ظاهرة التكفير في الواقع الإسلامي

Last Updated: 2024/04/14By

ظاهرة التكفير في الواقع الإسلامي

د. علي المؤمن

برزت قضية التكفير في الواقع الإسلامي في وقت مبكر، وبلغت مستوى خطيراً خلال حكم الدولة العباسية، وذلك نتيجة للمواقف المتطرفة التي كانت تتخذها بعض التيارات الفكرية والسياسية. وإذا أحسنّا الظن بهذه التيارات واستبعدنا تغليبها مصالحها الخاصة وتوجهاتها السياسية، فسنقول بأنها ظلت جاهدة على فهمها للنص المقدس وأحادية وضيقة في نظرتها للواقع وللمصلحة الإسلامية، فضلاً عن القلق الفكري والعقيدي الذي تعاني منه.

وظل الخلاف العقدي المذهبي هو المنطلق الأساس لظاهرة التكفير، مع عدم إغفال العاملين الشخصي والسياسي الذي ظل يغذي ظاهرة التكفير، وفقاً لمصالحة، من أجل تحقيق مكاسب شخصية وسياسية. ولم يقتصر لتكفير على العلاقة بين السنة والشيعة فقط، بل كثيراً ما كان يحدث بين مذاهب المدرسة الإسلامية الواحدة، فقد كان مؤسسو الفرق والمذاهب السنية هم الذين بدأوا ظاهرة التكفير وإخراج بعضهم من الإسلام، ومثال ذلك ما كان الاتهامات القاسية التي كان يتبادلها الإمام مالك بن انس والإمام أبو حنيفة النعمان؛ إذ قال مالك في أبي حنيفة: «الداء العضال: الهلاك في الدين. وأبو حنيفة من الداء العضال»، و«إن أبا حنيفة كادَ الدين، ومن كادَ الدين فليس له دين))، وقوله: «ما ولد في الإسلام مولود أضر على أهل الإسلام من أبي حنيفة». وفي المقابل قال الفقيه محمد ابن أبي ذئب (ت 159 ه) إن مالك بن أنس «يُستتاب. فإن تاب، وإلا ضربت عنقه»، لأنه لم يأخذ بحديث ((البيعان بالخيار)).

كما يذكر الشيخ عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل عشرات الطعون في أبي حنيفة نقلاً عن أبيه وغيره من الفقهاء المعاصرين لأبي حنيفة، كمالك والأوزاعي وسفيان الثوري؛ كقول الفقيه الأوزاعي: «ما ولد في الإسلام مولد أشر من أبي حنيفة وأبي مسلم، وما أحب أنه وقع في نفسي أني خير من أحد منهما وأن لي الدنيا وما فيها»، وقول الفقيه سفيان الثوري: «استتيب أبو حنيفة من الكفر مرتين»، وبرواية أخرى: «استتيب أبو حنيفة من كلام الزنادقة مرارا».

ويمكن الوقوف على مظاهر اتجاهات التكفير في تاريخ المسلمين، من خلال الأحداث الطائفية التاريخية التي شهدتها بغداد ودمشق خلال القرون الخامس إلى الثامن للهجرة. كما ظلّت حرب الفتاوى التكفيرية تهيئ الأرضية (الشرعية!) للاقتتال، فمن الفتاوى المبكرة في هذا الصدد، فتوى الشيخ ابن حاتم الحنبلي، التي يقول فيها: «من لم يكن حنبلياً فليس بمسلم». وقابلت باقي المذاهب السنية الحنابلة بفتاوى معاكسة بينما رأى الشيخ أبو حامد الطوسي (ت 567 هـ) أن يضع الجزية على الحنابلة.  وتمدد التكفير الى الحنفية وأيضاً أيضاً، حتى قال الشيخ محمد بن موسى الحنفي، قاضي دمشق (ت سنة 506 هـ): «لو كان لي من الأمر شيء لأخذت على الشافعية الجزية».

واستمرت حركة التكفير والاتهام بالخروج عن الإسلام في المراحل التاريخية اللاحقة، وخاصة مع ظهور المدرسة السلفية التكفيرية التيمية، التي أسسها الشيخ أحمد بن تيمية (ت 728 هـ)، والتي أضافت ذرائع أكثر تعقيداً، استسهلت عبرها تكفير المسلمين؛ فحين اجتمعت المذاهب في دمشق على الحنابلة تستنكر آراء الشيخ احمد ابن تيمية الحنبلي التكفيرية؛ أفتى علماء أهل السنة بارتداد الحنابلة وبكفر ابن تيمية، ونادى المنادي: «من كان على دين ابن تيمية حل ماله ودمه».

ويتضح من خلال ذلك كله، أن الصراع الطائفي العنيف كان سبباً رئيساً في سيطرة المغول على البلاد الإسلامية، ومن المصاديق المأساوية لهذه الحقيقة قضية احتلالهم أصفهان، بالشكل الذي يذكره ابن أبي الحديد، إذ يقول بأن القتال بين الحنفية والشافعية وصل حداً في أصفهان، أن خرجت جماعة من الشافعية إلى المغول، الذين احتلوا المدن المجاورة وعجزوا عن احتلال أصفهان سبع سنوات كاملة، وقالت لهم: «اقصدوا البلد حتى نسلّمه إليكم» على أن يعينوا الشافعية على الحنفية، فنقل ذلك إلى ملك المغول “قاآن بن جنكيزخان”، فحاصر أصفهان، في وقت كان الشافعية والحنفية يواصلون القتال في المدينة، حتى قتل كثير منهم، وفتح الشافعية أبواب المدينة، على عهد بينهم وبين التتار أن يقتلوا الحنفية ويعفوا عن الشافعية، إلا أن التتار بدأوا بقتل الشافعية وانتهوا بالحنفية، ثم سائر المسلمين.

وقد تسبب هذا الصراع الدموي في تشكيل تيار من المسلمين يتكتمون على حقيقة انتمائهم المذهبي، إما خوفاً وإما لمصلحة أخرى. وهو نوع تقليدي من أنواع التقية، التي لم تقتصر على الشيعة، بل كان أتباع المذاهب السنيّة يستخدمونها أيضاً. ويعبر الزمخشري عن هذا الاتجاه بقوله:

((وإذا سألوا عن مذهبي لم أبح به           وأكتمه كتمانه لي أسلم)).

وإذا كان الخلاف بين المذاهب السنية نفسها قد أصبح بهذا الحجم؛ فكيف به – إذن – بين السنة والشيعة، فلا بد أن يتخذ هذا الخلاف طابعاً آخر، يتمثل في التحزب الشامل المتقابل، والذي يشكل الحكام أحد أهم مفرداته؛ فقد قامت السلطات المتتالية، الأموية والعباسية والأيوبية والسلجوقية والعثمانية وغيرها، بقتل أئمة الشيعة وعلمائهم، وصولاً الى الناس العاديين، وكانت تهمة التشيع تعني سياسياً الخروج على السلطة، كما تعني عقائدياً البدعة والارتداد والكفر، وكان كلا المعنيين (التكفير والمعارضة) يكمل أحدهما الآخر، فالذين أفتوا بكفر الشيعة واتهموهم بالانحراف، إنما فعلوا ذلك بدوافع مختلفة، لعل من أبرزها التزلف والتقرب لخلفاء بني أمية وبني العباس، وتتمثل الدوافع الأخرى في الخوف من ميل الناس نحو التشيع، أو الوقوع في اللبس نتيجة اشتراك بعض الفرق والمذاهب مع الإمامية الاثني عشرية في تسمية «الشيعة»، وكذلك حمل الغلاة عليها، فإذا وجدوا – مثلاً – أقوالاً منكرة أو كافرة عند أحد هذه المذاهب، نسبوها إلى التشيع عامة أو إلى الإمامية خاصة. والدافع أو العامل الأخير هو اتباع أو تقليد علماء المذاهب السابقين من الذين اتهموا الشيعة.

وكان الشيخ برهان الدين المالكي والشيخ عباد بن جماعة الشافعي بارتداد الشيخ محمد بن مكي العاملي، كبير علماء الشيعة في بلاد الشام وزعيم الشيعة في وقته، والمعروف بالشهيد الأول، حيث قتل بالسيف، ثم صلب ورجم وأحرقت جثته بالنار في سنة 786 هـ في دمشق.

واستدعت المصالح السياسية الطائفية أن تنشط حركة التكفير والرمي بالارتداد خلال احتلال الدولة العثمانية للبلدان العربية والإسلامية، فقد أدت فتوى شيخ الإسلام في الدولة العثمانية نوح حكيم الحنفي، إلى مقتل (40 ـــ 70) ألف شيعي في منطقة الأناضول التركية، و(44) ألفاً في منطقة جبل عامل اللبنانية، و(40) ألفاً في مدينة حلب السورية وضواحيها على يد السلطان سليم الأول (ت 925 هـ)، الذي أمر بقتل الشيعة أينما وجدوا في البلاد العثمانية، حتى ذكر أنه لم يبق شيعي في حلب، حيث قتل رجالهم وسبيت نساؤهم وانتهبت أموالهم وأخرج الباقون من ديارهم. وتتضمن فتوى الشيخ نوح التي ذكرها في كتاب “الفتاوى الحامدية” وجوب مقاتلة الشيعة وكفر من لا يرى ذلك، إذ يقول: «إن هؤلاء (الشيعة) الكفرة البغاة الفجرة، جمعوا بين أصناف الكفر والبغي والعناد، وأنواع الفسق والزندقة والإلحاد، ومن توقف في كفرهم وإلحادهم ووجوب قتالهم وجواز قتلهم، فهو كافر مثلهم… فيجب قتل هؤلاء الأشرار الكفار تابوا أو لم يتوبوا»، ثم حكم – في نهاية فتواه – باسترقاق نسائهم وذراريهم.

وقتل العثمانيون أيضاً، بأمر رستم باشا الوزير، الشيخ زين الدين الجبعي العاملي (أحد كبار علماء الشيعة في بلاد الشام والمعروف بالشهيد الثاني) سنة 965 هـ، بعد أن وشى به بعض علماء السنة بأنه يدّعي الاجتهاد ويريد نشر المذهب الجعفري. وفي الوقت نفسه سوغت الفتاوى لوالي عكا العثماني قتل الشيعة في جبل عامل قتلاً جماعياً، وكان بينهم فقهاء وأدباء ومفكرون وشيوخ عشائر. ثم قام المير ملحم بن الأمير حيدر بمهاجمة منطقة جبل عامل بلبنان أيضاً في سنة 1147 هـ، فقتل وسلب وخرب ونهب.

وأدت المجازر التي قامت بها الدولة العثمانية في منطقة جبل عامل، إضافة إلى الملاحقات واعتقال واغتصاب ومصادرة الأموال، إلى اضطرار بعض الأسر الشيعية في لبنان بالتظاهر باعتناق الديانة المسيحية، هرباً من القتل والملاحقة، لأن دماء المسيحيين كانت محقونة في الدولة العثمانية، باعتبارهم أهل ذمة، بينما كان دم الشيعي المسلم مهدوراً. كما كانت بعض الأسر الشيعية تخفي أولادها عند الأسر المسيحية لتخليصهم من الموت. ومن هنا نرى فروعاً من العائلات الشيعية المعروفة وبعضها من الأشراف (السادة) تنتمي إلى الطوائف المسيحية.

وفي شرق البلاد الإسلامية استند السلطان عبد المؤمن خان الأوزبكي إلى الفتاوى، للقيام بمجزرة كبرى في خراسان في سنة 997 ه، بعد أن استباح مدنها وقراها، وقتل الآلاف من سكانها، وسبى نساءهم وانتهك حرماتهم، لكونهم من الشيعة.

وقد تم إحياء المنهج التيمي التكفيري والإقصائي، وممارسات السبي والذبح؛ على يد التيميين الجدد، المتمثلين بالوهابية السعودية، وهو المنهج الذي يٌجمع عليه مشايخ الوهابية قاطبة، والذي ظل يؤدي منذ نهايات القرن الثامن عشر الهجري الى ظهور كثير من الحركات التكفيرية الإرهابية التي سفكت دماء المسلمين، وسبت نساءهم ودمرت مساجدهم ومقدساتهم وممتلكاتهم، ونهبت أموالهم.

وإمعان النظر في ظاهرة التكفير؛ يقود إلى الشك فيمن ابتدعها أو مارسها وروج لها، وفي نواياه، لأن التكفير يعني التنصل عن المبادئ التي جاء بها الرسول محمد، وكذلك عما ثبته أئمة المذاهب أنفسهم، إذ يقول الرسول: «ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، وهم يد على من سواهم، فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل». وقد أجمعت المذاهب الإسلامية على حد أدنى للإسلام. وهو ما تحدث عنه الأئمة وأتباعهم أكثر من مرة. يقول الإمام جعفر الصادق: «الإسلام هو الظاهر الذي عليه الناس، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت وصيام شهر رمضان».

ويذكر الشعراني في «طبقاته» ما نقله أحمد السرخسي، عن أبي الحسن الأشعري (شيخ الأشاعرة) قوله عندما حضرته الوفاة: «اشهدوا عليَّ، إنني لا أكفر أحداً من أهل القبلة بذنب، لأني رأيتهم كلهم يشيرون إلى معبود واحد، والإسلام يشملهم ويعمّهم». ويذكر الشعراني أيضاً إجماع علماء بغداد، بقولهم: «لا يكفّر أحد من المذاهب الإسلامية، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فله ما لنا وعليه ما علينا». وقد سئل الشيخ تقي الدين السبكي (سنة 756 هـ) عن حكم التكفير، فأجاب: «إن كل من خاف الله عز وجل، استعظم القول بالتكفير لمن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله».

وبالتالي؛ فإن معالجة ظاهرة التكفير الطائفي تستدعي الكشف عن جذورها وخلفياتها العقدية والفقهية والسياسية، وسيكون في التصدي لها ودحضها؛ درءاً عملياً لمفاسد كبيرة عن المسلمين، وجلباً للمصالح لهم، وإنهاء لكثير من الصراعات المجتمعية والسياسية.

 

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment