دور لاهوت السلطة في تشكيل الوعي الغربي بالإسلام
دور لاهوت السلطة في تشكيل الوعي الغربي بالإسلام
د. علي المؤمن
تأسس التحالف بين سلطة الدولة المطلقة والسلطة الدينية المسيحية في أوروبا، على يد الإمبراطور الروماني قسطنطين الأول (272 ـــ 337 م)، خلال انعقاد المجمع المسكوني المسيحي الأول في روما (305 م)، أي بعد ثلاثة قرون من ميلاد عيسى المسيح، وهو تحالف تخادمي بين سلطة الإمبراطور وسلطة الكهنة، وقد نقل المسيحية الروحية الناصرية التي جاء بها السيد المسيح، الى مسيحية سلطوية، عنوانها “لاهوت السلطة”، وهو اللاهوت الجديد الذي حوّل الإمبراطور الروماني قسطنطين الى قدّيس، له الحق في نشر المسيحية الجديدة (القسطنطينية) واحتلال أراضي الغير واستعباد الشعوب، وفرض الدين الجديد عليها بالذبح والسيف، باسم الرب والمسيح والصليب. وقد اختلف هذا اللاهوت اختلافاً بنيوياً عن المسيحية العيسوية التي كانت السائدة آنذاك؛ فالأولى هي المسيحية الروحية الأخلاقية الاجتماعية، الخالية من التشريع ومن النظم السياسية والاقتصادية، والثانية هي المنظومة المسيحية السلطوية الاستعمارية، التي نشرت المسيحية في اوروبا والعالم بالسيف والقهر، وهي التي أسست لنظام الاستبداد الديني الكنيسي.
لقد تبلور لاهوت السلطة الأوروبية من خلطة عجيبة، جمعت بين:
- تعاليم روحية أخلاقية بشّر بها النبي عيسى المسيح.
- عقيدة أسسها بولس (5- 67 م)، الذي يعد المؤسس الحقيقي للعقيدة المسيحية، التي تتمحور حول شخصية السيد المسيح حصراً. وتمكن بولس، عبر هذه العقيدة، من تحويل التعاليم المسيحية من انشقاق ديني يهودي الى ديانة مستقلة على أرض الواقع. مع الإشارة الى أن بولس هو يهودي روماني أصلاً، وكان يضطهد المسيحيين الأوائل بعد عروج السيد المسيح، ثم زعم أنه رأى نور السيد المسيح في الطريق، وطلب منه الإيمان به، وأن يصبح رسوله الى العالم، لذلك أسمى نفسه بولس الرسول.
- شريعة يهودية توراتية، لأن السيد المسيح لم ينشىء شريعة مستقلة عن الشريعة اليهودية، لذلك فإن المسيحيين الأوائل اعتمدوا التوراة ككتاب عقيدة وتشريع وتاريخ، وعدّوه العهد القديم، مقابل الإنجيل الذي يمثل العهد الجديد.
- أنساق فلسفية يونانية، أغلبها إفلاطونية.
- عرفان غنوصي.
- مثيولوجيا وثنية رومانية.
- ايديولوجيا سلطوية استعمارية أسسها الإمبراطور الروماني قسطنطين الأول، الذي كان ذو طموحات سياسية إمبراطورية توسعية لا تنتهي، ولم يكن يعنيه الجانب الديني، بقدر ما يحقق له طموحاته.
ويعد تأسيس الديانة المسيحية الجديدة على يد قسطنطين، التأسيس الثالث للمسيحية، بعد التأسيس الأول على يد النبي عيسى المسيح ثم التأسيس الثاني على يد بولس الرسول. وقد فرضت هذه الديانة الجديدة على أوروبا، عصوراً مظلمة قاسية من التخلف والمرض والجوع والاستبداد والحروب والانكسارات، عرفت بــ “العصور الوسطى”، لأنها ديانة تركيبية متحولة وافدة لا تنتمي إلى أوروبا في الجذور الاجتماعية، ولأنها باتت سلطة قمع للعقل والعلم والمعرفة والكلمة وإرادة الإنسان، وأداة سلطوية استكبارية، نجحت في تأسيس امبراطورية استعمارية رومانية مترامية الأطراف، بعد أن استولت على أراضي الشعوب وخيراتها، واستعبدتها، وفرضت عليها المسيحية القسطنطينية. ولذلك؛ لا توجد ايديدلوجية دينية على مر التاريخ، انتشرت بالسيف والقهر، كما انتشرت المسيحية القسطنطينية، بل أن هذه الايديولوجيا قمعت مسيحيي الشرق الأصلاء، وذبحتهم، ودمّرت كنائسهم، وفرضت عليهم اتّباع المسيحية الأوربية. وبمراجعة سريعة لما فعلته الجيوش المسيحية القسطنطينية الرومانية بمسيحيي مصر وفلسطين والشام؛ يتبين مدى تعارضها البنيوي مع المسيحية الأصيلة ومع تعاليم السيد المسيح.
وما لبثت المسيحية الرومانية المتحولة أن انتشرت في جميع البلدان الأوروبية، ثم سار على نهج قسطنطين جميع أباطرة الغرب من بعده، وباتت المسيحية ديانة أوروبية، ليس في نكهتها العامة، بل حتى في جوهرها؛ فحين اعتنق الملوك والأمراء الأوروبيين الديانة المسيحية البولسية القسطنطينية، فإنهم حوّلوها أيضاً الى ديانة أوروبية داعمة لامبراطورياتهم وملكياتهم وإقطاعياتهم، ومشرعِنة لها دينياً، أي أنهم أخضعوا المسيحية للنظام الاجتماعي السياسي السائد في أوربا؛ إذ لم تؤثر المسيحية الأصلية في واقعهم الروحي والأخلاقي والاجتماعي، بل استحال السيد المسيح نفسه أميراً أو فيلسوفاً إغريقياً ورومانياً وجرمانياً وإنجلوسكسونياً في شكله وهيئته التي تصورها التماثيل واللوحات الأوروبية القديمة، والأفلام السينمائية الحديثة، فالمسيح الأوروبي رشيق طويل، أبيض البشرة، أزرق العينين، أشقر الشعر، صغير الفم، إغريقي الأنف، وهي مواصفات لا تنطبق بتاتاً على سكان فلسطين من الكنعانيين والعبرانيين والسريان وغيرهم.
ثم حمل القساوسة الأوروبيون المستعمرون، ديانتهم هذه، الى أفريقيا والأمريكتين واستراليا وشرق آسيا، برفقة القوات المسلحة الاستعمارية البرتغالية والإسبانية والفرنسية والبريطانية والبلجيكية والأمريكية والهولندية، وحينها لم تقتصر الديانة المسيحية الأوروبية على كونها ديانة أوروبية سلطوية، بل باتت ركيزة أساسية من ركائز الاستعمار الأوروبي للبلدان الأخرى، وكثير منها بلدان إسلامية أو تسكنها كثرة سكانية مسلمة. وكان المستعمرون الأوربيون ينظرون الى هذه الشعوب باعتبارهم كفاراً وعبيداً لهم، بوصفهم شعب الله المختار، كما تؤكد التعاليم التوراتية والتلمودية التي ضمّتها المسيحية القسطنطينية الى لاهوتها السلطوي. وهنا يكمن تحديداً العنصر الأول في الوعي الغربي بالإسلام والمسلمين.
وقد بدأ التمرد الأوروبي على المسيحية القسطنطينية الرومانية يبرز تدريجياً خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر، متخذاً أشكالاً فكرية أحياناً وقانونية أخرى وسياسية ثالثة وعلمية رابعة، مناهضةً لسلطة التابوهات اللاهوتية السلطوية، الكنيسية والثيوقراطيات الملكية المتحالفة معها، حتى استحال هذا التمرد صراعاً مستداماً بين سلطتي الكنيسة والحكم المطلق من جهة، والنخب الأوروبية العلمانية المتطلعة الى النهوض والبناء والتغيير من جهة أخرى، حتى أنتج هذا الصراع نهضةً شاملة خلال القرن الثامن عشر، عرفت بعصر التنوير وعصر النهضة الأوربية. وكانت العلمانية (Secularism / Laicite)، هي عنوان هذا العصر، والتي تعني باختصار “الدنيوية” وفصل الشريعة الدينية والمؤسسة الدينية عن الشأن الدنيوي، وخاصة ما يرتبط بالدولة والحكم والتشريع، أو بكلمة أدق فصل سلطات الدولة ونظامها السياسي وتشريعاتها عن التشريعات الكنيسية، ومنع الكنيسة من أي تدخل في شؤون الدولة، بما في ذلك الشؤون القانونية والسياسية والاقتصادية والعسكرية، واعتبار التشريع وإدارة الدولة وسلطاتها شأناً بشرياً محضاً لا علاقة للاهوت به.
وقد أدخلت النخب الأوروبية العلمانية على معادلات الصراع هذه؛ عناصر قوة جديدة تتمثل في مخرجات التطور الفكري الميداني التراكمي، وأهمها: العقلانية المنهجية، والتجريبية العلمية، والديمقراطية السياسية والتشريعية، والليبرالية الاجتماعية والاقتصادية. وهي المذاهب التي تحولت الى نظم قائمة، قنّنت كل مجالات الفصل بين الدين والدنيا، وبين الكنيسة والدولة، وكانت بمجموعها أدوات تدمير للتخلف والاستبداد الثيوقراطي، بشقيه المتحالفين: السياسي (الدولة) والديني (الكنيسة).
وهنا؛ يمكن القول بأن النهضة العلمانية الأوربية، قضت على ثلاثة عشر قرناً من الهيمنة المطلقة للمسيحية الأوروبية القسطنطينية، وأعادت المسيحية الروحية الاجتماعية نسبياً الى جذورها الفلسطينية، كما أعادت أوروبا نسبياً الى جذورها الإلحادية العلمانية. وبكلمة أخرى؛ فإن عصر التنوير والنهضة الأوروبية، لم يكن ثورة على دين عيسى الأخلاقي، ولا على الدين بشكل عام، بل على السلطة الثيوقراطية الاستبدادية المتمثلة بسلطة المؤسسة المسيحية الأوروبية القسطنطينية.
إلّا أن المفارقة الكبرى تكمن في احتفاظ العقل الأوروبي العلماني النهضوي بعنصر لاهوت السلطة في نظرته للآخر ولأراضيه ومقدراته، سواء كان مسلماً أو وثنياً، رغم التحول البنيوي في العقل الأوروبي بعد تحوله الى العلمانية، وإسقاط تحالف لاهوت السلطة بين سلطة الكنيسة وسلطة الملك؛ إذ بقيت الحملات العسكرية الأوروبية تصطحب معها ممثلي الكنيسة والإرساليات والمبشرين القساوسة، وتدعمهم بقوة السلاح لفرض المسيحية على الشعوب المحتلة، أو للحصول على الشرعية الدينية في احتلال أراضي الغير ونهب ثروات الشعوب واستعبادها. وكان المحتل الأوروبي يعد العامل الديني هو عامل بقاء مستدام لاحتلاله؛ فإذا اعتنقت الشعوب المحتلة الديانة المسيحية؛ فإن الاوروبيين سيضمنون ولاء هذه الشعوب لها، بفعل المشترك الديني، ولأن السيد المسيح هو الذي شرعن لهذا الاحتلال والاستعباد!.
latest video
news via inbox
Nulla turp dis cursus. Integer liberos euismod pretium faucibua