ربط القومية العربية بالطائفية السنية في أيديولوجيا الدولة العراقية الحديثة

Last Updated: 2024/04/14By

ربط القومية العربية بالطائفية السنية في أيديولوجيا الدولة العراقية الحديثة

د. علي المؤمن

التمييز الطائفي المؤدلج الذي استخدمته الدولة العراقية ضد الشيعة بعد تأسيسها في العام 1921، كان بحاجة الى مسوغ دعائي لتمريره ولإسكات لشيعة؛ فكان الاتهام بالطائفية هو المسوغ الجاهز الأول لكل شيعي يرفع صوته معترضاً على الطائفية، والمسوغ الآخر الذي تم استدعاؤه من الموروث الطائفي العنصري الأُموي؛ فهو اتهام شيعة العراق بأنهم إيرانيون أو عملاء لإيران، وبهذه التهمة الذكية، سيتمكنون من تحقيق هدفين: إبعاد الشيعة عن أي نفوذ سياسي ومطالبات بالحقوق، كونهم إيرانيين، ودفع بعض الشيعة (المهزومين) الى شتم إيران وشيعتها، والى التشدق بالعروبة، والابتعاد عن الالتزام الديني المذهبي، لكي يثبت عروبته وعراقيته ووطنيته.

ومن خلال الوقوف على أفكار وسلوكيات نموذجين لمنظري حراك ربط القومية العربية بالطائفية السنية، وهما الشاعر العراقي الكردي معروف الرصافي والمفكر السوري الألباني ساطع الحصري، يمكن التعرف على طبيعة التأسيس لهذه الحراك، والدعم المطلق الذي كانوا يجدونه من الدولة.

يقول معروف الرصافي: ((إن مذهب التشيع في الإسلام يمت في أصله إلى أبناء فارس بنسبة لا مرية فيها. وإنه إنما وضع من قبل الفرس لقتل الإسلام دين الوحدة والتوحيد بسلاح منتزع منه، ولهدم العروبة بالمعول الذي هدمت به مجد فارس. فليس من العجيب أن ترى أعجمياً يتمذهب بمذهب التشيع، ولكن العجب كل العجب أن يتمذهب به من يدّعي أنه عربي ولو بالاسم فقط. فلو سألني سائل ما أعجب ما رأيت في هذه الحياة الدنيا لأجبته فوراً دون تردد أو تلعثم إن أعجب ما رأيت في الدنيا شيعي يدعي أنه عربي. لأن بين التشيع والعروبة تناقضاً لا يخفى على أسخف العقول. فإن كان هذا الشيعي عربياً صريحاً كما يدّعي فقد مسخه مذهب التشيع حتى صار بمنزلة الحيوان الأعجم الذي لا يدرك ما هو فيه من حالة من أين تبتدئ وإلى أين تنتهي. وإن لم يكن عربياً وإنما ادعى العربية تقية منه لخوف أو مكيدة، فهو معذور لأن مذهب التشيع يوجب عليه التقية وإن كانت التقية بمعناها الحقيقي هي النفاق)).

هذا الكلام يقوله معروف الرصافي بكل صراحة ووضوح، في دولة يبلغ سكانها الشيعة 65 بالمائة من نفوسها، والعرب الشيعة 54 بالمائة من سكانها، دون إحساس خشية من أية ردود فعل، لأن الدولة كانت وتشجع عليه، ولا تسمح به فقط، لأنه يمثل أيديولوجيا الدولة.

أما ساطع الحصري؛ فيمكن وصفه بمنظر ربط القومية العربية بالطائفية السنية، وجعل المشروع القومي العربي مشروعا طائفيا سنيا، وهذا التنظير يمثل أيديولوجيا أموية كما ذكرنا سابقاً، وقد عبّر الحصري عن ذلك بامتداحه معاوية وآل أُمية، سواء بشكل مباشر أو من خلال المدرسين الذين جلبهم من سوريا، وكانوا يعلنون في مناهجهم الدراسية عن تبجيل معاوية ويزيد وذم الإمام الحسين لأنه خرج على يزيد؛ فأحد هؤلاء المدرسين السوريين كان يدرس طلبته في بغداد منهجاً دراسياً كتبه بنفسه، يقول في جانب منه: ((ولطالما استمسك بنو أمية بعروة الخلافة وبينوا جلالها وأهميتها الدينية، فادعوا أن الله ناصرها ومذل أعدائها، وإن الذين يسعون في الخلافة عليها هم الكفرة الفجرة. ولا غرابة في ذلك فالعاهل الأموي كان خليفة رسول الله، ومن يخرج على الخليفة فإنما يخرج على رسول الله، ومن يخرج على رسول الله فإنما يخرج على الله ومقره جهنم وساءت مصيرا)).

وكان الحصري يحمي هذا المدرس ويدافع عنه، حتى قرر الملك فيصل عزله، بسبب الاعتراضات الشيعية الواسعة، لكن الحكومة والملك لم يعترضا على الحصري نفسه، بل استرضياه، وأطلقا يده أكثر من ذي قبل، ثم قام رئيس الوزراء الطائفي الجديد ياسين الهاشمي أعاد المدرس المقال الى التدريس، نكاية بالشيعة، رغم استنفار الشيعة عن بكرة أبيهم. ولنتخيل هنا أنّ هذه النص يُدرّس في المدارس العراقية ذات الأغلبية الشيعية، ولنتخيل أيضاً أنّ كل شيعة العراق، بحوزتهم ومرجعيتهم وسياسييهم وعشائرهم وجماهيرهم، عجزوا عن عزل مدرس سوري شتم أمامهم الحسين ووصفه بأنه من أهل جهنم. وبالتالي؛ لم يكن ساطع الحصري فرداً أو حالة فردية، بل ظل طيلة العهدين الملكي والجمهوري الظاهرة المهيمنة على الواقع الثقافي والتعليمي، والمعبر عن أيديولوجيا الدولة العراقية الطائفية، وأحد مؤسسي الايديولوجيا القومية العربية المعاصرة.

والمفارقة، التي لا تقتصر على الحصري، بل تشمل أغلب القوميين العرب المؤسسين، الذين كانوا عثمانيين متعصبين لتركيا وجنرالات في جيشها، ثم أصبحوا خلال العقد الثاني من القرن العشرين عملاء للإنجليز ودعاة للايديولوجيا القومية العربية، بعد بروز مظاهر انهيار الدولة العثمانية؛ فقد ظل ساطع الحصري حتى كهولته عثمانياً متعصباً، يدعو الى سياسة التتريك وتحويل الشعوب العثمانية الى شعوب تركية، بمن فيها الشعوب العربية، وذلك من خلال تحويل الاحتلال التركي للبلدان العربية، من احتلال الى حضور لغوي وقومي محلي، لضمان استمرار الاحتلال التركي الى الأبد، مستفيداً بذلك من فكرة الفتوحات الإسلامية التي حوّلت الشعوب غير العربية الى ناطقة باللغة العربية، ثم عربية بالانتساب والثقافة.

وقد نجح الإنجليز في أغراء ساطع الحصري بالمناصب والمستقبل السياسي الزاهر، مستغلين خلافه مع قادة حزبه الحاكم في تركيا (الإتحاد والترقي)؛ فتحوّل ولاؤه، من الهلال العثماني الى الصليب الإنجليزي، حاله حال كثير من العثمانيين من ضباط الجيش التركي وموظفي الدولة العثمانية، الذين خانوا أولياء نعمتهم الأتراك في المرحلة نفسها، وتحوّل ولاؤهم الى الإنجليز، أمثال: نوري السعيد (تركماني) وجعفر العسكري وعبد المحسن السعدون وعبد الرحمن الكيلاني (إيراني) وياسين الهاشمي (تركي) وتوفيق السويدي وناجي السويدي وناجي شوكت (داغستاني) وحكمت سليمان(شركسي) وجميل المدفعي وعلي شوكت الأيوبي (كردي) ورشيد عالي الكيلاني (إيراني) وطه الهاشمي (تركي) وحمدي الباججي ومزاحم الباججي وأرشد العمري، وهم العثمانيون الذين ترأسوا الوزارات العراقية طيلة العهد الملكي، الذي حكمته العائلة الأجنبية المستوردة من الحجاز.

ولذلك؛ هرب ساطع الحصري من تاريخه العنصري التركي الى واقع مفارق ومناقض ومعاكس تماماً، وهو ما يكشف عن ذكاء عميق، وقدرة فائقة على استغفال الآخرين؛ فأسس في العراق للايديولوجيا العنصرية الطائفية (العربية السنية)، وزرعها في عقل الدولة العراقية (دولة العرب السنة) ومفاصلها، وبالأخص في مناهج التعليم والاجتماع السياسي والثقافي العراقي، وعمل على تحويل العروبة من رابطة نسبية ولغوية كريمة يعتز بها العربي، لأنها لغة القرآن ولغة الرسول ولغة الدين، الى ايديولوجية قومية سياسية طائفية تزدري الآخر القومي والمذهبي وتهمشه، وتدعو الى وحدة الجماعة اللغوية العربية (الناطقين بالعربية) على أساس معيار أفضلية الجنس العربي على القوميات الأخرى. وقد اعتمد ساطع الحصري على الأيديولوجية النازية الألمانية في التأسيس لنازيته العربية، وخاصة أفكار “يوهان فيخته” و”فان دن بروك” و”مارتن هايدغر” و”أوسفالد شبنغلر”. ومن يراجع أقوال الفيلسوف النازي “فان دون بروك”، سيجد أن ساطع الحصري نسخها كما هي، بعد أن رفع كلمة ألمانيا والأمة الألمانية، ووضع مكانها الوطن العربي والأمة العربية.

وتقوم ايديولوجيا ساطع الحصري القومية على احتقار الآخر القومي والمذهبي غير العربي وغير السني، وتعمّد السخرية منه، والتعالي على باقي القوميات غير العربية والطوائف غير السنية، وتعتبر الأوطان التي تسكنها أغلبية ناطقة باللغة العربية هي ملك العرب جميعاً، وتخضع لحكم قوميتهم المتفوقة، كما كانت النازية تعد الجنس الجرماني الآري هو الأفضل والمتفوق.

ورغم الانقلاب السياسي والتحول المتعارض في الولاء الايديولوجي والقومي والوطني لساطع الحصري، إلّا أنه وغيره من العثمانيين السابقين وعملاء الإنجليز الجدد، ظلوا أوفياء لطائفيتهم السياسية التي ورثوها من هويتهم العثمانية الطائفية، وحافظوا على نظرتهم الايديولوجية للشيعة، بوصفهم مواطنين من الدرجة الثالثة، وكونهم (عجم) وأعداء للأغلبية العربية والعثمانية السنية؛ فقد عمل ساطع الحصري على ربط الايديولوجية القومية العربية بالمذهب السني، كما كان يربط الايديولوجية العثمانية التركية بالمذهب السني الحنفي، وهو الذي زرع في الاجتماع السياسي والثقافي العراقي مفهوم أن كل شيعي (عجمي) حتى يثبت العكس، كما كان الحصري يشيع بأن الشيعة هم حلفاء اليهود، وهذا الحلف يريد الكيد بالعرب على مر التاريخ، وغيرها من المفاهيم الطائفية والعنصرية التي تلقفها البعثيون فيما بعد، وحوّلوها الى ثقافة سياسية وشعبية.

وكما قال ابن خلدون: ((المغلوب مطبوع على طبيعة الغالب)) أو التماهي بالمتسلط وفق بحوث علم النفس الاجتماعي الغربية؛ فلما قام الإنكليز بتأسيس الدولة العراقية الحديثة، وجلبوا لها خريجي المدرسة العثمانية التركية لإدارتها، مارس هؤلاء مع الشيعة نفس السياسة التي مارسها الأتراك ضد العرب. إلّا أن التمييز الذي كان يمارسه الأتراك مع العرب (وكلاهما من السنة)، لا يصل الى واحد بالمائة من التمييز الذي مارسته الأقلية العربية العثمانية السنية الحاكمة ضد الأغلبية العربية الشيعية في العراق، لأن النزعة الطائفية عند السني العربي هي أكبر بكثير من النزعة القومية، فالسني العراقي القومي يعتبر الصومالي العربي السني شقيقه ودمه ولحمه، لكن يعد العراقي العربي الشيعي غريباً، هذا في الواقع والممارسة، رغم تغطيتهم على ذلك بالشعارات التي يريدون بها أن يستعبدوا الشيعي.

ويمكن تلخيص أسباب النكبة التي عاشها الشيعة في العهد المالكي بما يلي:

  • عدم امتلاك شيعة العراق مشروعا للسلطة والحكم، لأنهم غير معتادين على أن يكونوا حكاما، وان الفكرة بعيدة عن رؤوسهم، إلّا ما ندر، بل يدخلهم بعضها في متاهات عقدية وفقهية.
  • دور الاحتلال البريطاني في تثبيت حكم الأقلية العربية السنية، انتقاماً من الشيعة، وتخلصاً منهم، لأن الشيعة قاوموا الاحتلال البريطاني للعراق مقاومة مسلحة وسياسية واجتماعية طيلة ست سنوات.
  • دور النخبة الطائفية السنية الحاكمة في إقصاء الشيعة عن مناصب الدولة المدنية والعسكرية، وإقصاء العقيدة والتعاليم الإسلامية الشيعية عن المناهج الدراسية وثقافة الدولة وإعلامها، وتثبيت المذهب السني (الحنفي) مذهباً رسمياً للدولة، وإن كان دون إعلان.
  • انكفاء أغلب الشيعة عن ممارسة العمل السياسي والتنافس على السلطة، ومقاطعة أكثر شرائحهم للدولة ووظائفها، انسجاماً مع اعتراضات المراجع والفقهاء على ارتباط الدولة بالاحتلال البريطاني، وعلى التمييز الطائفي.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment