رؤى في مستقبل النهوض الإسلامي الجديد

Last Updated: 2024/04/14By

رؤى في مستقبل النهوض الإسلامي الجديد

د. علي المؤمن

يكثر الحديث في الأوساط الفكرية والسياسية والاجتماعية عن مستقبل النهوض الإسلامي الجديد، وما سيؤول إليه وضع التيارات الإسلامية في المرحلة القادمة. وتختلف النتائج وفق للمقدمات والأسس والمناهج الاستشرافية التي يستخدمها كل اتجاه في تحليله ومعالجته لهذه الموضوعة. وهناك ثلاث رؤى أساسية في هذا المجال، تمثل نتاج جهود بحثية واسعة، هي: الرؤية الغربية، رؤية العلمانيين في المنطقة الإسلامية والرؤية الإسلامية الذاتية. ولا شك أن كلاً من هذه الرؤى تشتمل على عدة رؤى فرعية، تختلف فيما بينها في كثير من التفاصيل، بل وفي الأسس والمناهج أحياناً، ولكن يبقى أن هناك قاسماً مشتركاً بين اتجاهات كل رؤية، يمكن أن نعتبره الإطار الفكري العام للرؤية:

1 – الرؤية الغربية:

تستند الرؤية الغربية – غالباً – في معالجتها وتحليلها لموضوع النهوض الإسلامي الجديد إلى نظريات علماء الاجتماع الغربيين، وخاصة الاثنولوجيا والانثروبولوجيا وعلم النفس الاجتماعي وعلم الاجتماع الديني، وهي نظريات جاهزة ومفصّلة على مقام النظام الغربي ومناهج تفكيره، وهي نتاج وعي العقل الغربي بالإسلام والمسلمين وفق العناصر الأربعة التي تشكله.

والنتائج الأولية التي تقدمها هذه الرؤية تؤكد أن ظواهر النهوض الإسلامي الجديد بعد العام 1979 هي ظواهر طارئة وليست أصيلة أو متجذرة؛ إذ نشأت ردّ فعل على مجموعة من الأزمات الاجتماعية في بلاد المسلمين، أبرزها: أزمة الهوية الاجتماعية الدينية السياسية، أزمة شرعية الأنظمة الحاكمة، أزمة الثقافة والسلوك المجتمعي، الصراع الطبقي، الفقر، التخلف، الشعور بالتبعية للغرب، الأزمة النفسية، ضعف قيادة النخب الحاكمة المتغربة وسوء إدارتها. وبتعبير آخر، فإن الصحوة الإسلامية، على وفق ذلك، ليست ظاهرة حقيقية، وإنما تمثّل، وبرزت نتيجة لضغوط الغرب وهيمنته، وممارسات الأنظمة الحاكمة وتبعيتها وأساليب حكمها وممارساتها القمعية، وما نشأ جراء ذلك من أزمات اجتماعية، كما أن الظواهر النهضوية الإسلامية اللاحقة لقيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، إنما هي محاولة للتشبّه بالنموذج الإيراني.

وبهذا التوصيف؛ بات بإمكان الرؤية الغربية أن تحدد مستقبل النهوض الإسلامي الجديد، وكأنه حتمية تاريخية؛ فهي حين تعتبر هذا النهوض مجرد ظاهرة اجتماعية محدودة ومنعزلة وغير أصيلة؛ فإنها ترفض أن يكون لهذه الظاهرة بنى حضارية وفكرية وسياسية واقتصادية حقيقية، تحقق لها الاستمرار والنمو والتمدد وتمثيل الشعب والإمساك بقرار الدولة، وبالتالي؛ فهي ظواهر ليس لها أي مستقبل، وزائلة بزوال أسبابها وعوامل ظهورها، وبانهيار نماذجها الناجحة الصاعدة.

ووفقاً لمناهج الدراسات المستقبلية؛ فإن البديل الذي تطرحه الرؤية الغربية، هو بديلها الذي تريده وتخطط له، وقد اختارته من بين مجموعة الاحتمالات، بهدف التحكّم به وبناء مقوماته المستقبلية، وهو الإسلام العلماني الليبرالي المدجن، أو ما يسميه الغرب الإسلام المعتدل كما أشرنا. ويهدف الغرب من وراء إعلاناته المتكررة المركّزة عن رؤيته لمستقبل النهوض الإسلامي الجديد، ووصفها بالرؤية العلمية المتجردة، ومحاولة زرعها في عقول المسلمين ووعيهم، من خلال مختلف الأساليب والوسائل؛ يهدف إلى أن يفرض على المسلمين وعيه بذاتهم وجودهم ومستقبلهم، في محاولة قسرية لإعادة إنتاجهم واستحضارهم وتحديد مستقبلهم، على المستويين النظري والعملي. وجزء من هذا الوعي أن يشعر المسلم – دائماً – بالدونية والضعف، وعدم الثقة بالنفس والمستقبل، والهزيمة المستدامة تجاه الغرب وقيَمه ومعاييره وتفوقه الشامل. أي أن الغرب حين يضع المسلمين أمام الحتميات والخيارات والبدائل التي يفرضها؛ فإنه يقدر أن كثيراً من المسلمين سيتبنون خيارات الغرب، بوعي أو بدونه.

2 – رؤية العلمانيين في البلدان الإسلامية:

من نقطة الخيارات الغربية، ينطلق العلمانيّون في المنطقة الإسلامية، في تحديد رؤيتهم لمستقبل النهوض الإسلامي الجديد، لأنهم يعتمدون بدائل الغرب ومحدداته، ويستعيرون مناهجه في التفكير والتحليل والاستنتاج. ورغم أن هؤلاء يستندون في تكوين رؤيتهم إلى مقدمات أقرب للواقع من مقدمات الرؤية الغربية، إلا أنهم يخرجون بنتائج أكثر تطرفاً في عدم موضوعيتها، وأكثر بعداً عن الواقع من الرؤية الغربية. والسبب في ذلك يعود إلى أن علماني البلدان الإسلامية يعيشون الواقع الإسلامي من جهة، وأن مظاهر النهوض الإسلامي الجديد ومستقبلها يعنيهم بشكل مباشر من جهة أخرى، ولذلك؛ فإنهم يسقطون أمانيهم وطموحاتهم وأهدافهم على رؤيتهم؛ فتكون النتائج غير موضوعية إلزاماً وبعيدة عن الواقع.

وهذا النمط من العلمانيين هم أدوات الغرب في محاولة إعادة إنتاج الواقع الإسلامي، من خلال مشاريعهم الهادفة لعلمنة المجتمع، وفرض الأنماط الاجتماعية الغربية عليه. ويلاحظ أن بينهم من يحشر نفسه في زاوية دفع التهم التي يكيلها الغرب للمسلمين، لكنه يمارس عملية الدفاع بأساليب سلبية، وبثقافة وسلوك متغربين، وبما ينسجم مع خيارات الغرب وأطروحاته، وذلك نتيجة لحساسية العلماني المفرطة تجاه الاتهامات الغربية. وربما يرفض بعض العلمانيين الغرب السياسي أو الغرب المحتل والمستعمر، لكنه يندفع وراء التلبس بثقافة الغرب وسلوكه، لينتج ما يسمونه العلمانية الشرقية أو الليبرالية الشرقية بالعقلانية الشرقية أو المسلمة، لردّ تهمة لا عقلانية الشرق. أو تفصيل مفاهيم الحداثة والمعاصرة بلباس (مسلم)، لردّ تهمة التحجر والجمود وعدم التكيّف مع النمو والتطور، ويرفع لافتة «العلمانية» بقوة، ليقول بأن الغرب مخطئ حين يتهمنا بالتخلف الفكري، والفهم الطولي للواقع، والإيمان السطحي.

ويشترك الخطاب العلماني المحلي في البلاد الإسلامية مع الخطاب الغربي في ضرورة التخلص من التيارات الإسلامية وحراكاتها النهضوية، وتحذير الشعوب المسلمة منها، وأنها ظاهرة طارئة غير أصيلة، وأنها ستنتهي بنهاية العوامل التي أدت الى ظهورها، ويجد علمانيو المنطقة الإسلامية، بمن فيهم الأنظمة العلمانية الحاكمة، أن من واجبهم مواجهة مفردات النهوض الإسلامي بكل الوسائل، من خلال عزل التيارات الإسلامية عن الشعوب، تمهيداً للقضاء عليها. ويتمثل جزء من هذه المواجهة في ملء ما يسمونه بالفراغ الفكري والاجتماعي الناشئ عن فشل الأطروحات العلمانية المستوردة، بأطروحات أكثر بريقاً وواقعية، تقترب من بعض مظاهر الإسلام، بما يشبه «الإسلام المعلمن» أو «العلمانية المؤسلمة»، وهي توليفة أكثر خطورة في المواجهة من العلمانية الأصلية، لأنها تقرأ الإسلام بغير أدواته، وتحاول توظيفه للأهداف العلمانية الأساسية نفسها.

3 – رؤية النهضة الإسلامية لنفسها:

تستند رؤية تيارات النهوض الإسلامي الجديد لنفسها إلى معطيات وحقائق التكليف وسنن الله في الخلق، لقراءة معالم مستقبلها. ورغم أن هذه الرؤية تتفرع إلى عدة رؤى ثانوية – كما مرّ – تبعاً لتعدد الاتجاهات الإسلامية، واختلافها في أساليب التحرك، والأسس الفكرية التفصيلية لكل منها؛ إلّا أن هناك قاسماً مشتركاً بين رؤى هذه الاتجاهات، يتمثّل في حقيقة أن التكامل البشرية يكمن في الإسلام، وأنه شريعة وعبادة ومعاملات ودولة ونظام سياسي واقتصادي وقانوني، وهو دين المستقبل كما هو دين الماضي والحاضر، وأنه الحبل الذي يربط دنيا المسلم بآخرته.

ومن أبرز المعطيات والحقائق التي تستند إليها هذه الرؤية:

  • الفراغ الفكري والروحي العالمي، الذي حدث في أعقاب انهيار أو تصدّع كثير من الأفكار والمدارس الوضعية الغربية والشرقية، وبروز مؤشرات التصدّع في المجتمعات والنظم الغربية، وهو ما يؤكده المفكرون الغربيون أنفسهم، ولا سيما في نظام الولايات المتحدة الأميركية واجتماعه واقتصاده.
  • القوة الذاتية الهائلة التي يمتلكها الإسلام كنظام شامل للحياة، يمتلك أبلغ الحجج في الإجابة على تساؤلات الإنسان المعاصر وحل مشكلاته وتلبية حاجاته المختلفة، النفسية والعقيدية والاجتماعية والاقتصادية.
  • التطور النوعي والكمي في الخطاب الإسلامي المعاصر، وتمكنه من بلوغ متطلبات المرحلة والتناغم معها، وقدرته المتنامية على الإقناع والنفوذ، خاصة مع صعود بعض النماذج الإسلامية السياسية الناجحة، والتي تفوقت في نموها ونهوضها جميع الأنظمة العلمانية في البلدان الإسلامية، كالنموذج الماليزي والنموذج التركي والنموذج الإيراني.
  • المد الإسلامي العقدي والإيماني الشعبي، وبروز المظاهر الشاملة للالتزام بالدين، والإيمان به نظاماً لحياة الفرد والمجتمع، وهي مظاهر لم تكن مألوفة في العقود الأولى للقرن الماضي وحتى عقده السابع.
  • النتائج المشروطة التي تفرزها السنن الإلهية وقوانين التاريخ، وهي تسير في مصلحة النهوض الإسلامي الجديد.

وبالتالي؛ فإن النهوض الإسلامي الجديد هو مسعى جاد لبلورة ذات مستقلّة رصينة للمسلمين، لها أبعادها المتكاملة تاريخياً وحضارياً، ووعي هذه الذات المعاصرة بمعزل عن وعي الغرب لها، وانطوائها على عوامل النمو الإنساني والتقدم العلمي والتكنولوجي.

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment