شرط الكفاءة في المرجع الأعلى

Last Updated: 2024/04/14By

شرط الكفاءة في المرجع الأعلى

د. علي المؤمن

ينعكس تأثير السمات الشخصية السلبية المتعلقة بالتكوين النفسـي للفقيه على ملكة التقوى والعدالة تلقائياً، وليس على توجيه مسار استنباط الفتوى وحسب، ولا سيما في القضايا المتعلقة بالنظام العام. فمن الصعوبة ـ مثلاً ـ اجتماع شرط العدالة وملكة التقوى مع صفات الجبن والاستبداد وضيق الصدر والبخل والحسد والتعصب، أو التسامح المفرط والسذاجة وقلة التدبير وضعف الشخصية؛ إذ ستكون العدالة والتقوى حينها مفهومان فضفاضان لا يكبحان جماح التأثيرات النفسية والشخصية للفقيه وانعكاساتها على «عدالة الفتوى» و«تقوى الحكم الشرعي». وبالتالي، فإنّ الفقاهة والأعلمية لا تخلقان ملكة التقوى ولا نزعة العدالة، كما أنّ الأعلمية والعدالة لا تمنحان الفقيه قوة الشخصية وحسن الإدارة والتدبير والحكمة.

ولذلك، تقود الحاجة إلى إضافة شرط أساس للمرجع الأعلى المتصدّي لزعامة الشأن العام، هو شرط الكفاءة. هذا الشرط الترجيحي ربما هو الأهم إطلاقاً في ترجيح فقيه على آخر لتبوُّء منصب القيادة المرجعية؛ بل مرجحاً على الأعلمية النسبية، أو ما يمكن تسميته «شبهة عدم الأعلمية». فإذا كان هناك ـ مثلاً ـ خمسة مراجع متقاربين في المستوى العلمي، وكان أحدهم مشتهراً بأعلميته، والآخر مشتهراً بكفاءته؛ فمن الأولى هنا ترجيح الأكفأ للتصدّي للمرجعية العليا، مع لحاظ الشرط الرابع: المقبولية العامة.

والكفاءة هنا تعني الصفات والمهارات والسمات الشخصية الذاتية التي مرّ ذكرها، والتي تجعل الفقيه أو المرجع المتصدّي يمتلك قدرة تشخيص المصالح والمفاسد، والقدرة العملية على الزعامة والتدبير في الشأن العام الاجتماعي والسياسي والثقافي والمعيشي، ومن بينها القضايا ذات العلاقة بالمجتمعات والدول التي يتواجد فيها الشيعة. ويمكن إجمال هذه السمات والصفات والمهارات بما يلي:

  • الحكمة ورجاحة العقل والاتزان المقترنة بالشجاعة.
  • الوعي الدقيق بالمحيط الاجتماعي والوطني والدولي، إلى مستوى القدرة العميقة على تشخيص المصالح والمفاسد على المستويين المحلي والعام.
  • قدرة الإدارة والقيادة والتدبير، بدءاً بالحاشية والمكتب الخاص ومؤسسة المرجعية والحوزة العلمية، وانتهاء بالمجتمع والشأن العام.
  • الثقافة العامة، ولا سيما في العلوم والمعارف المرتبطة بفتاوى الشأن العام وإدارته، كعلوم الاجتماع والنفس والأنثروبولوجيا والسياسة والقانون والاقتصاد.
  • نزعة استشارة أهل الاختصاص الحقيقيين في موضوعات الفتاوى والأحكام والشأن العام، سواء من علماء الحوزة أو غيرهم.

وتعقيباً على المهارة الخامسة السابقة، فإنّ جزءاً من مظاهر الحكمة وكفاءة الزعامة والتدبير؛ الاستعانة بأصحاب الاختصاص الحقيقي في تشخيص الموضوعات؛ كخبراء الاجتماع والسياسة والاقتصاد والنفس والإعلام والعلاقات الدولية والقانون والتعليم، فضلاً عن خبراء استحصال المعلومات وتحليلها، وليس الاقتصار على الخواص وأعضاء المكتب. وهنا تفرض آلية المشورة وجود مجلسين لأهل الخبرة في مؤسسة المرجعية، أحدهما ديني خاص بكبار علماء الحوزة، والمتمثل بمجلس أهل الخبرة الحوزوي الذي سبق أن تحدثنا عنه، والآخر مجلس مختلط يجمع بين علماء الحوزة والخبراء المدنيين في مختلف الاختصاصات. فضلاً عن وجود مراكز للدراسات وتحليل المعلومات فائقة التخصص خاصة بمنظومة المرجعية.

وأن يكون المجتهد أعلماً في العلوم الدينية؛ لا يعني أنّه كفوء في الجانب القيادي والإداري، أو أنّه يمتلك وعياً اجتماعياً وسياسياً وثقافياً، أو أنّه حكيم؛ لأنّ العلم الديني والاجتهاد والفقاهة والأعلمية في الشـريعة لا تخلق من صاحبها قائداً أو مثقفاً أو واعياً في المجالات الحياتية الاجتماعية أو شجاعاً وحكيماً. في حين أنّ الكفاءة القيادية وقابلية التدبير والوعي الاجتماعي والحكمة والشجاعة هي معايير القائد الحقيقي، أي أنّ هذه الشروط هي التي تجعل من الفقيه قائداً دينياً، وليس تبحره في قواعد الاستنباط وتطبيقها على موضوعاتها وحسب.

إنّ السمات والمواصفات الكاشفة عن الكفاءة، والتي تفرضها طبيعة وظائف المنصب، وإن كانت نسبية وليست مطلقة؛ هي سمات ترجيحية، ومن يكشفها هو مجلس أهل الخبرة الذي تمت الإشارة إليه سابقاً. وهذا الترجيح يشبه ما يقوم به مجلس خبراء القيادة في إيران، والذي يكشف عن توافر شروط العدالة والكفاءة المساوقَين لوظائف الولي الفقيه. وهذا هو السبيل الواقعي الحسي الوحيد، أو ما يسمونه «الحكم الظاهري»، الذي يبذل البشـر المتخصصون جهدهم من أجل الوصول إليه. أما حقيقة العدالة والتقوى والكفاءة والأعلمية، فلا يعلمها إلّا الله.

وتحتاج الإدارة التخصصية بكل أشكالها إلى كفاءة إدارية تنسجم مع طبيعة الوظيفة، إلى جانب الاختصاص، بدءاً بمدير المستشفى ومدير المشـروع الهندسي وانتهاء برئيس الجامعة ووزير الصحة والولي الفقيه، وإن كان تطبيقها عملياً يتم بصورة نسبية؛ لكنها ـ في الحد الأدنى ـ مثبتة في القوانين الإدارية عادة. أما المنصب الوحيد الذي لم يوضع له شرط الكفاءة المساوقة لطبيعة الوظيفة، ولا يؤخذ بنظر الاعتبار؛ هو منصب مرجعية التقليد؛ في حين أنها كإدارة دينية اجتماعية؛ تعد أخطر أنواع الإدارة وأكثرها حاجة إلى الكفاءة الإدارية والقيادية.

وربما تتضاءل أهمية شرط الكفاءة في المرجعية الدينية في إيران؛ بالنظر لوجود الولي الفقيه الحاكم، والذي يقوم بالأدوار الاجتماعية والسياسية والرعوية للمرجعية. بينما يزداد هذا الشـرط أهميةً في النجف؛ لأنّ مرجعية النجف تتفرد بقيادة الاجتماع الديني والثقافي والسياسي الشيعي، ليس في العراق وحسب؛ بل تشترك مع الولي الفقيه ومراجع آخرين في قيادة الواقع الشيعي في بلدان التواجد الشيعي الأُخر.

قد ينظوي مبدأ ولاية الفقيه العامة على مقومات النجاح بالأساس، إلّا أنّ عناصر نجاح تطبيق المبدأ في إيران، والتطور الشامل الذي حازه هذا البلد لا تقتصر على المقومات الخاصة بالمبدأ؛ بل يعود إلى مجموعة عناصر موضوعية متكاملة أُخر، أهمها:

1ـ شخصية الإمام الخميني وكفاءته القيادية المتفردة، ومن بعده الكفاءة القيادية للسيد الخامنئي.

2ـ وجود خبرة تراكمية سياسية اجتماعية عامة؛ أي توافر عنصـر الحيوية والتفاعل بالأساس في الاجتماع السياسي الشيعي الإيراني.

3ـ وجود إيديولوجية شعبية موحدة تمثل الناظم الموحد للشعب، وهو المذهب الشيعي الذي يعتنقه ما يقرب من 85% من الشعب الإيراني.

وهي عناصر ربما يصعب توافرها في بلد آخر، وكأنّ مبدأ ولاية الفقيه العامة مفصّل على مقاس إيران وشعبها، وربما لو تم تطبيقه في بلد آخر يفتقر إلى الكفاءة القيادية المرجعية، والاجتماع الديني والسياسي المتفاعل، والناظم الإيديولوجي الموحد لأغلبية الشعب؛ لفشل المبدأ في التطبيق، كما فشلت ـ مثلاً ـ الديمقراطية الليبرالية فشلاً ذريعاً في عراق ما بعد 2003، بسبب عدم توافر الشروط الموضوعية لتطبيقها.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment