دعوات تجديد منظومة المرجعية الدينية

Last Updated: 2024/04/14By

دعوات تجديد منظومة المرجعية الدينية

د. علي المؤمن

إنّ ما قام به المحدثون والفقهاء والمتكلمون الشيعة في عصر غيبة الإمام المعصوم، يمثل استجابة لحاجات الفرد والمجتمع بكل ما تتطلبه من معالجات عقدية وأحكام فقهية. وهذا التطور الذي رافق مسارات الابتعاد عن عصر التشريع وعصر الإمامة الحاضرة؛ نقل عالم الدين من كونه محدثاً الى كونه فقيهاً مجتهداً، ثم زعيماً للشيعة، وظهرت الحاجة لعلوم جديدة كعلم أصول الفقه وعلم الرجال وعلم دراية الحديث وعلوم القرآن. هذه العلوم لم يكن لها حضور في السابق، لكنها استجدّت بمرور الزمن، تبعاً لطبيعة الحاجة؛ فعلوم القرآن وعلم الرجال وعلم الدراية والمعارف الاجتهادية الأُخر، لم تكن لها أهمية أو حاجة بوجود الإمام المعصوم، الذي يطرح الحكم الشرعي المساوق لحقيقة مراد الشارع، ولا يتعامل بالأحكام الظنية، ويعرِّفنا بحقيقة تفسير الآية وبالناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه وأسباب النزول، وهو الذي ينقل الحديث عن آبائه عن الرسول.

ولكن بمرور الزمان، باتت هناك ضرورة لإنشاء علوم جديدة تستجيب لحاجات التفقه والاجتهاد والمعرفة الدينية، وتؤسس لواقع علمي ومعرفي ديني ومؤسَّسي جديد، ليس على المستوى العلمي والمعرفي وحسب، إنما على مستوى المفاهيم والمصطلحات والسياقات المرتبطة بالنظام الاجتماعي الديني الشيعي برمته، وهو ما قام به الفقهاء على مرّ هذه العصور، سواء الذي ظهروا قبل الطوسي، كالكليني وابن الجنيد والصدوق والمرتضى وأبي عقيل والغضائري والمفيد والمرتضى، أو ما بعد الطوسي، كالمفيد الثاني وسلار والديلمي وابن ادريس، وكذلك المحقق الحلي وابن طاووس والعاملي الأول والعاملي الثاني والعلامة الحلي، وصولاً الى الوحيد البهبهاني والمقدس الأردبيلي وكاشف الغطاء وبحر العلوم والجواهري والأنصاري، وانتهاء بالحكيم والخوئي والخميني والصدر والسيستاني والخامنئي.

وقد ظلت دعوات تجديد بنية قيادة النظام الاجتماعي الديني الشيعي ومؤسسته الدينية تتكرر خلال القرن الأخير، ولا يزال يقودها علماء دين ومفكرون وباحثون يدركون حجم الحاجة إلى هذا العمل؛ لتكون بنى النظام وهيكليته وأجهزته وأنساقه، منسجمة مع اتساع مساحات النظام وصلاحيات قيادته المرجعية وحرية حركة مؤسسته الدينية. وبالطبع لا تدخل في هذا الإطار بعض الدعوات الانقلابية التي تغطي نفسها بشعارات التجديد والإصلاح؛ لكنها تعمل على ضرب أُسس النظام الاجتماعي الديني الشيعي، وسلطته، ومؤسسته الدينية. وبالتالي؛ فإنّ ما يعنينا هنا الدعوات الداخلية الإصلاحية التي تستند إلى الأُسس والثوابت والمبادئ، وتستهدف المتغيرات والهياكل. ويرى هؤلاء بأنّ مبادئ الإسلام ومذهب آل البيت تضع ـ مجتمعة ـ في عنق المسلم واجب الدعوة إلى إصلاح المتغيرات وتجديد القراءات بالحكمة والموعظة الحسنة، وبما يعزز قوة النظام الاجتماعي الديني الشيعي وقيادته ومؤسسته الدينية وفاعليتها.

إنّ العوامل الجديدة التي تدخل ـ بمرور الزمن ـ في بناء الحياة، والتغيرات العامة، ولا سيما الاجتماعية والسياسية والعلمية؛ تستتبع ـ عادة ـ تحولات في المفاهيم والمصطلحات والبنى التقليدية المتحركة، لتتناسب مديات الحاجة إلى هكذا تغيير وتجديد، طردياً مع حجم التحوّل والتغيّر، مع الأخذ بنظر الاعتبار ثبات المفاهيم والبنى التي تعبّر عن هوية الأُمّة وأصالة نظامها الديني.

وربما بقيت بعض المفاهيم والبنى بمنأى عن هذا التحول، بفرض عوامل معيّنة، ربما يكون أحدها حالة القدسية الموروثة التي تتمتع بها. إلّا أنّ التفاصيل التي استنبطت في زمن معيّن، وفي ظروف معيّنة، أو رعاية لمصلحة موضوعية؛ لا يعني أنّها مقدسة، ولا يمكن مناقشة مضامينها ونظمها، والمساس بها، وعدم إخضاعها للحوار العلمي الجاد. وإذا كانت مفاهيم «المرجعية الدينية» و«نيابة الإمام المعصوم» و«ولاية الفقيه» و«الاجتهاد» و«التقليد» و«الرجوع إلى رواة الأحاديث» و«الاحتكام إلى الفقيه» في المذهب الشيعي من ثوابت عصر الغيبة (غيبة الإمام الثاني عشـر)، التي تقود إليها الأدلة الشرعية والعقلية؛ فإنّ هياكلها وأنساقها وتفاصيلها التقليدية الموروثة تظل دائماً من المتغيرات، والتي تفرض متطلبات الواقع والمستقبل ضرورة إعادة النظر فيها، وتعديلها وتطويرها.

والإحساس بهذه الضرورة حمل الكثير من الفقهاء المتأخرين والباحثبن المتخصصين، على إضافة مصطلحات جديدة لتوضيح مدلول المرجعية المعاصرة، ومحاولة إعادة تنظيم بنائها، ومنها «المرجعية الرشيدة» و«المرجعية الموضوعية» و«المرجعية القائدة» و«المرجعية المؤسسة». وهذا يعني أنّ منظومة المرجعية والمؤسسة الدينية، فيها كثير من المرونة والقابلية على المراجعة والتجديد والتحديث في آليات عملها.

والمقاربة التي نحن بصددها هي تصورات عامة في الطريق، أمّا الحوار العلمي التخصصي حول شكل المشروع وسبل تنفيذه؛ فهو شأن المعنيين من الفقهاء المجددين وأهل الخبرة. ويتطابق مستوى نضوج المشـروع مع حجم وعي المتخصصين بمتطلبات العصر، والتي ينبغي ألّا تؤثر فيه الأجواء الانفعالية، والميول النفسية المحكومة بظرف معيّن، أو مصلحة خاصة؛ ليكون القرار بهذا الشأن على مستوى المصلحة الإسلامية العليا.

إنّ من أهم القضايا التي تطرح خلال الحديث عن بنية «المرجعية الدينية» ومؤسساتها:

1ـ مأسسة المنظومة المرجعية ومتغيرات حركتها الخاصة والعامة، وفقاً للحاجة ومتطلبات الحاضر والمستقبل، بما في ذلك آليات تحديد شروط الاجتهاد الجديد، وكيفية الكشف عن مصاديقه وشخوصه، وفرز مراجع التقليد، واختيار المرجع الأعلى.

2ـ تقنين سياقات علاقة المرجعية العليا بولاية الفقيه ومرجعيات التقليد والفقهاء في البلد نفسه والبلدان الأُخر، في إطار منظومة مرجعية واحدة.

3ـ تجديد هيكلية الحوزة العلمية ومناهجها الدراسية ومراحلها.

4ـ تنظيم الحقوق الشرعية (كالزكاة والخمس وغيرهما) والولاية عليها وحق التصرف فيها.

وسبق أن تحدثنا في مقالات ودراسات سابقة عن كيفية نشوء المصطلحات والمفاهيم والبنى المتغيرة في إطار النظام الاجتماعي الديني الشيعي ومرجعيته ومؤسسته الدينية، وتبين أنّ كل المفاهيم والمصطلحات والهيكليات والتطبيقات التدبيرية التي تستجيب لمتطلبات الواقع وضغوطاته، هي من المباحات؛ بل من اللوازم والضروريات العقلائية، طالما لا تتعارض مع نص شرعي ولا يعيقها كابح شرعي، ولطالما تحقق مقاصد حفظ الدين والمذهب وأتباعه، وتطوير أدوات حركتهم. وأمثلة ذلك: استحداث مصطلحات ومفاهيم ومواقع كالمرجع الأعلم أو المرجع الأعلى أو المرجع المتصدّي أو سيد الطائفة أو زعيم الحوزة؛ إنّما هي إجراءات تدبيرية تنظيمية تنطلق من إشكالية وحاجة حقيقية، تتمثل في كون جميع الفقهاء حججاً على الناس، في زمن واحد ومكان واحد، في المجالات التي حددتها أحاديث الأئمة. وتطبيقات هذه الحجية تعني ولاية لجميع الفقهاء على إدارة المجتمع الشيعي دينياً وجزائياً واجتماعياً في الزمان والمكان نفسيهما. من هنا، سيكون وضع نظم وحدود من شأنها تأكيد الحيلولة دون حصول التعارض والتزاحم اللذين يؤديان إلى تشتت كلمة الأُمّة وفرقتها؛ ستکون ضرورة عقلائية لا بد منها في كل زمن.

وبما أنّ أكثر هذه المفردات يمثّل عناصر تدبيرية مستجدة باتت الحاجة إليها تبرز بمرور الزمان، ولم يعالجها الفقه من قبل؛ فإنّها بحاجة إلى حركة اجتهادية تجديدية تدبيرية واسعة النطاق، لتبيين تفاصيل النظرية وأساليب تنفيذها. وهنا تتفاعل العملية الاجتهادية مع حركة الواقع، على اعتبار أن تلك التفاصيل خاضعة للتطور، حسب متطلبات العصر.

 

latest video

news via inbox

Nulla turp dis cursus. Integer liberos  euismod pretium faucibua

Leave A Comment