رهان التحكّم بالمستقبل
رهان التحكّم بالمستقبل
د. علي المؤمن
ظلّ المستقبل بالنسبة للبشرية هاجساً يرافقها في رحلة الحياة منذ عصور بعيدة، لما ينطوي عليه من رهان مصيري على البقاء والاستمرار، وظلّ هذا الرهان يستبطن مشاعر متناقضة من الأمل والطموح والخوف والتشاؤم. ومن أجل مواجهة هذه المشاعر، عمد الإنسان إلى محاولة اكتشاف المستقبل بمناهج ابتكرها، بدءاً بالتأمّل والتنجيم وانتهاءً بالعرافة والتنبّؤ. وكانت الأديان السماوية الأُولى ـ كما ذكرت أوائل الفصل ـ تسعى لصرف أنظار الإنسان عن المناهج الخرافية في معرفة المستقبل، فوضعت له منهجاً يربط المستقبل بالغيب والرؤيا.
حتى جاء الإسلام.. الدين الخاتم ليفيض على البشرية بنعمة التكامل في النظرية والعمل، وليمنح الإنسان رؤية صادقة في استشراف المستقبل، ويدفعه نحوها، في إطار بناء المستقبل الإسلامي المشرق، الذي يحقّق للإنسان هدفه في الاستخلاف وإعمار الأرض وبناء الدنيا للآخرة والكدح لملاقاة الربّ الرحيم. إلّا إنّ المسلمين في عصور التراجع انساقوا بعيداً عن هذا المنهج، وعاشوا حالة الانفعال والاستسلام الكامل، التي أدّت بهم إلى ألوان بشعة من التنكّر للحاضر والمستقبل.
أمّا النهضة الإنسانية الأُخرى، فإنّها حوّلت الحديث عن المستقبل إلى أنساق ومناهج علمية، نظرت إلى سنن التاريخ وفلسفة التقدّم ومعايير التطوّر العلمي نظرة إستراتيجية تهدف إلى اكتشاف المستقبل وتحديد خياراته وبدائله، وصولاً إلى التحكّم به وبنائه وفقاً لتصوّرها الكوني الوضعي وغاياتها المادية في الحياة.
إنّ المستقبل (الإسلامي) ليس مجرداً في مفاهيمه وتطبيقاته، وليس منعزلاً عن معادلات التأثير والتأثر مع الدوائر الأُخر، إذ تصدق هذه التجريدات على معتقد يعيش أتباعه في جزيرة نائية، فمن البديهي أن تؤخذ كل عوامل التأثير والتأثر بنظر الاعتبار، بمحدداتها المكانية، فضلاً عن النواميس العامة والسنن الإلهية التي لا تختص بدائرة دون أُخرى. وهنا يكمن أحد أبرز مؤشرات واقعية المنهج الذي يعتمده المركز في عملية الاستشراف، فبناء المستقبل الإسلامي بصيغة علمية يتم وفقاً لمساحات زمنية واضحة، تشكل بمجموعها خططاً قصيرة أو متوسطة أو بعيدة المدى، سواء في إطار الدوائر الإسلامية العامة أو الدوائر الخاصة أو الدوائر التي تتوسطهما.
لقد تجاوزت الدراسات المستقبلية في دول الشمال أو الدول المتقدمة صناعياً مرحلة التنظير لهذا الحقل المعرفي واكتشاف مناهجه والتعريف به والحديث عن أهميته وضرورته؛ لأنّها مارسته كآلية لاقتحام المجهول القادم، منذ نهايات القرن التاسع عشر الميلادي، ووقفت عملياً على خطورة إغفاله، ولم تكتف بإقراره مادة تعليمية في الثانويات والجامعات، وبتخصص مئات المؤسسات البحثية لاستخدامه في التحكم والسيطرة المستقبلية، بل حوّلته إلى رأي عام وثقافة اجتماعية يتشبع بها الفرد والأُسرة، ويتشبع بها المجتمع بكل ألوانه واختصاصاته، سياسية كانت أم اقتصادية أم فكرية أم مدنية، فضلاً عن الدولة وأجهزتها. وباتت معظم الدراسات الإستراتيجية والخطط الحكومية تضع دعائمها على النتائج التي تخلص إليها الدراسات المستقبلية، حتى باتوا يحسون أنهم يعيشون المستقبل.
ولا نبغي في هذه الكلمة عقد مقارنة بين الحقائق التي ميزت عالم الشمال بتبنيه خيار المستقبل، وواقع الدراسات المستقبلية في وسطنا العالم ثالثي أو الجنوبي أو الإسلامي، بالنظر للتباين الشديد في نوعية المراحل التي يعيشها العالمان، ولا سيما بعد أن تنبه عالمنا إلى خيار مرحلته الواقعية، أي خيار العصر وأهمية اقتحامه والعيش في صميمه، وهي خطوة متقدمة بحد ذاتها، وفيها الكثير من الواقعية التي تحتم الانتقال من الماضي أو التاريخ إلى الحاضر أو العصر ثم إلى المستقبل، دون عبور حالم على المراحل، وهي أيضاً المعادلة التي سبق أن أذعن إليها الشمال في العقود الأُولى من القرن العشرين، إذ كان هذا العالم ينفض يديه حينها من خيار العصر، بعد أن عاش في صميمه عقوداً طويلة، وبات يفكر بالخروج من قمقم العصر ليتجه نحو المستقبل اتجاهاً علمياً يضمن من خلاله المحافظة على إنجازات العصر، وتحويلها إلى مولدات لإنتاج طاقة اقتحام العصور القادمة، بهدف ضمان التحكم بها عن بعد.
وهذا لا يعني أنّ تبني عالم الشمال لخيار المستقبل ضمن له تجاوز الأزمات التي تعصف به، وحلَّ مشكلات إنسانه ومجتمعه، بل إنّ الخطأ القاتل الذي وقع فيه الشمال والمتمثل في إغفال البعد المعنوي في التطور والاندفاع نحو المستقبل، ثم استحضار آلهة جديدة تحمل عناوين المادة والعلم والتكنولوجيا، أدى به إلى هذه الأزمات الحادة في الأخلاق والسلوك الفردي والاجتماعي وفي الثقافة والفكر.
أمّا عالمنا، فإنّه يعيش مرحلة أُخرى ـ كما تقدم ـ هي مرحلة التشبث بالعصر وخياراته، وهي مرحلة لا يمكن تجاوزها إلى مرحلة أُخرى، إلّا بعد التسلح بمتطلبات المعركة الجديدة، ونقصد بها معركة المستقبل.
ونرى أنّ السلاح الأهم في هذه المعركة، على المستوى المعرفي والمنهجي، هو سلاح الدراسات المستقبلية، وذلك يتطلب ـ في مرحلتنا ـ التعرف على هذا الحقل والتنبه لضرورته وأهميته، ثم ممارسته نظرياً، وصولاً إلى هدف ثماره العملية، التي تأخذ فيها الأُصول والمبادئ المقدسة موقعها الحقيقي في رسم معالم المستقبل وتحديد شكله ومضمونه.
والمركز الإسلامي للدراسات المستقبلية؛ يساهم ـ من موقعه ووفقاً لإمكاناته ـ في ممارسة دور التعريف بحقل الدراسات المستقبلية، وخلق وعي إسلامي بالمستقبل، ومحاولة اكتشاف منهج إسلامي مستقل، يمارس من خلاله عملية الاستشراف في إطار الأهداف والغايات الإلهية.
ومن الأهداف الأساسية التي ظل مشروع الدراسات المستقبلية الإسلامية يؤكدها ويركز عليها في أدبياته: هدف «نشر الوعي بالمستقبل وقضاياه في الوسط الإسلامي، ولا سيما على مستوى الشرائح المثقفة، والسعي لتحويل هذا الوعي إلى رأي عام يجد له صدى في وسائل الإعلام والمؤسسات البحثية والثقافية الأُخرى». ويعني هذا أنّ المشروع يخاطب الوسط الإسلامي بشرائحه كافة، ولا سيما النخب.. على مختلف تخصصاتهم وتوجهاتهم، للإسهام معاً في تركيز حالة الوعي بالمستقبل، والتعبير عن الاهتمام به بالوسائل العملية الفاعلة التي تجعله التزاماً فردياً وجماعياً يدفع بالهدف نحو التحقق، ويعمل على تثبيت دعائم المشروع كمطلب استراتيجي لا يمكن تجاوزه.
والواقع أنّ تحقيق هدف خلق وعي إيجابي بالمستقبل، يتوقف على تعاضد جهود من مختلف الألوان والمجالات، وتتمثل في الشرائح التي يخاطبها المشروع أساساً، ابتداء بالمرجعيات الدينية وفقهاء الشريعة، والمفكرون والكتّاب والباحثون والمثقفون والخبراء، والمؤسسات والأجهزة العلمية والفكرية والثقافية والإعلامية، وانتهاء بأصحاب الأموال والعطاء.
وبكلمة أُخرى فإنّ دعائم تحقيق الهدف وتطبيق الفكرة ونجاح المشروع واستمراره تتمثل في:
1 ـ الجهد الفكري والعلمي الذي يمارسه المفكرون والخبراء والباحثون.
2 ـ التأصيل والتوجيه الشرعي من قبل العلماء.
3 ـ دعم الخيرين وبذلهم.
4 ـ تعاون المؤسسات والمراكز البحثية والفكرية.
5 ـ التشجيع والاهتمام الذي تبديه وسائل الإعلام.
6 ـ حماية المسؤولين والمؤسسات الرسمية.
إنّ توافر هذه الدعائم مجتمعة كفيل بخلق وعي إسلامي نوعي بالمستقبل وقضاياه، يتمظهر في رأي عام ضاغط، وتوجه نخبوي مسؤول، ومؤسسات بحثية رصينة، إذ لا بدّ من مظاهر عملية مؤسساتية لهذا الوعي، تأخذ على عاتقها بلورة النظرية الإسلامية المستقبلية وتأصيل منهجها، والتنبيه على قضايا المستقبل، وتستشرف صوره وتخطط لبدائله، وتحدد الوسائل اللازمة لذلك؛ لتدفع بالأُمّة نحو بناء مستقبلها الحضاري. ولا شك أنّ بذور هذا اللون من الوعي لا بدّ أن تنمو ـ أولاً ـ في الدعائم التي تمسك بالواقع الإسلامي برمته، ثم ينطلق منها إلى رحاب الأُمّة بصورة مختلفة.
latest video
news via inbox
Nulla turp dis cursus. Integer liberos euismod pretium faucibua