أو تضحوية أو ثورية، أو سرديات خرافية، أو تماهيات مع التفسيرات التجزيئية الوضعية.

أما مصاديق التحريفات والتخريفات للأقسام الثلاثة السالفة والأدلة عليها؛ فهي كثيرة جداً، وقد ذكرتُ بعضها في الكتاب الذي أعكف عليه الآن: ((الحسين نهضة وليس ثورة)). كما تحدث عنها وتصدى لها عشرات المصلحين من المراجع والمفكرين والباحثين وكبار الخطباء، كالسيد محسن الأمين والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء والسيد ابو الحسن الإصفهاني والسيد محسن الحكيم والإمام الخميني والشيخ المطهري والسيد الصدر والشيخ الوائلي والسيد الخامنئي والسيد السيستاني وآخرون من الفقهاء والمفكرين والباحثين. ولايعني هذا وجود تطابق في التوجيهات والفتاوى بين مراجع المذهب ومفكريه، فكل منهم ينظر الى إصلاح المنبر والتاريخ والشعائر من زوايته، لكنها في المجموع تتفق على الخطوط العامة، وإن تنوعت المصاديق.

إنّ ذكر المصاديق ربما يحتاج الى جهد واسع وأحاديث مطولة، وتدوين مجلدات، وعرض تسجيلات صوتية وصور ومشاهد فيديو؛ لأن المصاديق والأدلة بالمئات، وهي واضحة وضوح الشمس للمطلعين. كما أن من يقوم بأعمال التحريف والتشويه ومن يدعمها ومن يقف ورائها معروفون أيضاً. لكن؛ مما لا شك فيه أن نشر هذه المصاديق والأدلة بتلك الصيغ والكثافة، هو عمل لاينسجم مع المصلحة العامة، وخاصة في ظل تشابك المؤامرات ضد مدرسة آل البيت وأتباعها في كل مكان؛ إذ سيساهم هذا النشر والترويج والتشهير في تشويه صورة مدرسة آل البيت أيضاً، ويعمل على دق إسفين الفتنة المجتمعية بين أتباعها.

وعليه؛ فإن من يريد اكتشاف المصاديق والأدلة؛ التعرف ابتداءً على المعايير الحاكمة التي حددها القرآن الكريم والصحيح من سنة الرسول وآل بيته؛ لأنها الميزان الذي نزن فيه الغلو والخرافة والإساءة للمذهب ولشعائر آل البيت. صحيح أن مفاهيم الغلو والانحراف والتجهيل والدس هي مفاهيم عامة فضفاضة مفتوحة، ولكن يمكن تحديدها بما يتفق وتلك المعايير، من خلال عرض مصاديقها الكلية والتفصيلية على هذه المحددات، فإذا تطابق المصداق مع المعيار المحدد أو قاربه، سنعرف حينها ماهو الشرعي وماهو اللاشرعي، وماهي الشعائر وماهي الطقوس، وماهو الأصيل وماهو الدخيل، وماهو المستقيم وماهو المحرّف، وماهي المختلقات والخرافات وماهي الحقائق والوقائع، وماهي المصالح وماهي المفاسد.

وهناك فرق جوهري بين الشعيرة الدينية والطقس الاجتماعي المنسوب الى الشعيرة. فالشعيرة المنصوص عليها بنص صريح صحيح هي توقيفية تعبدية، أما الطقوس الاجتماعية المنسوبة اليها، والتي أسسها عموم الشيعة في مختلف بلدان العالم، عبر السنين؛ فهي نتاجات إنسانية، وليست شعائر بالمعنى العقدي والفقهي، ويطلق عليها المجتمع “شعائر” مجازاً وتسامحاً؛ كونها منسوبة الى الشعيرة. وبالتالي؛ فهي بحاجة الى موقف الشرع، إثباتاً أو نقضاً بالعنوان الأولي أو العنوان الثانوي أو حكم الحاكم الشرعي.

إن الفعل التصحيحي لمراسيم إحياء أمر آل البيت وسيرتهم هو الأصل، وليس الخطاب الإنفعالي في الرد على التحريف والتخريف والإساءات والتشويه التي يتسبب فيه بعضهم. ولذلك؛ يحتاج النظام الاجتماعي الديني الشيعي الى نهضة شاملة في مجال التصحيح والاصلاح وإعادة المسارات، تتوزع على خمسة محاور نهضوية فرعية تكمل بعضها:

  • نهضة إرشادية وفتوائية دينية: وهي نهضة تخصصية تقودها المرجعية الدينية وتنفذها أجهزة الحوزة العلمية والوكلاء والمعتمدون والخطباء المجازون من الحوزة العلمية.
  • نهضة علمية وبحثية: وتتضمن التحقيق الدقيق في سيرة آل البيت وأحاديتهم وماروي عن أفعالهم وتقريراتهم؛ لتكون النتائج ملزمة لجميع أتباعهم، وحجة على الجميع، بمن فيهم دعاة الخرافة والتحريف. كما تتضمن معاهد وكليات لإعداد الخطباء والمبلغين والشعراء والرواديد، بإشراف الحوزة العلمية، وإجازات تمنحها لهذا الغرض.
  • نهضة إعلامية وأدبية: وتتضمن إطلاق وسائل إعلام وفضائيات وبرامج ومواد إعلامية ووثائقية ومؤتمرات ومحاضرات ومجلات وقصائد وقصص وروايات وأشعار بالعامية والفصحى. وجميعها تعتمد على نتائج النهضة العلمية والبحثية وتوجيهات المرجعية العليا.
  • نهضة فنية: وتشتمل على إنتاج الأفلام والمسلسلات والأناشيد والموسيقى والمواد الفنية وإقامة المهرجانات، بالاعتماد على نتائج النهضة العلمية والبحثية وتوجيهات المرجعية العليا.
  • نهضة اجتماعية ثفافية: وتشتمل على بث الوعي الجماهيري المركّز والمكثف، وتنظيم الشعائر والممارسات والسلوكيات العامة.

وبما أن الطقوس الاجتماعية المنسوبة الى الشعيرة الدينية هي شأن اجتماعي عام وليس شأناً خاصاً، وأنها تمثل مظاهر اجتماعية وليست فردية، ولذلك فهي تقع في إطار الأمور الحسبية التي يترتب عليها حفظ النظام الاجتماعي الديني الشيعي، وجلب المصالح له ودرء المفاسد عنه. ولايمكن لهذا الدور الرأسي أو القيادي الاجتماعي الديني أن يقوم به جميع المراجع والفقهاء في الزمان والمكان نفسيهما؛ لأن التزاحم واختلاف الرأي بين الفقهاء في الشأن العام، سينتج عنه فوضى مجتمعية ومفاسد كبيرة تطيح بالنظام الاجتماعي الديني الشيعي.

وعليه؛ يكون من البديهي حصر إصدار الأحكام الثانوية والولائية الخاصة بشرعنة ممارسات إحياء أمر آل البيت والطقوس الاجتماعية المتعلقة بها، بالفقيه المتصدي أو المرجع الأعلم الحي في كل زمان، وهو الذي يحدد شرعية بعض المراسيم والعادات والطقوس المختلف عليها أوعدم شرعيتها، وصلاحها أو عدم صلاحها. أما حيال الفقهاء الآخرين الذين أوصلهم اجتهادهم الى رؤى فقهية مختلفة أو متعارضة مع رؤى المرجع الأعلى أو الفقيه المتصدي للحسبة والحكم، ويرون تكليفهم في صيغ أخرى؛ فإن مصلحة المجتمع الشيعي ووحدة مساره وأمنه، تقتضي عدم مزاحمة المرجع الأعلى أو الولي الفقيه في تطبيق رؤاه اجتماعياً.

وعلى مستوى العراق والمساحات الشيعية الأخرى المرتبطة بالنجف؛ فإن هذا الدور الرأسي هو بعهدة المرجع الأعلى الحي سماحة الإمام السيستاني، ورؤيته في تشخيص المصالح والمفاسد العامة. ولعل توجيهاته التي يصدرها بنفسه أو عبر مكتبه ووكلائه، هي الفيصل في هذا المجال.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment