دوافع التجديد في الفكر الإسلامي

Last Updated: 2024/04/14By

دوافع التجديد في الفكر الإسلامي

د. علي المؤمن

لاتزال دعوات التجديد في الفكر الإسلامي، أو الإحياء والتجديد الديني؛ تتزايد بمرور الزمن، وعلى الرغم من أن هذه الدعوات تتّفق على أصل التجديد، إلا أنها تختلف في الكثير من التفاصيل، بل لعل بعضها يختلف حتى في وعيه لمفهوم التجديد، الأمر الذي يجعل حقائق التجديد نسبية في معظم خطوطها. ولكن هناك قواسم مشتركة للنظرة إلى المفهوم، مستقاة من النصوص الإسلامية المقدسة (الأصول)؛ وهو ما يجعلها تمثّل الفهم الأكثر قرباً من حقائق التجديد في الإسلام.

إن تفعيل حركة العقل، في البناء الفكري، يؤدّي إما إلى الإبداع والتجديد أو إلى إعادة الإنتاج والتقليد. ويمثّل التجديد – من جانبه – إما نحرافاً بنسبة معينة، أو استقامة على الأصول، أي تجديداً أصيلاً. كما أن التجديد يكون حيناً بمستوى الفهم المتعارف لعصره، وحيناً آخر بمستوى يتجاوز الواقع إلى حد ما، مما يجعله بحاجة إلى جهود مضاعفة ليكون في حدود المقبولية.

وليس الهدف من المقاربات هنا حول الثابت والمتغيّر ودعوات التجديد، تحديد المتغير أو المتجدد، ومفرداتهما ومصاديقهما، بل الهدف دراسة الإشكاليات التي تثار حول الموضوع؛ تمهيداً لتقديم فهم موضوعي لها. والحديث عن حقائق التجديد ودواعيه ومرجعيته ومناطاته، يتعيّن أن يسبقه بيان المراد من مفهوم التجديد. ومقدمة ذلك ترتبط بوعي هذا المفهوم أو منهج الفهم، فهو ليس وعياً مجرداً أو منفصلاً عن حقائق الدين نفسها؛ بل وعي ديني يرتبط بالأصول الشرعية الثابتة، باعتباره إطاراً لقضية دينية.

والتجديد الفكري في الإسلام ليس نسخاً لفكر قائم، أو تأسيساً لفكر جديد، أو إحياءً لفكر قديم، بل هو عملية تفاعل حيوي داخل منظومة عقدية فكرية فقهية قائمة، لإعادة اكتشافه وتطويره، وفقاً للفهم الزمني الذي يعي حاجات العصر، أي أنه لا ينطلق من فراغ، بل له قواعده ومنهجه ومرجعيته وثوابته. وفي النتيجة، يكون التجديد خطاباً نهضويّاً، يستهدف البنية الفكرية، لتلبي جميع حاجات الإنسان المعاصر. وبكلمة أخرى، فإن التجديد يهدف – في كل زمان – إلى صياغة المشروع الإسلامي الحضاري العصري الذي يشتمل على عملية استيعاب جميع متطلبات الحياة. أي أنه معلول الحاجات العملية، وليس حركة نظرية مجرّدة ومنفصلة عن الواقع.

ولا يهدف التجديد في الفكر الإسلامي إلى الانسجام أو التوافق مع الفكر الآخر، ولا إلى درء شبهات التحجر والجمود، أو اختراع نظريات جديدة، تفصّل الشريعة على مقاس العصر؛ لكي تلاحق تطورات الزمن ولا تكون متخلّفة عنه؛ لأن الشريعة هي المقياس وليس متطلبات العصر، وهذه الأخيرة تعبّر عن طبيعة الحاجات. ويأتي دور المفكّر والفقيه خلال عملية التجديد، لإعادة الاكتشاف والاستنباط من جديد لسد تلك الحاجات. فالتضحية بالشريعة من أجل إرضاء الإنسان الجديد، أو التكيّف مع الأفكار الجديدة (وافدة أو محلية)، أو توظيف النص والتراث لخدمة الواقع. أي أن إخضاع النظرية للتطبيق، هي موازنات لا تتوافق مع ثوابت الدين وخصائص الديمومة فيه. أما صياغة الفكر الإسلامي في إطار خطاب جديد – ليكون معبّراً عن المشروع الإسلامي المعاصر – فإنه سيحول دون اضطرار الإنسان المسلم إلى التشبث بالأفكار والإيديولوجيات الوضعية التي تسعى لإعطاء تصور كوني عصري أو فهم عصري للحياة؛ متحرر من أية ضوابط إلهية.

ولا شك؛ إن التجديد الحقيقي المنتج هو التجديد الشامل أو ما يمكن توصيفة بالمنظومي الشمولي، وليس التجديد الأحادي الذي يقتصر على الشريعة فقهاً وعقيدة، وقبلهما الموروث الروائي الذي تستند اليه القواعد والتشريعات والأحكام، أي أن  التجديد في الفكر الإسلامي وفي الخطاب الإسلامي هو تجديد شامل لا يقتصر على الاستنطاق الجديد للقرآن والاكتشاف الجديد فيه، ولا يقتصر على تنقية السنة والحديث وتنقية الموروث المعرفي الكلامي والفقهي والتفسيري واكتشاف الأدوات الجديدة في فهم الدين، بل ينبغي أن يستوعب كل الموروث المرتبط بالدين بشكل وآخر، والذي يدخل في دائرة المتغيرات، بما في ذلك الموروث التاريخي، أي السيرة النبوية وسيرة أئمة آل البيت، وكذا سيرة الصحابة والتابعين والرواة والمحدثين، أو ما يدرسه علم الرجال والتراجم، لأن تدوين السيرة النبوية خصوصاً، وسيرة أئمة أل البيت والصحابة والتاريخ الإسلامي عموماً؛ انتج معرفة دينية وفقهاً وسنةً وكلاماً وتفسيراً. وكذا الأمر بالنسبة للموروث الأصولي والفكري والفلسفي واللغوي والأدبي.

وبالتالي؛ فإن التجديد منظومة واحدة، لا تنفصل جوانبها ومكوناتها ومخرجاتها، وتستوعب كل المعرفة الدينية الخاصة، والمعارف العامة ذات الصلة بالمعرفة الدينية، والعلوم الآلية التي أنتجت المعرفة الدينية. وهو ما يعني أن التجديد الشامل لن يتمكن منه الفقيه أو المتكلم أو المؤرخ أو المفسر أو الفيلسوف أو الرجالي أو المحدث، بل هي مهمة تشاركية تعاضدية مؤسسية، تبدأ موضوعياً وشكلياً بالتزامن، من مقدمات كل الحقول وتنتهي بكل مخرجاتها، لأن هذا العمل يحتاج الى تكامل أفقي وعمودي، أي بين التخصص العمودي العميق المنتج في كل الحقول والمعارف والعلوم المذكورة، وبين تشعب هذه الحقول أفقياً واتساعها، وكلاهما فوق طاقة أي شخص، مهما بلغ من العبقرية والعمر.

وفي ظل التطور السريع والشامل لجميع جوانب الحياة، وظهور التيارات التي تنسب نفسها إلى حركة التجديد في الفكر الإسلامي، ولكنها تعالجه بأدوات فيها الكثير من الإفراط، تبعاً لنظرتها لموضوع التطور، فضلاً عن التفاعل مع الحضارات الأخرى والاحتكاك الفكري بها، واللذين لا يمكن للواقع الإسلامي أن يكون بمنأى عنهما، وما تشهده المجتمعات المسلمة من انفتاح عشوائي على ألوان الفكر والثقافات، وحرية منفلتة في التعبير عن الرأي؛ تصل الى مستوى التجاهر بالدعوة الى الإلحاد في مجتمعات مسلمة محافظة من جهة، أو الدعوة الى التطرف الديني والطائفي والخرافة في مجتمع معتدل وتعددي من جهة أخرى؛ فإن تجديد الفهم الديني الى مستوى الاستجابة للحاجات الجديدة والواقع الضاغط وتحدياته، والحيلولة دون تأثيرها سلباً على الواقع الإسلامي؛ يعد مطلباً أساسياً يقع على عاتق الفقهاء والمفكرين الإسلاميين وأصحاب الاختصاص في الحوزات العلمية والحركات الإسلامية والجامعات والمؤسسات البحثية؛ ليكون الفهم الديني الجديد أصيلاً وعصرياً وعلمياً وإقناعياً، وجاذباً للنخب والجمهور.

وبخلاف ذلك، فإن عجلة التطور المرعبة وقسوة الاحتكاك، ستجعلان الفكر الإسلامي في أزمة حقيقية، وستتجاوزان الواقع الإسلامي وتحجُرانه في زاوية العجز والعزلة، وهو أمر يتقاطع مع قوة الشريعة ومرونتها، وقابليتها الهائلة على استيعاب عمليات التطوّر والاحتكاك، كما أن حالة الانفلات في شقيها: المتباعد عن الدين، والمبتدع فيه؛ يشكل خطراً على النسيج الإيماني الاجتماعي والوحدة المجتمعية، ولن يكون الشد العاطفي ضامناً وقادراً على الصمود الى الأبد في تأمين الواقع الإيماني؛ بل أن تراجع الحراك الفكري التجديدي والإصلاحي يتناسب طردياً مع تنشيط حراك التخلف الفكري والتجهيل.

إن سنّة الله في الخلق، والنصوص الإسلامية المقدسة، تؤكّدان عملية التجديد والترشيد في الفكر الديني، سواء كان ذلك التجديد إلهياً يشتمل على بعض أسس التفكير الديني ومعظم تفاصيله، كما في التعاقب التكاملي للرسالات السماوية، وهو ما ينسجم مع مراحل تطور البشرية ورشدها، أم كان بشرياً، يقتصر على المساحات المتحركة في الفكر الديني لرسالة خاتم الأنبياء. أضفْ إلى ذلك أن الإسلام يحمل في ذاته كوامن التجديد ودواعيه ودوافعه. فتأكيد الرسالة الإسلامية – مثلاً – على أن «العلماء ورثة الأنبياء»، وأن الاجتهاد والاستنباط مختصان بهم، باعتبارهم العدول الذين ينفون عن الإسلام «تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين»، يعدّ واحداً من المؤشرات على دعوة الإسلام لتجديد الفكر الديني وإحيائه. يقول الرسول الأعظم: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها». وهذا يعني أن التجديد سنة إلهية، يمارس وفقها علماء الكلام والفقهاء والمفكرون المسلمون، مسؤولياتهم على المستويين النظري والعملي؛ لمواجهة التحديات الحضارية والمعرفية والفكرية التي تهدد الواقع الإسلامي، ومن ثم الانطلاق بالحضارة الإسلامية كبديل عقدي واقعي؛ لإنقاذ البشرية من معاناتها النفسية والفكرية والسلوكية.

وتتطلب هذه الممارسة عقلاً إبداعياً (متحرراً) من الجمود والتقليد، و(منفتحاً) على العالم وتطوراته الزمانية والمكانية، ومن شأنه تحريك الفكر الإسلامي، وإعادة بنائه، وتنقيته من بعض الموروثات المفهومية والمنهجية والبحثية، التي تتقاطع مع الفهم الحقيقي للإسلام، وتنمية دوائره وتوسيعها لتشتمل على كل قضايا الإنسان المعاصر.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment